الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - الفتوى الترنسفالية
(حكم أكل الموقوذة ولباس القبعة)
إن مجال تقرير الأحكام في الفقه الإسلامي في هذا العصر، وفتوى الناس فيما يقصرون عن معرفة حكم الله فيه، يتطلّب من المنتصب لهذا المهم تحريراً لمناط الحكم، وتحقيقاً أو حرصاً على إيراد الأدلة القوية الثابتة على صحّته باستمدادها من الكتاب والسنة، وعدم معارضته أو مناقضته للقواعد العامة المعتبرة في الشرع، وأن تكون فتواه بما يراه أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً، وأنفى للحرج على المسلمين. وذلك مع الالتفات إلى مقصد الشارع من الحكم وإلى حكمته في تشريعه. وهذا هو منهج المحقّقين من الفقهاء المجتهدين في الدين، الملتزمين بالحق، لا يثنيهم عمَّا قام عليه البرهان لديهم أيُّ رأي أو اتجاه مخالف مهما كان مصدره، ولا يمنعهم من الإعلان عما توصلوا إليه بعدَ النظر، وأيقنوا أنه الحق الذي تطمئن إليه نفوسهم، وإن نازعهم المقلدون هذا الرأيَ، أو خالفهم فيه العابثون بالدين، المناوئون لهم، المتحاملون عليهم.
وأمام تعدد الآراء واختلافها قديماً وحديثاً، وعدم الانصياع أحياناً كثيرة لما هو مقتضى الدرس، ونتيجة البحث والتبصر، وأمام غلواء المكابرين والمعاندين، ورفضهم كلّ الآراء في القضايا المستجدّة إذا خالفت ما اعتادته العامة أو أنكرته الخاصة من المقلّدة، بحكم التزمت والجمود، يبتعد الناس عن الصواب، وتنشأ النزاعات والفتن، وتحتجب الحقائق، وتنتشر الغَواية والضلال يحكمهما الهوى المتَّبَع.
ولتصوير منهج الإمام الأكبر في فتاواه، نقدم نماذج من آرائه المساندة لما يراه من حق، أو تقضي به الملابسات والظروف
والأعراف. فمن ذلك: موقف الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور من الفتوى الترنسفالية.
وَرَدَ على الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية من الترنسفال، أحدِ أقاليم اتحاد جنوب إفريقيا، استفتاءٌ ذو ثلاث شعب، من أحد المسلمين هناك، وقد كان السؤالان الأولان:
1 -
حكم لبس المسلم القبعة، لأن كثيراً من أفراد الناس في الترنسفال يلبسون القبعات لبعض مصالحهم، وعود الفوائد إليهم.
2 -
حكم أكل الموقوذة، ونحوها من ذكاة أهل الكتاب، لأن ذبح نصارى هذه البلاد مخالف للذكاة الشرعية عندنا، فهم يضربون البقر بالبلطة ثم يذبحونها بغير تسمية، وكذلك يذبحون الغنم بغير تسمية.
وذهب الأستاذ الإمام محمد عبده في إجابته عن السؤال الأول إلى أن لبس القلنسوة إذا لم يقصِد فاعلُه الخروجَ عن الإسلام والدخولَ في دين غيره لا يعدّ مكفّراً، وإذا كان اللباس لحاجة من حجب الشمس، أو دفع مضرة أو مكروه، أو تيسير مصلحة لم يكره ذلك لزوال التشبّه (1).
وقال في الإجابة عن السؤال الثاني: يجوز أكل ذبيحتهم تلك، لعموم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2)، ولأن الله سبحانه حين أباح لنا طعامهم كان أعلمَ بحالهم ونوع ذكاتهم (3)،
(1) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 676.
(2)
المائدة: 5.
(3)
محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 676 وما بعدها.
ويدل هذا على أن ذبائح أهل الكتاب حلال عند جماهير المسلمين، وإن لم يكن ذبحها على الطريقة الإسلامية (1).
ووَجَدَت هذه الفتوى معارضةً شديدة من بعض شيوخ العصر. وانقسم الناس حولها، وتحوّل الأمر من استفتاء يجيب عنه رجل مختصّ منتصب رسمياً لإرشاد الناس وبيان أحكام الدين لهم، إلى قضية خلاف ونزاع يبالغ في إنكار وجه الحكم فيها عليه خصومُه من المحافظين المتشدّدين يتّهمونه في دينه وعلمه، ومن السياسيين للنيل من سمعته والتحقير له، وهو زعيم الإصلاح بمصر، ورائد التحرّر الفكري، الداعي إلى الاجتهاد الذي يضطلع به بوصفه أكبر أعلام الأزهر الشريف، ومفتي الديار المصرية يومئذ.
