الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبي الخصال يقول في تعليقه: هو الذي أثار الفتنة بقرطبة. ويقف عند قول الفتح: "مستقلًّا" فيشرحها بقوله: أي قائماً. ويعلق على كلام القلائد: إلى أن تورّطوا في تلك الفتنة التي ألقحوا حائلها، فيذكر أخبار الفتنة والصراع. كما ينبّه إلى المقصود من قول الفتح: وطمعوا أن يغتالوا من أمير المسلمين ملكاً معصوماً، قائلاً: هو علي بن يوسف بن تاشفين. ويشرح جملة من التراكيب كقوله: "والبيت قد غصّ، وإن أبقى عليَّ درَكاً وبوّأني دَرَكاً
…
ولا كلُّ إشراف بإشراف"، وقول ابن خاقان: وكثيراً ما يمتدّ شططه، فتحذف نقطه، ويهجر نمطه، وإن سامحناه في الضبط وأمتعناه بالنقط نبذ الوفاء فحذفنا ألفاً، وجفا الكريم فألغينا الميم (1).
وقد يتعرض إلى تأويل سابق أو رأي فيما هو بصدده. فيقول معلّقاً على "وله بعد ما بقي ما أُلقِي" فيقول: لم يظهر المراد من هذا، وتكلّف له ابن زاكور بما ليس بمقبول (2). وعلى هذا النحو جرى في تعقيباته الستة والستين على كلام الفتح في رسم ابن أبي الخصال فلينظر ما فيه هناك.
وعَقِب نصوص تراجم قلائد العقيان وضع المحقّق فهارس ثلاثة: فهرس الشعر، وفهرس الأعلام والقبائل، وفهرس الأماكن والبلدان والأشياء.
* * *
شرح المقدمة الأدبية للإمام المرزوقي
شرح الشيخ ابن عاشور المقدمةَ الأدبية التي كتبها الإمام أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، ممهّداً بها لشرحه لديوان
(1) القلائد: 426 - 427.
(2)
القلائد: 427، تع:33.
الحماسة اختيار أبي تمام. وقد وصفها شيخنا الإمام الأكبر بما يبرز حقيقتها، ويحدد منزلتها، ويبين أثرها بقوله:
"فقد كانت خير رائد لمنتهج روض الفصاحة، وأبصرَ مقدمة لجحفل البلاغة. تفتح لمقتفيها ما استعصت به خفايا النكت من الصياصي، وتمكن بيد متقنها من جياد السبق أجفل النواصي، إذ كانت أحاطت بمعاقد الأدب، وتعاطت بمحجتها أفنانَه فتدلّى يانعُ ثمره واقترب".
ولِمَا توفَّرت عليه من الأهمية بحسب موضوعها وأغراضها، ومنهج المرزوقي فيها، تعلّقَ بها البلغاء والنقّاد، وتطلّعوا عن طريقها إلى التعرف على قوانين في القول، معيدين النظر فيها، متدبّرين جملة ما انتظمته من أحكام، وفصّلته من حقائق علمية وقضايا فنية وذوقية. وهي لذلك كما قال شيخنا في مقدّمة شرحه لها، جديرة بما يَنشرُ مطاويها الوفيرة الأغراض، ويصدّق شيْم من اتبع صوب بروقها المتكررة الإيماض، إذ هي من قبيل اللَّمحة الدالة، والخريدة الملتحفة غير المتجالّة. فهي خليقة بفسر كثير من معانيها، إذ كانت مفرغة في دقة صياغة، ولو أخذت على غرها لم يدرك غورَها سوى الراسخين في البلاغة.
وهكذا لما انكشفت له أسرارها، وتراءت له منزلتها وفرائدها، عقد عزمه على تجليتها لطلاب الأدب، وعني بها عناية فائقة بتوضيح دقائقها، مستخدماً في ذلك عمق معرفته باللغة والآداب، ومنبّهاً إلى آراء العلماء والبلغاء والكتاب والشعراء، سائراً في شرحه هذا على النهج القويم الذي تعوّده، وتمكّن منه الأئمة السابقون، مكتفياً في بعض المواضع بالإحالة على كتب الأدب.
