الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخلاق والقيم التربوية في الإسلام
تقديم للأستاذ الدكتور علي خليل أبو العينين أستاذ أصول التربية الإسلامية ووكيل كلية التربية- جامعة الزقازيق- فرع بنها
أ- تمهيد:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
…
فإن الله ميز الإنسان عن غيره من الكائنات التى تعيش معه بأنه كائن أخلاقى أي مدرك للقيم الخلقية، قادر على الإتيان بها وفعلها، قادر- بإذن الله- على بناء عالم داخلى له يسلك على مقتضاه بعلم واقتدار، ولعله لهذا السبب وضع فى مكانة سامية لم يصل ولا يصل إليها أى كائن آخر، فهذا الإدراك وهذا الفهم وهذا الوعي هو الذي أهّله لشغل تلك المكانة التي يتقلدها باقتدار، بل هو الحد الفاصل بينه وبين غيره.
وقد شاء الله تعالى أن تقوم حياة المجتمع الإنسانى على أساس معيارى، يعكس حياة معنوية يمثلها الأفراد، تتميز بالقوة والأصالة. تفسير ذلك أن المجتمع يتمثل ويتجسد من خلال نظام مكون من الأعضاء والوظائف، يميل إلى الاحتفاظ بذاته بعيدا عن العوامل الهادمة التى تهدده من الداخل أو من الخارج. ومن أجل ذلك يميل الأفراد فى اتصال مشاعرهم الفردية أن يكون هذا الاتصال تعبيرا عن روابط متقاربة تتيح الفرصة لاتصال جيد، وتؤكد مناخا جيدا لتواصل منتج، وبالتالى تتاح الفرصة لتلك المشاعر أن يؤثر بعضها فى البعض تأثيرا إيجابيا، ومن ثم تنبعث حياة نفسية من نوع آخر يختلف عن حياة الفرد بصورة خاصة.
والمجتمع الإنساني في عمومه «لا يتكون دون وجود هذا البناء المعياري، وهو بالإجمال أفكار تنطوي على صورة الحياة الاجتماعية، وتتضمن الملاحظات التي تتعلق بها، ويحمل البناء الخطوط الأساسية لتلك الحياة وتطورها» «1» . وهذا البناء المعياري هو قواعد للسلوك، هى بالأحرى مقاييس من خلالها يحكم على السلوك بأنه مقبول أو غير مقبول، وتشكل فى النهاية نوعا من التحديات الثقافية للسلوك المرغوب فيه، وتعطي الفرد كما تعطي المجتمع شكله وشخصيته وهويته، وهذا كله يضمه ويحتويه معنى القيم الخلقية.
وتعتبر الأخلاق صورة المجتمع، لأنها الضابط والمعيار والموقف الأساسي للسلوك الفردي والاجتماعي، أو القواعد الأساسية الممنوحة من الله للإنسان لتنظيم حياته، وهي تنتظم فيما يسمى بالبناء الخلقي أو النظام الخلقي
(1) محمد نور: الإنسان ومجتمعه- القاهرة- 1984، ص 26، 27.
الذي يعكس أهداف المجتمع، ومصادر تكوينه وطبيعة بنائه.
والمجتمع الإسلامى له أخلاقه التى تضبط وتحدد السلوك، بمعنى أن له بناءه المعيارى، الذي نبع فى الأساس من المصدرين الأساسيين: القرآن والسنة المطهرة، فالقرآن بما أتى به من مكارم الأخلاق التي تجسدت فى شخص الرسول الكريم وترجمت فى أقواله وأفعاله هى المصدر الأساسى المعتمد للقيم فى المجتمع الإسلامي.
