الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ذكر إبراهيم خليل الرّحمن صلى الله عليه وسلم
هذا الاسم (إبراهيم) بالسّريانيّة معناه: «أب رحيم» والله سبحانه جعل إبراهيم الأب الثّالث للعالم، فإنّ أبانا الأوّل آدم، والأب الثّاني نوح، وأهل الأرض كلّهم من ذرّيّته، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ «1» .
وبهذا يتبيّن كذب المفترين من العجم الذّين يزعمون أنّهم لا يعرفون نوحا ولا ولده، ولا ينسبون إليه، وينسبون ملوكهم من آدم إليهم، ولا يذكرون نوحا في أنسابهم، وقد أكذبهم الله عز وجل في ذلك.
فالأب الثّالث أبو الآباء، وعمود العالم، وإمام الحنفاء الّذي اتّخذه الله سبحانه وتعالى خليلا، وجعل النّبوّة والكتاب في ذرّيّته، ذلك خليل الرّحمن وشيخ الأنبياء كما سمّاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فإنّه لمّا دخل الكعبة، وجد المشركين قد صوّروا فيها صورته وصورة إسماعيل ابنه وهما يستقسمان بالأزلام، فقال:«قاتلهم الله، لقد علموا أنّ شيخنا لم يكن يستقسم بالأزلام» «2» . ولم يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتّبع ملّة أحد من الأنبياء غيره فقال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «3» . وأمر أمّته بذلك فقال تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ «4» . و «ملّة» منصوب على إضمار فعل، أي: اتّبعوه والزموا ملّة أبيكم. ودلّ على المحذوف ما تقدّم من قوله: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «5» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، ودين نبيّنا محمّد وملّة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين» «6» .
فتأمّل هذه الألفاظ كيف جعل الفطرة للإسلام، فإنّه فطرة الله الّتي فطر النّاس عليها، وكلمة الإخلاص:
هي شهادة أن لا إله إلّا الله تعالى والملّة لإبراهيم فإنّه صاحب الملّة: وهي التّوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، ومحبّته فوق كلّ محبّة، والدّين للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو دينه الكامل وشرعه التّامّ الجامع لذلك كلّه، وسمّاه الله سبحانه «إماما» و «أمّة» و «قانتا» و «حنيفا» . قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
(1) سورة الصافات: 77.
(2)
أخرجه البخاري (الفتح 8/ 4288) وأحمد (1/ 365) .
(3)
سورة النحل: 123.
(4)
سورة الحج: 78.
(5)
سورة الحج: 78.
(6)
أخرجه أحمد (3/ 406، 407) والدارمي (2/ 292) وابن السني (33) من حديث عبد الرحمن بن أبزي، وقال الأرنؤطيان: سنده صحيح.
إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «1» . فأخبر سبحانه أنّه جعله إماما للنّاس، وأنّ الظّالم من ذرّيّته لا ينال رتبة الإمامة. والظّالم: هو المشرك، وأخبر سبحانه أنّ عهده بالإمامة لا ينال من أشرك به. وقال تعالى:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» .
فالأمّة: هو القدوة المعلّم للخير، والقانت: المطيع لله الملازم لطاعته، والحنيف: المقبل على الله، المعرض عمّا سواه.
والمقصود: أنّ إبراهيم عليه السلام: هو أبونا الثّالث، وهو إمام الحنفاء، ويسمّيه أهل الكتاب عمود العالم، وجميع أهل الملل متّفقة على تعظيمه وتولّيه ومحبّته. وكان خير بنيه سيّد ولد آدم محمّد صلى الله عليه وسلم يجلّه ويعظّمه ويبجّله ويحترمه، ففي «الصّحيحين» عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا خير البريّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذاك إبراهيم» «3» . وسمّاه شيخه، كما تقدّم.
وثبت في «صحيح البخاريّ» من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«إنّكم محشورون حفاة عراة غرلا، ثمّ قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» .
وأوّل من يكسى يوم القيامة إبراهيم» «5» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه الخلق به، كما في «الصّحيحين» عنه قال:«رأيت إبراهيم فإذا أقرب النّاس شبها به صاحبكم» يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، وفى لفظ آخر «وأمّا إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم» «6» .
وكان صلى الله عليه وسلم يعوّذ أولاد ابنته حسنا وحسينا بتعويذ إبراهيم لإسماعيل وإسحاق، ففي «صحيح البخاريّ» عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما قال:«كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين ويقول: «إنّ أباكما كان يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التّامّة من كلّ شيطان وهامّة، ومن كلّ عين لامّة» «7» .
وكان صلى الله عليه وسلم أوّل من قرى الضّيف، وأوّل من اختتن، وأوّل من رأى الشّيب، فقال: «ما هذا يا ربّ؟ قال:
وقار، قال: ربّ زدني وقارا» .
(1) سورة البقرة: 124.
(2)
سورة النحل: 120- 122.
(3)
أخرجه مسلم (2369) وأبو داود (4672) والترمذي (349) .
(4)
سورة الأنبياء: 104.
(5)
أخرجه البخاري (الفتح 8/ 4740) ومسلم (2860) .
(6)
أخرجه البخاري (الفتح 6/ 3437) من حديث أبي هريرة، ومسلم (167) .
(7)
أخرجه البخاري (الفتح 6/ 3371) .
وتأمّل ثناء الله سبحانه عليه في إكرام ضيفه من الملائكة حيث يقول سبحانه: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ «1» .
ففي هذا الثّناء على إبراهيم من وجوه متعدّدة ذكرها المؤلّف فلتراجع.
لقد جمعت هذه الآية آداب الضّيافة الّتي هي شرف الآداب، وما عداها من التّكلّفات الّتي هي تخلّف وتكلّف إنّما هي من أوضاع النّاس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفا وفخرا، فصلّى الله على نبيّنا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النّبيّين.
وقد شهد الله سبحانه بأنّه وفّى ما أمر به، فقال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «2» . قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما: وفّى جميع شرائع الإسلام، ووفّى ما أمر به من تبليغ الرّسالة. وقال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «3» . فلمّا أتمّ ما أمر من الكلمات، جعله الله إماما للخلائق يأتمّون به.
وكان صلى الله عليه وسلم كما قيل: قلبه للرّحمن، وولده للقربان، وبدنه للنّيران، وماله للضّيفان.
وهو الّذي بنى بيت الله، وأذّن في النّاس بحجّه، فكلّ من حجّه واعتمره حصل لإبراهيم من مزيد ثواب الله وكرامته بعدد الحجّاج والمعتمرين. قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «4» . فأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمّته أن يتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى تحقيقا للاقتداء به، وإحياء آثاره صلّى الله على نبيّنا وعليه وسلّم.
ومناقب هذا الإمام الأعظم، والنّبيّ الأكرم أجلّ من أن يحيط بها كتاب، جعلنا الله ممّن ائتمّ به، ولا جعلنا ممّن عدل عن ملّته بمنّه وكرمه.
(1) سورة الذاريات: 24- 27.
(2)
سورة النجم: 36، 37.
(3)
سورة البقرة: 124.
(4)
سورة البقرة: 125.