وبتدخّل من ملك مصر الخديوي عباس، والتآمر بين رجال الحزب الوطني على المفتي، انقسم الناس واختلفت الصحف المصرية ووسائل الإعلام، بين مواجهة للمفتي، مندِّدة به، ومتحاملة عليه كالظاهر واللواء والمؤيد، وبين مناصرة ومؤيدة له، ومدافعة عنه كالأهرام والمقطم والمنار والوطن اليومية، أو التمدن والنيل والممتاز والرائد العثماني.
واشتهرت هذه الفتوى في ربوع العالَمين العربي والإسلامي، كما كانت سبباً في إثارة السياسيين والفقهاء عليه. فحمل هذا عدداً كبيراً من العلماء على إعادة النظر فيها، والتنبيه إلى أصولها ومراجعها التي اعتمد عليها الإمام.
وكان من بين أنصاره ومؤيديه في ذلك جماعة من علماء
(1) محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 678.
الأزهر، نشر لهم الشيخ محمد رشيد رضا مقالاً بعنوان إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية. ومن بين أفراد هذه الجماعة الشيخ أحمد أبو خطوة، والشيخ سعيد الموحي، وشيخُ رواقِ الحنابلة، وعدد من علماء المغرب العربي منهم الشيخ المهدي الوزاني كبير علماء فاس (1)، وأحد أعلام تونس الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور (2) الذي لم ينشغل عن فتوى الأستاذ الإمام، بل وقف موقف المحلل لها، المؤيّد لمضمونها بما كتبه فى المسألتين قائلاً فيهما:
أما لباس القلنسوة فحسبهم من حيث التقليد أن الفقهاء ما قالوا: إن لبس أي شيء من ثياب الكفار غير موجب للرِّدّة إلا أن يكون ذلك اللباس لباساً دينياً حيث تنضم إليه قرائن تفيدُ كثرتُها قطعاً بأن صاحبه انفسخ عن الدين (3).
وأما المسألة الثانية المتعلّقة بذبائح أهل الكتاب فهي ماضية بجملة من الأدلة:
1 -
سبقَ أئمةُ المالكية إلى القول بمثل ذلك. فهذا ابن العربي صاحب كتاب أحكام القرآن يقول في تفسيره لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} : إن الله سبحانه قد أذن في طعامهم، وقد علم أنهم يسمّون غيره على ذبائحهم، ولكنهم لمّا تمسّكوا بكتاب الله، وعلِقوا بذيل نبي، جعلت لهم حرمة على أهل الأنصاب. والتسمية عند بعض الشَّافعية ليست بشرط، وإن سمى النصراني الإله حقيقة لم
(1) محمد رشيد رضا. التاريخ: 1/ 674؛ تفسير المنار: 6/ 205.
(2)
محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 716.
(3)
محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 676 وما بعدها.
تكن تسميته على شرط العبادة، والتسمية على غير وجه العبادة لا تعقل وظن بعضهم أن أكل طعامهم رخصة. والرخصة حلّ تأصّل في الشريعة الإسلامية، فلا يقف على موضعه، بل يسترسل على محصّله كلها، كسائر الأصول في الشريعة، ثم قال ما محصّله: واختلاف تذكيتهم، التي يجيزها أحبارهم ورهبانهم، عن الذكاة الشرعية عندنا لا يمنع من أكل ذبائحهم، لأن الله تعالى أباح طعامهم مطلقاً، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه (1).
2 -
بنى الشيخ ابن عاشور هذه الفتوى على عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
…
} الآية، في حمله على كل ما ذبحوه، ممّا أحل الله لهم أو حرّمه الله عليهم أو حرّموه على أنفسهم، وهو ما ذهب إليه ابن عباس وتبعه عليه أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم وعبد الله بن وهب (2). ونقل بهرام عن ابن وهب جواز أكل ما ذبح للصليب أو غيره من غير كراهة نظراً إلى أنه من طعامهم (3).
3 -
الأخذ بما قرّره الحنفية في أصولهم من أن العام الوارد بعد الخاص يكون ناسخاً له، وعموم طعام أهل الكتاب وارد بعد ذكر المحرمات، فيشبه أن يكون وروده مورد النسخ بعد النص.
4 -
جعل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} معطوفاً على آية: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} من باب عطف الجملة على الجملة، وفيه دليل على أن طعام أهل الكتاب حلال متى لم يكن على
(1) ابن العربي. تفسير الأحكام: 2/ 553 - 556.
(2)
تفسير المنار: ج 6، ص 203.
(3)
تفسير المنار: 6/ 207.