الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطأ النظر. وإننا متى اقتصرنا في مناهجنا على ما أسسه لنا الأسلاف، ووقفنا عند ما حدّدوه رجعنا القهقرى في العلم والتعليم. أما إذا جعلنا أصولهم أسساً نرتقي بالبناء عليها، فإنا نستكمل ما فاتهم ونستدركه عليهم، وإن لم نحظَ بما فاتنا من علومهم ولو قليلاً.
رابعاً: سيطرة التقليد في العلم وهو ما نعاه الغزالي والباقلاني وغيرهما على كثير من العلماء والمؤلفين. ولا ننسى أن هذا المسلك أضرَّ بالعلوم الإسلامية. ومن ملاحظات الإمام الأكبر على هذا قوله: "وقد وجدت أن التقليد في العلوم هو الذي ينشىء الإعجاب لعالميها بما علموا، لأنهم ما قُلِّدوا حتى غالطوا أنفسهم، وظنوا أن ما علموه منزّه عن الطعن والخطأ. فأصبحت مناظرتهم وانصياعهم عما علموا شيئاً عسيراً". ثم قال: "والبؤس العظيم للأمة إذا تداخلت العوائد والعلوم، ومُوّهت بعض العوائد الضالة بطلاء الدين والأصول".
خامساً: سوء التفاهم، وبلوغ الخلافيات بينهم مبلغاً مشيناً، جرّدهم من الموضوعية، ودعاهم إلى التنابز وإشاعة التشنيع والسباب بينهم، فترتب على ذلك كله انقسامهم إلى فئات وشيع. ولو اتبعوا الحق وابتعدوا عن المكابرة في العلم لما نجم بينهم خلاف ابتداءً، إذ العقلاء يشتركون في صفة تَسُوقُهم رأساً إلى الحق وحده. ومثل هذا الخلاف بنتائجه ظهر بين المعتزلة والأشعرية في مسائل منها: صفات المعاني، وقدرة العبد، والحُسن والقبح.
أحوال التأليف والتصنيف:
أما الأسباب المؤدية إلى جمود التآليف أو تأخّرها فقد فصّلها الشيخ ابن عاشور في كتابه أليس الصبح بقريب (1)، وذلك بإثر عرضه
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 159 - 173.
لأحوال الدروس والمدرِّسين، وأحوال الفنون والكتب، وأحوال التلامذة. وبيّن في هذا المحل:
أولاً: أن فساد طريقة التأليف، وعنونة المسائل، وعدم ترتيب الكتب على درجات تراعى فيها أحوال الطلبة ومستوياتهم، تَرتَّبَ عليه تناقص التأليف، وبقاء الموجود سخيفاً ضعيفاً.
ثانياً: إثارة الأبحاث الجانبية استطراداً، وهي في الغالب غير متعيّنة ولا ذات جدوى، لكونها منصبة على ألفاظ المؤلفين من أجل تأييد المذاهب والآراء بدافع التعصّب والتحزّب. وقد تفشّى ذلك بخاصة عند الفقهاء والمتكلمين. ومن أمثلته الشائعة قضية خلق القرآن. وهي مسألة اقتضتها الرغبة الملحة في البحث. وجلبت هذه المسألة ومثيلاتها تهويلاً أيَّ تهويل على المخالف وتنابزاً بالألقاب واللوازم.
ثالثاً: عدم تطوّر التآليف، بل تدنّيها بسبب اقتصارها أحياناً كثيرة على ذكر القواعد والاصطلاحات، معزولة عما يركزها في الأذهان من شرح وأعمال تطبيقية أو تمارين. وقد ظهر ذلك بالخصوص في أزمنة انقطع فيها العلماء أو قلّوا. فأقبل الطلاب على الكتب المتوفّرة لديهم يستظهرونها. فلا يشحذ ذلك عقولهم، ولا يكسبهم الخبرة والدُّربة. ويعظم خطر هذا التقصير في التآليف في كتب تدريس العلوم العقلية واللسانية، وفي استبدال الأمثلة الصناعية الممجوجة والسمجة في كتبهم بالأمثلة والشواهد الهامة والمفيدة التي كانت تزخر بها تآليف العلماء السابقين المتقدمين.
رابعاً: سلب الحرية عن العلوم لاقتصار العلم في نظر الجمهور على نقل كلام السلف، وانحصار التآليف في نقل ما مضى من غير
بحث، بسبب هيمنة شيع متعصبة، يمجّدون آراء أساتذتهم وشيوخهم. فإذا تجاسر أحد على مخالفتهم عدّ مهوّساً. وهكذا انصرف الناس إلى خدمة كلام السابقين وتطويل المسوّدات والمناقشات في أفهامهم. وأصبح المبتكر عرضة للنكاية أو الاضطهاد، وناهيك بالمعترض على بعض المتقدّمين.
خامساً: إهمال المراقبة للعلوم بسبب إطلاق حرية الفكر ماضياً وحاضراً. وقد نشأ عن ذلك طمع من لا معرفة لهم ولا قدرة على خوض مجالاتها، أو الإدلاء بدلائهم فيها بوضع الرسائل والكتب، فأساؤوا للعلم وللمتعلمين. وهذا أمر يقتضي دون شك ذود الجهلة عنها، وصون العلوم من التحريف والتغيير والتبديل وسوء التأويل.
تلك هي النظرة الفاحصة لأحوال العلوم، وما لحق بعضها من نقص أو اختلال. وتصوير ذلك تصويراً عاماً يذكر أسباب التأخر فيها، كما قدّمها لنا الإمام الأكبر بعد حسن إحاطة منه بجملة العلوم، وإلمام بقضاياها، وطول مثافنة وتدبّر لها. ولم تكن الأسباب التي ذكرها محصُورة فيما ساقه منها، ولكن اكتفى في هذا المقام بإبراز أهم النقاط، يشهد لذلك قوله:"إن كثيراً من الأسباب قد غاب عني لكنه لا يكون أقوى مما ذكرت".
وهو بعد إجماله القول في هذا الغرض الذي يُقصد أساساً منه نقد أوضاع التعليم في عصره بجامع الزيتونة، رأى أن ما قدمه من ملاحظات بعيد عن حسِّ كثير من المدرسين، لكونه مع فوائده الكبيرة لا يمس، على التعيين، علومهم. فدعاه ذلك إلى وقفة جديدة يضع على المشرحة فيها العلوم المتداولة بينهم، وإن تفاوتت في الأهمية، واختلفت فيما نالها من استقرار وجمود، أو إقبال وإدبار من عامة الدارسين والناظرين فيها.