إلا أن هذا المجتمع يعيش- فى الأزمنة المعاصرة- مشكلات متراكمة مستعصية، أبرزها تردده بين قطبين، فهو ينجذب نحو حياة معاصرة بما فيها من إنجازات مادية وفكرية لابد أن يتعايش معها ويفهمها ويعيها من ناحية، وتشده ذات متأصلة أصيلة لا يمكنه الفكاك منها من ناحية أخرى، وقد سحبت هذه الإشكالية- بالذات- ظلالها على كافة مكونات حياة الإنسان المسلم المعاصر، بما فى ذلك عماد حياته وهو القيم الخلقية، حتى غدت الشغل الشاغل للمفكرين المسلمين، وكما عبر عن ذلك أحد مفكريها بقوله:«ولعل أكبر قضية تواجهنا هى انقطاع صلتنا بمصادرنا الحضارية التى نستمد منها كل عاداتنا وتقاليدنا، ومسلكنا الخاص والعام، فعلاقتنا بتراثنا علاقة تقليد سالب يتوارثه الخلف عن السلف، ولذا جمدت شخصيتنا، وجمد النظر إلى تراثنا الذى هو بمثابة السياج لتحركنا الفردى والجماعي، لأننا نتدراسه ولا نتأمله ولا نجيل فيه النظر، ولا نجرى فيه من التحوير والتطوير بما يتلاءم وتغير الأحوال والظروف، فظلّ حبيس الكتب فى معظم الأحوال، وحبيس الذاكرة فى بعضها لقرون طويلة» «1» .
إن الغزوة الاستعمارية أبدلت المثقفين ثقافة بثقافة، ولهذا ظل تراثنا بعيدا عن الحياة الفاعلة، وانقطعت عقول المفكرين عن التعامل معه وإخصابه بالتأمل والاجتهاد والتلاقح بتيارات الفكر المعاصر، وبالتالى فقدت كل المؤسسات الاجتماعية المنبثقة عنه حيويتها وانفعالها، وفعاليتها، وجفت صلتها بالحياة، ومن ثم أهملت لتحل محلها مؤسسات وأفكار أخرى كان من نتيجتها ازدواجية فى الحياة وفى الفكر انعكست آثارها على حياة المجتمع والأفراد» «2» .
إن أبعاد هذه الإشكالية وآثارها واسعة عريضة، وفى مجال الأخلاق على وجه الخصوص، ولذا فإنه من الملح الآن وللمستقبل القريب والبعيد، وبعد معايشة التجارب، تلمس بناء تربويا يستند على أهداف قوية وصحيحة وسليمة، تستلهم قيم الأمة، القائمة على أصالة حقيقية تمتلك من مقومات الذات الأصيلة روحها فى غير انغلاق أو حرمان من إمكانيات العصر ومقوماته وثماره، ولا بد من إعادة القيم الخلقية الإسلامية إلى مكانها الصحيح، فى إطار التكامل بين الدين والدنيا، لتحقيق الوسطية التى هي حقيقة الإسلام، لأنه إذا انفصل الدين
(1) عون الشريف قاسم: الإسلام والثورة الحضارية، بيروت، دار القلم، 1400 هـ/ 1980 م، ص 26 (بتصرف) .
(2)
المرجع السابق: ص 27.
عن الدنيا انشطرت الشخصية الفردية وتداعت علاقات المجتمع، وحدثت هزات وهزات فى المجتمع والفرد على السواء.
وإذا كان مفهوم الاستقلال الذاتى من المفاهيم القوية السائدة فى المجتمعات المعاصرة، إذ أصبح يؤكد فى كل مجالات النشاط الإنسانى وحركته «على الخصائص الذاتية المميزة لشخصية المجتمع» مما يعني «تأكيد الهوية الثقافية» فإن الملاحظ أن المجتمع الإسلامي المعاصر يعانى من قصور فى تأكيد ذاته وهويته الثقافية، إلى جانب معاناته من قصور فى الوسائل الحضارية والمادية، ولعل هذا يعود فى معظمه إلى معاناته الحقيقية من تخلخل البناء المعياري القيمى، واهتزاز نسق القيم الخلقية، وبالتالى اختلال واضطراب فى الأهداف التربوية، التى تتأرجح بين مثالية ومادية، مثالية طموحة، وواقعية أو مادية مخلخلة مضطربة، وبتعبير أصح هو انفصام بين التصور والواقع المعاش، بين الغايات والوسائل.
