الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطاب المنهجي للإمام الأكبر
تضمّن الخطاب المنهجي عدّةَ أغراض ومحاور، أكدّ عليها ونوّه بها الإمام لارتباطها ارتباطاً جذرياً بإصلاح التعليم، مقدماً لها بما يشعر بماضي الأمة في الحضارة الفكرية الإسلامية، وحظّها منها، وذلك قوله: "لم يكن حظ الأمة التونسية في هذا المضمار من بين الأمم حظاً منقوصاً. فقد سايرت في ذلك تطوّرَ العصور تمهيداً أو إكمالاً، ونشطت في أحوال أورثت تكاسلاً وإقبالاً. فمعهدها هذا الجليل بأصله وفروعه ومدارسه المبثوثة في الحاضرة والإيالة
…
لم يزل مأوى تأرز إليه علوم الشريعة، وعلوم اللغة العربية، فكان وجهة الأولين لحفظ قوانين الشريعة أصولاً وأحكاماً، وغذاء حياة العربية كتابة وكلاماً".
وبعد أن أشاد بدور الزيتونة في مواكبة العصور نهضة وتطوراً، وَصَفَ دورها العظيم في الحفاظ على المقوِّمين الأساسيين للأمة التونسية: دينها الإسلامي، ولغتها العربية.
وتناول بعد ذلك النقاط الرئيسة لكل معهد علمي، وهي الطلبة، والمادة العلمية ومتطلباتها، والأساتذة. وأعلن:
أولاً: عن توجّهاته نحو طلبة المعهد، وعنايته بهم.
وثانياً: عن تقديره للدور المنوط بالأساتذة والشيوخ وبتجاوبهم مع الحركة الإصلاحية وتحملهم الأمانة كاملة.
وثالثاً: عن وجوب الاهتمام بالعلوم الموجودة بالزيتونة وتطويرها إلى ما ينبغي أن تكون عليه، وضبط البرامج، واختيار المناهج، والعناية بالتعليم في كل مراحله، حتى في المرحلة الابتدائية المهيأة للالتحاق بالجامع، وفي سائر المراحل وخاصة المرحلة الثانوية.
ورابعاً: عن عزمه على تفقّد المؤسسات العلمية التي تتكون منها الزيتونة، فيما تؤديه من رسالة، وتبلّغه من أمانة على الوجه الأقوم السديد إن شاء الله.
ولا بدع أن يكون الاهتمام بالطلبة وشؤونهم من أُولى وأَوْلى الواجبات ومن أمهات قضايا الإصلاح. "فالمتعلم هو القطب الذي تدور حوله حركة التعليم، والنصح له جامع غايات النظم التعليمية".
وتحدث الإمام بمناسبة نهاية العام الدراسي في توجّع وإكبار عما مرّ على التلامذة مروراً مُرًّا، إذ كان حلول ذلك العام عقب نهاية الحرب. وأقبل الطلبة فيه على العلم، وقد قلّت الأزواد ورقَّت الثياب، ورغم ذلك تجلّد الطلبة وصابروا.
وحمله هذا الواقع المرير على تدبّر الأمر لحل المشاكل قائلاً: "إن ما صرفناه من عزم وجهد وطموح وانكباب على البحث في حل المشاكل التي تعترض العاملين في سبيل الإصلاح الزيتوني ليدفعنا إلى العمل. وإني لأجعل في مقدمة ذلك النظر في مدارس سكنى الطلبة. وهي مشكلة عظيمة في حياة الطلبة من جهة قلّتِها وضعف مرافقها. وحسب السامع أن يعلم أن أكثر من نصف عدد التلامذة يلاقون عناء قاسياً من ذلك، على أن نظام المدارس مرتبط بنظام التلامذة في قَرَن. إذ لا يُستطاع ضبط أحوال التلامذة وصونُهم وتوفير راحة بالهم في مدة الطلب إلا بإبلاغ نظام المدارس الغاية التي تقتضيها أمثالها. وهذا يتوقّف على إصلاح الموجود وإيجاد المفقود. وقد سددنا الجانب الأول بإيجاد دائرة خاصة تابعة للمشيخة تختص بالنظر في تنظيم شؤون المدارس. وأما الجانب الثاني فأرى حقاً على الأمة أن تجعل للاعتماد على نفسها الحظ الأوفر في إقامة مصالح نشأتها.
لذلك بادرنا بتوجيه الدعوة لنخبة من أفاضل الأمة فكوّنوا لهذا الغرض جمعية الحي الزيتوني تداركاً للوضع وعملاً على إصلاحه".