فهي جملة من الفنون لا يدركها إلا من دُبجت لهم من طلابها، ولا يجاريها أو يرتع في ميادينها إلا كل حاذق مفن من المترسلين والشعراء الذين يدركون بنظرهم وطباعهم ما احتوته الآثار الفنية الأدبية من معان، ويؤكّدون ما ورد بها من نظريات وأصول وقواعد ونماذج في اللغة وعلومها، والبلاغة وأسرارها، ويُجلون للمتأدبين ضروب العمل الفنّي من نثر ونظم وخطابة وكتابة.
ولارتباط شرح الإمام للمقدمة بكل ما حوته أو دلت عليه قوانين اللغويين والبلغاء، وما تنطق به من آراء واتجاهات فنية وأدبية، يتعين على الدارس أن يقرأ المقدمة مجرّدة عن الشرح، ليتصوّر أغراضها ويحدّد عناصرها، ثم يُتبع بذلك النظر في شرح هذه الرسالة العلمية النقدية ليجد فيها طلبته ويبلغ بها حاجته، ويصل عن طريقها إلى أسباب النجاح في الفنين، والقدرة على الترسل والنظم، بتنمية فطرته وشحذ قريحته وصقل مواهبه.
ولكل من تخير النثر أو الشعر سبيل. فإذا حذق الأديب أحدهما قصر به عن الآخر سعيه، وحيل بينه وبين التفوّق فيه. وإذا الناس والمبدعون في صناعة الكلام أجناس: منهم الكتاب البلغاء، ومنهم الشعراء المبدعون. ولا يستطيع أكثر المترسّلين أن يجيدوا الشعر، ولا غالبُ المهرة من الشعراء أن يقدروا على إنشاء الرسائل والكتب. وتمايزت الفئتان كل واحدة بما خصّت به وبرعت فيه. وكان التنازع والتنافس بينهم قائماً دائماً. "ذلك أن مبنى الترسّل ومبنى الشعر مختلفان، والمتولّي لكل واحد منهما يختار أبعد الغايات لنفسه فيه
…
واختلفت الإصابتان لتباين طرفيهما وتفاوت قطريهما". فالعناية بأحد الأسلوبين وإجادته تُباعد الفكر حتماً عن الاهتمام بالآخر والاشتغال به. ولم يُقدَّر الجمعُ بين الفنيْن إلا لطائفة قليلة من
الأدباء بسلوكها نظامَ البلاغة وظهورها فيه في المنظوم والمنثور. ذكر المرزوقي من بينها أعلاماً كالصولي، وأبي علي البصير، والعتّابي، وضم إليهم الإمام الأكبر جماعة ثانية برزت في الترسّل والنظم جميعاً، منها من ذكره الجاحظ في بيانه، وابن رشيق في عمدته، مثل محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب، وسعيد بن حميد، وأبي الحسين بن الخلال المهدوي، وزاد في لآلىء هذا العقد لسانَ الدين بن الخطيب.
وآثار هؤلاء جميعهم ومَن خَلفَهم من أصحاب البيان إمّا معدودةٌ من المطبوع: "وهو الشعر الذي يصدر عن الشاعر بالسجيّة والطبيعة الناشئة عن تدرّبه بسماع أشعار البلغاء، واندفاع طبيعته لمحاكاة أشعارهم حتى ليكون الشعر البليغ الصادر عنه كالطبع، فلا يَصرف فيه تعمُّق رويّة، ولا معاودة تنقيح وتثقيف".
وإما أن تكون من المصنوع "الذي دخلته الصنعة من تهذيب وتنقيح للشعر، وإبداع للمحاسن البديعية واللطائف اللفظية". وهذا يكون بالاعتماد على القواعد والنكت، وصور الأمثلة لما تلقَّوه أو لقّنوه بالتعليم، فيعتبرون تلك نماذج يُحاكونها وأمثلةً يسيرون عليها.
وإذا كانت الدعامة الأولى لكتاب ديوان الحماسة لأبي تمام هي اختيارات حبيب بن أوس الطائي نفسه الموفّقة، يلي ذلك سعة علم الإمام المرزوقي شارح الحماسة، وعمق نظره، وتقحّمه المعجب لعلوم اللغة وفنون الأدب، وإثارته عرض شرحه لمكنوناتها، ثم نباهة الإمام الأكبر البادية في تحليله لنصوص المقدمة وشرحها، واستكماله ما تدعو الحاجة إليه من حضور جملة من الحقائق والأوصاف حضوراً ذهنياً يعين على سعة النظر وجمع كل ما تتطلبه المقولة أو الجملة من أغراض ومعانٍ: أوائل وثوان.