ومما زاد فى تفاقم الأمر تعرض العالم المعاصر لموجة من الاهتزازات الخلقية المتناقضة، وتتمثل فى مظاهر متضاربة ومتناقضة من الممارسات وأنماط السلوك الفردية والسياسية، والاجتماعية. التى تسلب الأفراد والجماعات السعادة والأمن والأمان والاستقرار، بل تضعف العلاقات فى ميادين الحياة المختلفة، ولقد أعطت التسهيلات المادية التكنولوجية الحديثة هذه الهزات والفجوات صفة العالمية، ولم يعد بمقدور مجتمع ما إغلاق منافذه أمامها أو النجاة منها» «1» .
إزاء كل ما سبق، وفى سعي المجتمع الإسلامي فى تعدده وتنوعه إلى تحقيق الذات، والبناء الذاتى المتميز القادر على العطاء والإبداع، وتأكيد الهوية والشخصية، فإنه يمكنه أن يؤكد ذلك من خلال أهم ما يميزه وهو القيم الإسلامية النابعة من المصادر الأصيلة، والعلاقات الإنسانية التى يحاول التمسك بها، وأهميتها لا تنكر للمجتمع وللتربية، إذ أن القيم والأخلاق أهم عناصر العملية الاجتماعية- التربوية-، ويلاحظ أن ظهور القيم- عند البعض- هو الحد الفاصل بين الذاتية والموضوعية، وبين الحقائق والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول واللامعقول. ومع هذا فإن بعض علماء القرن الحالي (العشرين) لا يطمئنون إلى موضوع القيم، بل ظهرت محاولات لاجتثاث علم القيم من العلوم الموضوعية، بل من المفاهيم السلوكية لموضوع التعلم، ولاستبعاده من الأسس السلوكية والنفسية، ورغم هذا؛ فإنهم عند إصدار الأحكام يجعلون للقيم دورا أساسيا تؤديه، لأن عملية إصدار الأحكام تبنى على وزن الأفضليات، وعلى الموازنة بين المساوىء والمحاسن، وعلى اختيار النتائج المترتبة مستقبلا على الأحكام الحالية، فإذا لم تكن هناك قيم، أو إذا كانت
(1) ماجد عرسان الكيلاني: اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، عمان، دار البشير 1991 م، ص 5 (بتصرف يسير) .
هناك قيم مهملة، فإنه لا يمكن التمعن فى الاختيار بين مساق ومساق، وبغير القيم تصبح الحياة مستحيلة «1» .
إزاء هذا- أيضا- لا بد أن ندرك أهمية وجود منظومة الأخلاق والقيم المتميزة بالتعدد والمرونة فى ظل التقدم العلمي والتقني، والذى غدا يمس كل مكون من مكونات الحياة الإنسانية ولم يستطع أن يحل مشكلات الإنسان المعاصر، فبالرغم من مساهماته، إلا أننا نرى اضطرابات ومؤثرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، هذا إلى جانب تفاقم مشكلات العمل والصراع بين الفقراء والأغنياء من الدول، وتفاقم المنازعات الإقليمية، إلى جانب مشكلات أخرى تعمل كلها على تقويض حضارة العالم كله.
وامتد أثر ذلك كله إلى المجتمع الإسلامي فى تربيته وتعليمه، وعلى بناء الشخصية المتميزة فى هذا المجتمع، فخصائص المجتمع وأمراضه الخلقية تفرض مراجعة الذات ونقدها وتحليلها من أجل تأكيد القيم التى تعتبر الأساس السليم لبناء تربوى متميز، لأن التقدم الأعمى الذى لا يقوم على أساس قيمى لا بد أن يؤدى إلى تعريض الشخصية للضياع.
ويتأكد ذلك فى خضم نتائج التيارات الفكرية المتصارعة، ووسط ذلك الزخم الهائل المتراكم عن التربية الإسلامية، وعلى كافة الأصعدة الفكرية فى موجات البحث عن الذات، وعن الوعي بها، وإذا كان ثمة أفكار طرحت فى سبيل تربية الإنسان وبناء شخصيته، فإننا قد نجد منها الكثير مما يسير فى طريق أحادى التفسير، يرى فى التكوين الجزئي سبيلا إلى تكوين الشخصية الإنسانية، فى حين أن المفروض أن ينظر إلى الأمر بطريقة متكاملة، بحيث تصاغ تلك الشخصية المتكاملة، بطريقة متكاملة، لا اهتمام فيها بجزء من الشخصية لحساب جانب آخر.
ولتوضيح أهمية هذه الفكرة لعله من المهم استشارة مفهوم التربية ذاته، والمؤثرات التى تساعدها، فالتربية هي تعني:«مجموعة المؤثرات المعينة التى تمتد إلى إحداث تغيرات لدى الأفراد حتى يكتسبوا سمات الشخصية التى نتفق على اعتبار أنها قد تزودت بالخصائص التربوية، فالأمر المسلم به أن الفرد لكي يتسنى الحكم عليه بأنه قد تمت تربيته، فإن ذلك يعني أنه قد تعلم أن يصبح شخصا سويّا» «2» .
ولذلك فإن هناك عددا من المؤشرات التي تصحب عملية التربية طبقا لهذا المفهوم وتتمثل فيما يلى:
1-
مجموعة المعارف والمهارات والاتجاهات معبرا عنها فى أهداف سلوكية.
2-
مجموعة القيم والمثل العليا التي تنبني عليها وتتضمنها العملية التربوية.
(1) جيمس و. بوتكن، د. مهدى المنجدة، ومرسيا مالتزا: التعلم وتحديات المستقبل، إعداد وتقديم: عبد العزيز القوصي، القاهرة، المكتب المصري الحديث، 1981 م، ص 89.
(2)
نبيه يس: أبعاد متطورة في الفكر التربوي، القاهرة، مكتبة الخانجي، د. ت، ص 18.
3-
مجموعة الطرق والأساليب المستعملة لإمداد المتعلم بالمجموعتين السابقتين «1» .
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الحياة الإسلامية ترتبط ارتباطا كليا بالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة فإن مصادر اشتقاق أى نظام ملائم وموافق للحياة الإسلامية إنما يكون من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة، ومن ثم فإن اشتقاق النظام الخلقي فى الإسلام يكون هذان مرجعه، فالقرآن الكريم كتاب الإسلام الخالد المحفوظ بقدرة الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وفيه شمول لكافة جوانب الحياة، محددة بصورة بليغة دقيقة.
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ.
أما السّنّة، فهى ترجمة صادقة لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هناك إنسان فى التاريخ البشري كله نقلت حياته بصورة تفصيلية مثلما نقلت حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بل لقد اخترعت المناهج العلمية من أجل تنقيح وتحقيق وتمحيص السنة والسيرة، ولقد كان ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة للبشرية كلها، ولأننا مطالبون بأن نقتدي بسيرته صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (آل عمران/ 31) .
ومن ثم كان التوجه إليهما لاكتشاف النظام الخلقي ومكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم استرشادا بها لصياغة تربية خلقية رشيدة، والهدف من وراء ذلك:
1-
إبراز دور القيم الخلقية الإسلامية فى صياغة الحياة الإسلامية وأهدافها، وفى إصدار الأحكام وتحديد الأفضليات، والتمييز بين المزايا والمساوىء، واختيار النتائج المترتبة على الأحكام، فالبحث فى هذا المجال يعني تأكيد الاختيار، لأنه بغير تلك القيم الخلقية يصبح الاختيار فى مجال الأهداف والبرامج أمرا غير ممكن وغير واضح.
2-
إبراز فعاليات منظومة الأخلاق الإسلامية فى ظل التقدم العلمي والتقني المعاصر، وما صحبه من اضطرابات ومؤثرات تمس كل مكونات الحياة الإنسانية، حتى غدت مشكلة الأخلاق هى المشكلة المتفاقمة فى المجتمع الإنسانى كله.
3-
إبراز فعاليات دور منظومة الأخلاق الإسلامية فى مجال التربية بالذات، ترشيدا للجهد، وتأكيدا لدورها فى إعطاء شخصية المجتمع الإسلامي والفرد المسلم الملامح المتميزة عبر الأصالة.
4-
الإسهام فى طرح أوسع لقضية الأخلاق الإسلامية، فالدراسات فى هذا المجال بالرغم من تعددها إلا أنها لم تزل قاصرة عن الإحاطة والشمول المطلوبين.
5-
الإسهام فى صياغة أهداف الحياة الإسلامية، عن طريق إبراز القيم الخلقية الإسلامية، وهو أمر يحتمه
(1) محمد الهادي عفيفي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1972، ص 279.
الواقع وتفرضه الضرورة فهو إسهام فى إعادة الوعي بالذات الإسلامية، فى مجال التربية، والدعوة، والتربية الأسرية، وما إلى ذلك.
وينطلق البحث فى مجال الأخلاق الإسلامية من عدة اعتبارات مهمة، تأتى كمنطلقات مبدئية يدور البحث فى إطارها، وهي:
1-
أن الإسلام منهج حياة، وهو ليس مجرد قواعد تعرف بأنها الإسلام، وليس مجموعة من المبادىء الأساسية التى تنطوى عليها هذه القواعد، إنه منهج حياة، حدد حركة المجتمع الإسلامى، وأوجد قواعد السلوك الفردي والاجتماعي ومعاييره، وذلك لضمان توجه الحركة نحو تحقيق أهداف الإسلام فى الحياة، وغايته فى إسعاد الناس أفرادا وجماعات فى الدنيا والآخرة، ومن ثم أتت جميع نظمه وقواعده ومعاييره وتصوراته وأخلاقياته وافية بحاجات الناس من جميع نواحيها.
2-
أن الإسلام لا يعي مجرد الصلة بين الإنسان وربه فقط، وإنما هو توجيه شامل لحياة البشر، بما جاء فى القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما صح من اجتهاد فى ضوئهما، ومعنى هذا شمولية أنظمته، وعدم اقتصارها على تحديد صلة الإنسان بربه فى وصفها التقليدي، بل فى وصف مبتكر، إذ أن تلك التصرفات تصب فى النهاية فى هذه العلاقة، ومن ثم ضمنت حسن التوجه.
3-
أن مجال القيم الخلقية الإسلامية كما أتى فى المصادر الأساسية واسع فسيح، يمتد ليشمل ما يمكن أن يواجه حياة الإنسان من تغيرات فى إطار الثوابت، مما يعنى استيعابه كل ما يستجد فى حياة الناس ما لم يتعارض مع أصل من الأصول التي أتت فى شكل قيم إلزامية، وأوامر تكليفية.
4-
أن القيم الخلقية الإسلامية هي المعبر الحقيقي عن ثقافة المجتمع الإسلامي، وهى فى حقيقتها قيم داعية إلى التقدم والتفتح والإبداع والابتكار ولا تقف ضدها بل هي التقدم ذاته.
5-
أن البحث الأخلاقي ينطلق من مقولات أساسية تتمثل فيما يلي:
أ- هذه الأخلاق ربانية المصدر ولأنها كذلك فهي تربي الإنسان على أفضل وجه وأحسنه يقول الله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (النساء/ 174) .
ب- أن التمسك بأهداب هذه التربية الأخلاقية كما جاءت في القرآن الكريم والسنة المطهرة يقدم حلولا جذرية للمشاكل التي يعاني منها العالم المعاصر، لأن ذلك الحل الإسلامي في المجال الأخلاقي يشمل المجتمع الإنساني كله وما ذاك إلا لأن قاعدته متكاملة وشاملة، أي أن تفاصيل التربية الإسلامية تشمل الإنسان في كل ظروفه وفي جميع حالاته، وتتصل بجميع أنواع علاقاته، سواء مع الله- عز وجل أو مع النفس أو مع الآخرين،
هذه التربية تعد الإنسان للحياة كما تعده للموت، وتربط بينه وبين محيطه المادي والمعنوي، وهذا الترابط ينتج عنه تكامل وتفاعل بين عناصر الوجود، وهو سر من أعظم أسرار الخليقة مكن التربية القرآنية من أن تتميز بالاستمرارية والعمومية لكل الناس في كل زمان ومكان.