وعرض الإمام الأكبر في خطابه الجامع هذا نظرته الإصلاحية للتعليم بالزيتونة، منبّهاً على نوعية الخريجين وصفاتهم وما ينتظر منهم قائلًا:"علينا أن يكون طلبة العلم في المعهد الزيتوني علماء بالأصول الإسلامية والآداب الدينية والأخلاق القويمة وعلوم آداب اللغة العربية، وما يتحصل بذلك من تاريخ الأمة وتاريخ أحوال وضعيتها بين الأمم المعاصرة لها في سائر عصورها وتاريخ رجالها". ولم يغفل هنا عن التذكير بما تمّت إضافته من العلوم الطبيعية والرياضية إلى العلوم الشرعية والدينية، مذكراً بأن المعهد لم يخلُ من طلب ما تكمل به مدارك خريجيه، تكميلاً يؤهِّلهم لمسايرة أحوال مجتمعهم.
ولتطور الأزمان واختلاف العصور اتجه سماحته اتجاهاً أرشد في إصلاح التعليم قائلاً: "لقد أصبح تقارب الثقافة بين الأمم ضربة لازب، وصار ما يعد تكملة موضوعاً الآن في عداد الواجب. ولذلك كله لم يغن التلميذ الزيتوني عن أن يضرب مع أمم عصره بسهم صائب. فلا بد أن يصعد في جو الثقافة الزمنية إلى مرتقى لا يقعد به عن مجاراة أرقى الأمم إحاطة بدلائل الحياة السعيدة، كما أنه لم يغنَ عن الأخذ بالنصيب الكامل مما يتناوله أمثالُه من علوم التبصّر، فلا يعدم بصَارةً بأحوال العلم تبصّر خريجي المعاهد الراقية. وبرامج ذلك توضع على وفق المناسبة للمراتب التي يُختار التلميذ إليها على وجه تحصُل به التكملة ولا يضاع معه الأصل".
وفي مكان آخر من هذا الخطاب التوجيهي، وبعد الذي تمّ من تحديد الدرجات العلمية للشهادات يقول: "علينا أن نكللها بضبط
البرامج الملائمة لها: من تعيين المواد والأبواب، والتآليف المقروءة، والساعات المقررة لذلك، وكفاءةِ من يوكل لهم رعيُ ذلك من مدرسين وقيّمين. وذلك جمعاً بين توفير المعلومات، ودقّة الأوقات، وراحة الأذهان، والدربة على العمل بالمعلومات".
وقد كان لزاماً أن يؤخذ إلى جانب ذلك بعين الاعتبار وضع الفروع الخمسة الزيتونية الموجودة بالداخل: بصفاقس وسوسة والقيروان وقفصة وتوزر. فقام الشيخ رحمه الله أولاً بزيارتها، ووعد بالنظر في إصلاحها وإخضاعها للنظام العام الذي عليه جامع الزيتونة وفرعه اليوسفي بالعاصمة، تطلعاً إلى أن تصير في مستقبل قريب منابعَ علم البحر الأعظم، بحرِ جامع الزيتونة بما يزيد من فيضه ويرفعُ من رتبته. وتوجَّه أخرى إلى مشكلة مستعصية كان يلتقي بسببها الملتحقون بالتعليم الزيتوني التقاء فوضوياً، غير مبني على أساس علمي أو بيداغوجي موحّد. ذلك أن مصادر الورود إلى هذا التعليم تنم عن تفاوت كبير بين التلامذة، إذ تعدّدت المدارس التي تخرجوا منها، وتنوّعت بين مدارس قرآنية، ومدارس رسمية، وكتاتيب أو زوايا. وكان من أولئك التلامذة من لم ينل من التعليم الابتدائي إلا حظاً زهيداً. ووعد الشيخ في هذا الخطاب ببحث هذا الأمر قائلاً:"وسنعد لهذه العقدة علاج حلِّها في مفتتح السنة الدراسية بمعونة الله".
وكان التفاته بعد ذلك إلى شيوخ التدريس والأساتذة يهيب بهم إلى توحيد الصف، وتضافر الجهود، والعمل على النهوض بمعهدهم، مخاطباً إياهم بقوله: "وأنا، حين أعرض هذا البرنامج الذي أراه خير كفيل لتحقيق آمالنا في الإصلاح، يخامرني اليقين بأنّي واجد من أبنائي السادة شيوخ التدريس ما أعرف منهم من تسهيل سبل هذا المُهم، بما يبذلون في إعانتنا من سامي الهِمم، لما أبدوه من