الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشركون بسجود المسلمين «1» . وقد اعترض على هذه القصة عدد كبير من أفاضل العلماء والنقاد «2» . والحق أن هذه القصة تصطدم بنصوص القرآن الكريم «3» . وعصمة النبوة في قضية الوحي «4» ، وتتعارض مع عقيدة التوحيد وهي الأصل في العقيدة الإسلامية.
محاولة قريش استرداد المهاجرين المسلمين:
بادرت قريش بعد الهجرة الثانية وفشلها في منع المسلمين من الهجرة، ونتيجة تخوفها من انتشار الدعوة الإسلامية، فأرسلت وفدا مؤلفا من عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهما الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، بهدف إعادة من هاجر من المسلمين إلى مكة. وحاول الوفد إقناع البطارقة عن طريق الهدايا، وعن طريق تصوير المهاجرين المسلمين لهم بأنهم «غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وأنهم جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم..» «5» ، وبيّتوا الأمر مع البطارقة على أن يشيروا على النجاشي بأن يسلمهم إليهم ولا يكلمهم، غير أن النجاشي رأى ضرورة أن يتحرى الأمر بنفسه فدعا المسلمين وطلب منهم توضيح حقيقة دينهم، فانبرى جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه. وتكلم نيابة عن إخوانه المهاجرين كما سبق وأسلفنا، قائلا: «أيها الملك:
كنا قوما على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسيء الجوار ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، ولا نحل شيئا ولا نحرّمه. فبعث الله إلينا نبيّا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم ونحسن الجوار، ونصلّي ونصوم، ولا نعبد غيره» وحين طلب النجاشي من جعفر أن يقرأ عليه شيئا مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، قرأ عليه صدر «سورة مريم» ، فبكى النجاشي ومن معه من أساقفته وقال:
«إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين» . وأقسم بألّا يسلمهم لقريش أبدا «6» .
ورغم فشل المحاولة فقد أثار عمرو بن العاص في اليوم التالي موقف الإسلام من عيسى ابن مريم ونظرة المسلمين إليه بزعمه، وذكر للنجاشي بأنهم يقولون في عيسى قولا عظيما. فسألهم النجاشي فقال جعفر: نقول فيه «هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول» . فقال النجاشي: «ما عدا عيسى ابن مريم مما
(1) روى هذه القصة ابن سعد في طبقاته 1/ 205- 206، عن طريق الواقدي وهو ضعيف جدّا، والطبري في التفسير وفي إسناده أبو معشر وهو ضعيف، والبيهقي في دلائل النبوة 2/ 285- 287 وإسناده ضعيف، ولم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة والإمام أحمد ولا غيرهم من أصحاب الكتب المعتمدة.
(2)
نذكر منهم الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 229) ، والقاضي عياض في الشفا (2/ 750 وما بعدها) ، وابن حجر (فتح الباري 18/ 41)، وللشيخ محمد ناصر الدين الألباني رسالة عنوانها «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» خرّج فيها أحاديثها وحكم عليها بالضعف والبطلان وقد فسر الألوسي سبب سجود المشركين بما اعتراهم من خوف ودهشة وهم يستمعون إلى أخبار هلاك من سبقهم من الأمم السابقة. انظر: روح المعاني (17/ 189) الطبعة المنيرية.
(3)
القرآن الكريم- سورة النجم، الآية/ 23، سورة الحجر، الآية/ 42، سورة ص، الآيات/ 82- 83، سورة النحل، الآية/ 99.
(4)
ناصر الدين الألباني- نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، أبو شهبة- السيرة النبوية 1/ 364- 374.
(5)
ابن إسحاق- السيرة والمغازي/ 213- 217، ابن هشام- السيرة 1/ 289- 93.
(6)
ابن هشام- السيرة 1/ 289- 293.
قلت هذا العود» «1» واستقر رأي النجاشي على منح المسلمين الأمان، «فأقاموا في خير دار مع خير جار» «2» .
أما القسيسون والرهبان الذين سمعوا قول جعفر واستمعوا إليه وهو يرتل القرآن، فقد ذرفوا الدموع مما عرفوا من الحق فأنزل الله تعالى قوله الكريم: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «3» .
وعلى الرغم من فشل مبادرة قريش في محاولتها استعادة المهاجرين المسلمين، فإن هذه المحاولة تدل على إدراكها لخطورة الموقف الناجم عن حصول المسلمين على ملجأ يأوون إليه آمنين، وخاصة أن الحبشة تدين بالنصرانية، وقد شاع عن ملكها العدل والإنصاف، كما أنها قريبة من مكة مما كان يشكل خطرا متوقعا على قريش ومصالحها في المستقبل.
مكث المسلمون في الحبشة ما شاء الله لهم، ولقد توفي عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها وهي بالحبشة، زوجه إيّاها النجاشي ومهرها أربعة الاف، ثم جهزها من عنده ولم يرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، وقد بعثها النجاشي مع شرحبيل بن حسنة «4» .
انضم إلى مهاجرة الحبشة أبو موسى الأشعري مع جمع من قومه بلغوا ثلاثة وخمسين رجلا وكانوا قد ركبوا سفينة يريدون الهجرة إلى المدينة حين بلغهم استقرار الوضع فيها لصالح المسلمين فألقتهم الرياح إلى الحبشة فالتحقوا بالمسلمين ومكثوا معهم إلى أن عادوا جميعا إلى المدينة حين افتتح المسلمون خيبر «5» . فعاد بعضهم إلى المدينة بعد هجرة المسلمين إليها وقبل وقعة بدر الكبرى، وكانت عدتهم ثلاثة وثلاثين رجلا وثماني نسوة، وعاد الباقون وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب في العام السابع من الهجرة في أعقاب فتح خيبر «6» . ولم تخل هجرتهم هذه من الصعوبات، ويستفاد من نقاش جرى بين أسماء بنت عميس- إحدى المهاجرات إلى الحبشة- وعمر بن الخطاب أن المهاجرين المسلمين إلى الحبشة رغم ما تحقق لهم من الاستقرار والتخلص من أذى قريش وعذابها فإنهم لاقوا العنت، وتحملوا الغربة والمشاق، وأنهم كانوا يتعرضون أحيانا للخوف والإرهاب. وقد أنصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لهم:«ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» «7» . وذلك
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 413- 418.
(2)
المرجع السابق 1/ 289- 293.
(3)
القرآن الكريم- سورة المائدة، الآيات/ 82- 83، وانظر تفسير الطبري 7/ 3.
(4)
أحمد- المسند 6/ 427، أبو داود- السنن 2/ 538، 569 بإسناد صحيح، النسائي- السنن 6/ 119، الحاكم- المستدرك 2/ 181.
(5)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 237، 7/ 188، 484، 485، 487) ، صحيح مسلم (بشرح النووي) 16/ 64.
(6)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 15/ 36 (ح 3876) ، ابن سعد- الطبقات 1/ 207.
(7)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 237، 7/ 18، 484، 487) ، مسلم- الصحيح (بشرح النووي 16/ 64- 66) .