ولعل تقدير المرزوقي لديوان الحماسة وولوعَه بما ورد فيه من مقطّعات يؤكد ما أجمع عليه النقاد من أن حماسة أبي تمام جمعت أبدعَ وأهمَّ المقطّعات الشعرية مثلما جمع الضبي في مفضلياته أَعلَى القصائد روعة وإبداعاً. وهذا التقدير بل هذه النظرة المتميّزة عند المروزقي لاختيارات أبي تمام هي التي حملته على شرحه وتفسيره لها، كما أنها حدت به إلى التنويه بصنيعه، والتنبيه فيه على أصول النقد، مما اعتمده المتخيّرون للنظم: مقطعاته وقصائده، وفق المنهج العلمي الذي عرفه أهل اللسان بفضل علمهم وإحاطتهم بأحكام اللغة وأسرارها، ودربتهم وممارستهم لفن القول. فذهب يقول:"هذا الكتاب وإن عظم حجمه وكثُر ورقه، فإنه لا يُمَلُّ تصفُّحهُ وقراءتُه، إذ كان كل باب من أبوابه ذا فنون من آثار العقول الصحيحة والقرائح السليمة، ولأن غوامض المقاصد إذا تبرّجت لك في روائع المعارض، وأقبل فهمك رائداً لقلبك، يتشمّم نوادر الزهر في مغارس الفطن، ويتخيّر فرائد الدرر من قلائد الحكم، فكلما ازداد التقاطاً زادك نشاطاً".
وأحسب المرزوقي في هذه الفقرة يعني شيخنا، لما سخّر له نفسه من تدريس هذا الكتاب وشرحه سنوات عدّة بجامع الزيتونة الأعظم، ولما علّق به على مقدمته من تعاليق مفيدة، جمعت الفرائد إلى الشوارد، وهيأت لدارس شرح المرزوقي أصولاً ومعارف، وجوانب نقدية وبلاغية، وصوراً رائعة من فنون النظم والنثر ألمع إليها المؤلف واختارها لتكون عند دارسي الأدب من مقوّمات الثقافة الأدبية والنقدية. وربما تأكدت الصلة بين شارح الديوان وشارح المقدمة لما التزماه واتفقا عليه من آراء وأفكار، واعتمداه من أصول وأنظار، تُكسِب القلوبَ استجلاء، والنفوس مَيْلًا واستحباباً. وقد
استمرت بينهما هذه الرابطة زائدة نامية، ودامت دوام فوائد هذا العلم قائمة باقية.
وشرح المرزوقي - كما وصفه محقِّقهُ عبد السلام محمد هارون - ليعدّ أكبر شروح حماسة أبي تمام، وأكثرها عناية بمعاني الشعر وبالنقد والموازنة. وأن المقدمة التي وضعها مؤلّفه بين يدي هذا الشرح لهي مقدمة نفيسة جريئة تُعَدّ وثيقة هامة في تاريخ النقد الأدبي: نقد الشعر ونقد النثر. وقد ضمّنها مسائل شتّى تتعلق بموازنة النظم والنثر أيهما أشرف وأعلى قدراً. وأتبع ذلك كلامه على المقايسة بين منزلة الشاعر والكاتب، والعلةَ في كثرة الشعراء وقلة النثار، ولماذا لا يستطيع الأديب أن يجمع الإجادة في الفنيْن، والحديث عن أثر الصنعة والطبع في الآثار الأدبية، في قيمتها وفي جمالها، ومتى تستحسن الصنعة، وما مدى العلاقة بين ذوق الأديب فيما يصنع بيانه من إنتاج أدبي، وفيما يختار من بيان غيره".
وفي هذه الجملة تصوير عام لموضوعات المقدمة وما اشتملت عليه من مسائل، مهّد لها شارحُ الحماسة بإشارات، هي عنوان لما بثّه في مقدمته من آراء وموضوعات وعالجه من قضايا. وقد جعل الطريق إلى ذلك أولاً التساؤل الذي أجراه على لسان صاحب له متأدب، فيما جاراه فيه وحادثه به. فهو يتقدّم بقارئه عن طريق ترتيب شارح الحماسة لأسئلته ومحاوره وإجابته عنها من غرض إلى غرض، ومن موضوع إلى موضوع: باحثاً أمرَ الشعر وفنونَه، وما ناله الشعر في الجاهلية وما بعدها من حَظوة، والتساؤل عن شرائط الاختيار له والانتقاء منه، وكذا التمييز بين النظم والنثر، وما يحمد ويذم من الغلوّ أو القصد في الشعر، ثم معرفة قواعد هذا الفن التي يتأكّد الكلام فيها وعليها، ووجوب تأخير الحكم على أهل الصناعة فيها إما
بالإساءة أو الإحسان، حتى يتمّ فحص أشعارهم والتأمّل في مآخذها وإدراك مدى شأوهم فيها.
