الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
يتهيب الباحث والدارس لشخصية مرموقة نادرة، كشخصية شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور، أن يكون ما يكتبه عنه دون منزلة من يترجِم له. وهذا أمر وعر جِدُّ متعذّر على من لم يخالطه أو يسمع عنه، أو يقرأ له ولم يتخرج به، أو ينقل عن لداته ما كتبوه من مقالات عنه وشهادات له، وهو أجنبي عن مدرسته القائمة على علمي الوسائل والمقاصد، وقوة النظر وصحة المدارك، مما خص الله به بعض عباده، فرفع بذلك درجاتهم، وجعلهم أئمة علم وأعلام هدى.
ميز الله تعالى هذا الإمام الجليل بما وفّقه إليه من التحرير والتنوير لكتابه العزيز الكريم، وبما رواه وحققه ونقده من أسانيد ومتون، أو دلَّ عليه من ضوابط وحقائق، وما حاط به سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من بيان شامل ذاد به عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
كان رحمه الله مرجعاً في العلوم الشرعية وهي المقاصد بقدر ما كان حجةً في الوسائل والعلوم اللسانية، كما سنبيّن ذلك. وهذا بما رَزَقَهُ الله عز وجل من فقه في الدين، وعلم بفروعه وأصوله، وبما جرى به قلمه أو نشره من فتاوى دقيقة مركزة ومعللة، مبنية على العلم
والفهم والفطنة والملكة الواسعة الأفق، وعلى استعماله وسائل البحث وآلات النظر، للخلوص في ذلك كله إلى ما يمكن الاعتداد به. فلم يكن يصدر إلا عن رأي صائب وحجة قاطعة وقول فصل.
وإنك بتتبعك لآثاره ووقوفك على تعاليقه وتحقيقاته، مُلْفٍ بما ذكرناه وما لم نذكره، عالِماً لغوياً، ونحوياً بارعاً، وناقداً بصيراً، وبحراً من الأدب، ذا مكنة في أسرار العربية، وجودةٍ في إبراز مقاصد الشريعة. فلا تكاد تجد له نظيراً بين علماء عصره، أو منافساً له فيما خصّه الله به إلا أن يكون هذا النظير والمناسب ممّن تخرّج على طريقته ونبغ نبوغه، وقليل ما هم.
وإن ما احتوت عليه هذه المقدمة من التعريف بصاحب مقاصد الشريعة الإسلامية لقليل جداً إزاء ما يتأكد العلم به. فهي لم تحقق إلا جزءاً من غرضنا، وهو تصوير شخصية العالِم والمفكر مترجمنا، وتقديمٌ موجزٌ عن كتبه وآثاره المطبوعة منها خاصة. وإن الواقف عليها لمكتفٍ بها على الجملة، لما تثيره في نفسه من أذواق وأشواق. وإن كانت لا تغني من لم يعلق شيئاً من ذلك قبل. ولذلك دعت الحاجة إلى إشارات وتنبيهات قدمنا بها شخصية المؤلف، مع ما لابسها من ظروف في حياته، أو مر بها من متغيرات سياسية، وتقلبات فكرية واجتماعية واقتصادية، كان لها جميعها أثر أي أثر في عصره. وأصبح من الضروري لإدراك كنه ذلك، وما ترتب عليه أن نقف قليلاً عند عينات مما حرّره وحبّره، أو درّسه وحقّقه. ومن ثم بات لزاماً التعريف بإنتاجه ليعلم طلاب العلم أيَّ رجل فقدوا، وأيَّ عالم ما زالوا يستفيدون من علمه، ويطمئنون إلى تقريراته وأحكامه في مؤلفاته. فبذلك نكشف عن جوانب الإمتاع والإبداع فيها، وعن استدراكه على ما انتهى إليه المتقدمون من حقائق العلم وجواهره.
ولذلك لا يمكن في هذه الحال أن نقتصر على ترجمة موجزة لا تصلح أن تكون طريقاً لإبراز منهجه، وسبيلاً للسير على دربه العلمي والفكري والخلقي.
فجعلنا هذا الكتاب ثلاثة أجزاء:
• الأول منها: في ترجمته، وبيان حركته الإصلاحية، والحديث عن مؤلّفاته. وقد اختصرنا الحديث عن الحياة السياسية سوى بعض نقاط تعرضنا إليها، خوفاً من البُعد عن الموضوع الأساسي والأصلي من ترجمته. كما أحلْنا في نقوله وتضميناته لكلام النقاد وعلماء البلاغة على شرحه للمقدمة الأدبية للمرزوقي، الذي تضمن إيراد ما أورده من ذلك من حفظه على عادة العلماء المتقدمين.
• والثاني: سايرنا به مقاصد الشريعة مضيفين إليها جملة من البحوث الأصولية لما يوجد بينها من علاقة. وفصّلنا الحديث عن منهجه في جملة ما وقفنا عليه من تحاريره العلمية.
• والثالث: هو كتاب المقاصد المتميز بمسائله وبحوثه، والذي رأينا أن نخصه بشيء من الاهتمام. وهكذا قمنا بتحقيقه ونشره بعد إقامة نصه، والتقديم له والتعليق عليه، طمعاً في أن يكون أمره ميسوراً على من يقف عليه من الطلاب والمراجعين والدارسين، كما بذلنا الجهد في ذكر ما عناه من إشارات أو مراجع بالإحالة عليها وتفصيل القول فيها أحياناً، جاعلين في نهايته فهارس تكشف عن مادته وأغراضه جملة وتفصيلاً.
وإني في نهاية التعريف بأجزاء الكتاب الثلاثة لأتقدم بعظيم الشكر وأجزله لحضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر، حفظه الله ورعاه، وذلك على تفضله بالإذن بطبع هذا
الكتاب على نفقته. وإني لأشكره عن معرفة بقدره، واعتراف بحقه، وإعظام للنعمة فيه، واعتداد بالمنة منه.
وإني لأذكر بغاية التقدير والشكر كل من أمدّني في هذا المهم بآرائه، وملاحظاته، من الأساتذة الشيوخ أمثال أصحاب السماحة الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وسماحة الأستاذ الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية سابقاً، والعالمين الجليلين صاحبي الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الغزالي، والأستاذ الشيخ محمد الشريف الرحموني جزاهم الله عني خير الجزاء وبارك فيهم.
ولعلنا بعد هذا الجهد نبلغ بعض غرضنا من خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية للإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور، تغمده الله بغفرانه، وأغدق عليه شآبيب رحمته ورضوانه.
* * *