الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقامت بين أبي بكر الصديق ومجموعة من مشركي قريش مجادلة حادة حول الحرب القائمة بين الامبراطوريتين الرومية والفارسية بعد نزول الآية الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ «1» .
وكان المسلمون يحبون أن ينتصر الروم لأنهم نصاري وكانت عاطفة المشركين مع الفرس لأنهم أهل أوثان مجوس. وقد راهن أبو بكر على انتصار الروم خلال خمس سنوات، وذلك قبل تحريم الإسلام للمراهنات «2» . ولا بد أن فرحة المؤمنين بانتصار الروم كانت كبيرة لما في ذلك من تأييد القرآن وخذلان المشركين فضلا عن انتصار أهل الكتاب على المجوس، وقد أسلم عدد من الناس على أثر ذلك «3» . وينبغي أن نشير إلى أن الصراع بين الدولتين الكبيرتين فارس والروم كان له أثره في التجارة من جهة، ويستلزم استمرار المراقبة للأوضاع خارج الجزيرة وعلى أطرافها لما كان له من آثار على التعامل الخارجي التجاري في بلد يعتمد على التجارة مثل مكة «4» . كما أن نزول الآيات الخاصة بذلك الصراع تشير إلى أهمية متابعة التطورات السياسية التي تجري على أطراف جزيرتهم، كما أن فيها ما يشير إلى وحدة مواقف المؤمنين بالله وتمايزهم أمام الإلحاد والوثنية. وكان الجدل حول هذه المسألة يوضح أحد جوانب الصراع العديدة بين الجانبين «5» .
ولقد تصاعد العنف مع مرور الأيام، وأصبح المسلمون يشكلون مجتمعا معزولا عن المجتمع المكي، تحيط بهم النظرات الغاضبة والألسن الشاتمة والأيدي التي تسومهم أصناف العذاب، ولذلك فقد أصبح استقرار المسلمين في مكة أمرا ينطوي على المخاطر الكبيرة، وذلك ما أدى إلى ضرورة التفكير بالهجرة إلى أماكن آمنة يهاجرون إليها فرارا بدينهم ونأيا بأنفسهم عن العذاب، وكانت الحبشة أول المناطق التي فكروا بجدوى الهجرة إليها.
الهجرة الأولى إلى الحبشة:
نزلت آيات الذكر الحكيم تلمح إلى الهجرة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «6» .
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما كان ينالهم من التعذيب والإهانة، وأنه لا يقدر أن يمنع عنهم ما يصيبهم، نصح المسلمين بالخروج إلى أرض الحبشة «7» . وفي تلك الظروف الحرجة كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة فرارا بدينهم من بلاد الفتنة إلى بلاد الأمان. ومن الثابت أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة
(1) القرآن الكريم- سورة الروم، الآيات/ 1- 5.
(2)
الترمذي- السنن 5/ 343- 344، الحاكم- المستدرك 2/ 410، الطبراني- المعجم الكبير 12/ 29، الطبري- التفسير 21/ 12، البيهقي- دلائل النبوة 2/ 330.
(3)
الترمذي- السنن 5/ 344- 345.
(4)
ابن كثير- التفسير 6/ 305- 306 (ط. الشعب) ، وانظر الطبري- التفسير 21/ 19.
(5)
ابن كثير- التفسير 3/ 423.
(6)
القرآن الكريم سورة الزمر، الآية/ 10.
(7)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 189، ابن هشام- السيرة 1/ 334، وانظر السير والمغازي ص/ 123.
مرتين «1» . وكانت الهجرة الأولي في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة خرجوا متسللين سرّا «2» . حتى انتهوا إلى الشعيبة، منهم الراكب والماشي، ووفق الله تعالى للمسلمين ساعة جاءوا الساحل سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار «3» .
وقد ثبت من طرق صحيحة «4» ما ورد عن أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها «5» وكانت ضمن من هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولي، حيث قالت:«لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه وعمه لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه» «6» . فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنّا على ديننا ولم نخش منه ظلما» «7» .
وكان عثمان بن عفان أول من خرج مهاجرا ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأورد الإمام البخاري حديثا بسند موصول إلى أنس قال:«أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له: لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال صلى الله عليه وسلم: «صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط» «8» .
وقد سرد ابن إسحاق وغيره أسماء مهاجرة الحبشة وهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، وحاطب بن عمرو العامري. وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية، امرأة أبي سلمة، وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة «9» . وقد عرفت هذه بالهجرة الأولى إلى الحبشة «10» .
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 10/ 43- 44 (حديث 2297) ، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 73.
(2)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 187) .
(3)
المرجع السابق 7/ 187- 188، ابن سعد- الطبقات 1/ 204.
(4)
البخاري- الصحيح (فتح 7/ 189) ، ابن إسحاق- السيرة ص/ 194، ابن هشام- السيرة 1/ 3 إإ، وأنظر ابن سعد- الطبقات 1/ 204، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 74.
(5)
ولم تكن قد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينذاك.
(6)
إسناده حسن، ذلك أن رواية يونس بن بكير قد توبعت برواية البكائي، كما أن محمد بن إسحاق بن يسار قد صرح بالتحديث (السيرة ص/ 194) . وقد أورد البخاري الحديث بتقديم «أحد عنده» وتبديل «فألحقوا» بعبارة «فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله» (فتح 7/ 277، حديث 3876) .
(7)
البخاري- الصحيح (فتح 7/ 189) ، ابن هشام- السيرة النبوية 1/ 334.
(8)
البخاري- الصحيح (فتح 7/ 227 (رقم 3876) وعقب ابن حجر على ذلك بقوله «وبهذا تظهر النكتة في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان» وأنظر البيهقي- دلائل النبوة 2/ 297.
(9)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 227- 8) ، ابن سعد- الطبقات 1/ 204، ابن هشام- السيرة 1/ 430.
(10)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 228) ، ابن سعد- الطبقات 1/ 204.