ج- التربية الإسلامية تهتم بالفرد كما تهتم بالمجتمع وتوازن بين احتياجات الدنيا واحتياجات الآخرة وبين القوة والرحمة، يقول الله تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص/ 77) .
6-
أن تنمية هذه الأخلاقيات منوط بالعملية التربوية ووظيفتها فى الوجود الاجتماعي، وذلك لا يكون إلا بالنظر إلى حركتها ككل مترابط شامل، فى علاقاتها المتشابكة بكل مكونات المجتمع، وبكل مكونات الحياة الفردية، ويعنى هذا أن القيم الخلقية الإسلامية تلعب الدور الأكبر فى تحديد دور التربية ووظيفتها، لأنها تتخلل كل مكونات المجتمع الإسلامي.
7-
ترتبط القيم والأخلاق الإسلامية بالجزاءات الدنيوية والأخروية ولذا كان الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وكان لها هدف أسمى وراء الالتزام (بعد الاختبار) القائم على وعي كامل لما جاء به الشرع وأمر بالالتزام به وذلك الهدف هو إرضاء الله تعالى ويأتي الجزاء بعد ذلك والذي لا يحرم منه الملتزم العابد «1» .
ومن أجل بلوغ هذا الهدف التربوي لا بد أن يكون ما تصبو إليه ممكنا وهذا هو ما أثبته رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بالفعل وبرهان ذلك أن الخلق النبوي الكريم ظل قائما مئات السنين وكان سيظل أسوة حسنة لقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب/ 21) .
إن السبيل إلى الوصول إلى هذا الهدف السامي موضح بجلاء في كتاب الله تعالى بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران/ 31) .
وبهذا الجهد نتوجه إلى العالم الإسلامي بكافة فئاته وطوائفه، ذلك المجتمع المتطلع إلى التقدم الحضاري والدور المتميز فى العطاء الحضاري، والهداية الإنسانية، وعلى وجه الخصوص تلك الفئات التي تتعامل بطريقة مباشرة فى مجال بناء الإنسان، أعز ما يملكه هذا المجتمع، ومنهم:
1-
المعلمون والمربون، الذين يشكلون القدوة لأبنائنا فى المدارس عبر مساحات العالم الإسلامي، ولهم تأثير واسع وكبير فى بناء شخصيات هؤلاء الأبناء.
(1) انظر في ذلك خصائص القيم الإسلامية ص 81 وما بعدها.
2-
الإعلاميون، والذين لهم دور بارز وخطير في التعليم والتربية، وفي مجال التأثير المباشر وغير المباشر عبر وسائل الاتصال الحديثة والمتنوعة، والتي جعلت من العالم كله قرية صغيرة.
3-
الدعاة وتأثيرهم الخطير فى مجال الاتصال بالجماهير، والذين يعتبرهم الناس أهل علم الإسلام، والقدوة الاجتماعية، ويزداد هذا العمل أهمية بالنسبة لهم فيما يواجه المجتمع الإسلامي من تحديات.
4-
أولياء الأمور: خاصة فى العصر الذي نعيشه الذى يتسم بسرعة التغيير وسرعة الاتصال، وما يشوب وسائل الاتصال والتربية من شوائب، تتطلب من أولياء الأمور وعيا راشدا، وهذا ما تحاول أن تفعله الموسوعة.
وسوف نلقي الضوء في الفصول التالية على ما يلي:
أولا: مفهوم الأخلاق.. أصالتها في الفكر الإسلامي.. وظائفها.
ثانيا: الأخلاق الإسلامية.. طبيعتها.. مصادرها.. أركانها.
ثالثا: المنهج الإسلامي في تنمية القيم الخلقية.
رابعا: وسائل تنمية الأخلاق الإسلامية.
خامسا: وسائط تنمية الأخلاق.