وقد ذكر في بداية حديثه الأسبابَ التي حملت المؤرخين والأدباء على التنويه بفنّ الشعر وبأصحابه قائلاً: "إن الله عز وجل قد أقامه للعرب مقام الكتب لغيرها من الأمم. فهو مستودع آدابها، ومستحفظ أنسابها، ونظام فخارها يوم النفار، وديوان حجاجها عند الخصام".
ولكثرة ما روي منه جيلًا بعد جيل، واختزنته ذاكرة الأيام زمناً إثر زمن، احتاج العلماء بالأدب، والبصراء بالشعر، إلى صقل مواهب الناشئة بما يختارونه لها من شعر رفيع ونظم بديع. وهذه العملية المزدوجة التي قادت الرواة والأدباء إلى وضع المنتخبات والاختيارات، حرصاً منهم على التكوين والتدريب لمنظوريهم من شداة الأدب، وعلى تقديم ما يروق لهم منه، عنايةً بهم وتلقيناً لما يَصْطَفُونه من الشعر، تهذيباً لأذواقهم وتوجيهاً لهم.
وقد عدّ مؤرخو الأدب من هذه المجاميع جملة ذكروا منها الأصمعيات، وجمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، والمفضليات ومختارات شعراء العرب لابن الشجري، كما لفتوا النظر إلى ما شرعه أئمة الأدب ورواد الشعر من حماسات، اجتمع الناس عليها وأفادوا منها كحماسة أبي تمام، والبحتري، وما جمعه من ذلك الخالديان والعسكري والأعلم الشنتمري وأبو الحجاج يوسف البياسي الأندلسي وأبو الحسن بن أبي الفرج البصري. ولعلّ أشهر المجاميع المفضليات، وأجود الحماسات حماسة أبي تمام. وقد صرّح المرزوقي بذلك عند قوله: "وقضيت العجب كيف وقع الإجماع من
النقاد على أنه لم يتّفق في اختيار المقطعات أنقى مما جمعه أبو تمام، ولا في اختيار القصائد أَوفى مما دوّنه الضبّي في مفضلياته".
ومما لا شك فيه أن إجماع النقاد هذا، وما كان يتميّز به الإمام المرزوقي من معرفة بوجوه الكلام والنظم، والتصرفات القولية، وبإدراكه الدقيق لمحاسن ومساوىء الصناعتين، وتصنيفه حسب ذلك للكتاب والشعراء مميّزاً بين درجاتهم، وكذلك تصوره وبيانه للحد الذي يؤهل القارىء والسامع لفهم الأدب ونقده شعره ونثره، حتى يتمكّن الناظر من تجريد الشهادة في شيء منه، وَيبُتَّ الحكمِ له أو عليه، عن دراية سابقة وخبرة تامة، لهي المزايا الأربعة: الأولى اتصلت منها بالشعر وبأبي تمام، والثلاث الباقية الكاشفة عن قدرات المرزوقي العلمية والذوقية، البلاغية والنقدية التي جعلته يقصرُ ما يستفضله من وقته، ويستخلصه من وكده، على عمل شرح لاختيارات أبي تمام في ديوان الحماسة.
وقد كان هذا العمل العلمي الأدبي الممتع، والبالغ غاية الجودة، مقتضياً من الدارس الوقوف على كل فصل من فصوله والاستغناء بما ورد فيه من قواعد وأحكام يجلّيها لنا مؤلفه أحسن تجلية، ويفصل القول فيها بعد الإشارة المجردة إليها وتقديم الذكر لها، فيتعرف الناظر من المقدمة على أبرز الموضوعات التي بحثها الشارح، وإن كانت في ذاتها كثيرة ومتعدّدة.
ولو أردنا أن نتتبع القضايا المبحوثة ومتفرعاتها في المقدمة الأدبية لخرجنا عن الحد المألوف في تقديم الكتب والتعريف بها. ولذلك حرصاً على الوفاء بهذا الغرض نكتفي بتناول عناصر أربعة، هي: