الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى اسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم واشتقاقه
هذا الاسم هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وهو اسم منقول من الحمد، وهو يتضمّن الثّناء على المحمود، ومحبّته، وإجلاله، وتعظيمه. هذا هو حقيقة الحمد، وبني على زنة «مفعّل» مثل: معظّم، ومحبّب، ومسوّد، ومبجّل، ونظائرهما، لأنّ هذا البناء موضوع للتّكثير، فإن اشتقّ منه اسم فاعل، فمعناه من كثر صدور الفعل منه مرّة بعد مرّة، كمعلّم، ومفهّم، ومبيّن، ومخلّص، ومفرّج ونحوها، وإن اشتقّ منه اسم مفعول، فمعناه من [كثر] تكرار وقوع الفعل عليه مرّة بعد أخرى إمّا استحقاقا أو وقوعا. فمحمّد هو: كثر حمد الحامدين له مرّة بعد أخرى، أو الّذي يستحقّ أن يحمد مرّة بعد أخرى.
ويقال: حمّد، فهو محمّد، كما يقال: علّم فهو معلّم، وهذا علم وصفة اجتمع فيه الأمران في حقّه صلى الله عليه وسلم وإن كان علما محضا في حقّ كثير ممّن تسمّى به غيره.
وهذا شأن أسماء الرّبّ تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء نبيّه، هي أعلام دالّة على معان هي بها أوصاف، فلا تضادّ فيها العلميّة الوصف، بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين، فهو الله، الخالق الباريء، المصوّر، القهّار، فهذه أسماء دالّة على معان هي صفاته وكذلك القرآن، والكتاب المبين، وغير ذلك من أسمائه.
وكذلك أسماء النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «محمّد، وأحمد، والماحي» وفي حديث جبير بن مطعم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ لي أسماء، أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحوا الله بي الكفر» «1» .
فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء مبيّنا ما خصّه الله به من الفضل، وأشار إلى معانيها، وإلّا فلو كانت أعلاما محضة لا معنى لها، لم تدلّ على مدح، ولهذا قال حسّان رضي الله عنه:
وشقّ له من اسمه ليجلّه
…
فذو العرش محمود وهذا محمّد
وإذا ثبت هذا، فتسميته صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم لما اشتمل عليه من مسمّاه وهو الحمد، فإنّه صلى الله عليه وسلم محمود عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض كلّهم، وإن كفر به بعضهم، فإنّ ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كلّ عاقل، وإن كابر عقله جحودا، أو عنادا، أو جهلا باتّصافه بها، ولو علم اتّصافه بها، لحمده فإنّه يحمد من اتّصف بصفات الكمال، ويجهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامد له؛ وهو صلى الله عليه وسلم اختصّ من مسمّى «الحمد» بما لم يجتمع لغيره، فإنّ اسمه محمّد وأحمد، وأمّته الحمّادون يحمدون الله على السّرّاء والضّرّاء، وصلاة أمّته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، هكذا عند الله في اللّوح
(1) أخرجه البخاري (الفتح 8/ 4896) ومسلم (2354) .
المحفوظ أنّ خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحا بالحمد، وبيده صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة، ولمّا يسجد بين يدي ربّه عز وجل للشّفاعة، ويؤذن له فيها يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الّذي يغبطه به الأوّلون والآخرون، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» .
ومن أحبّ الوقوف على معنى المقام المحمود، فليقف على ما ذكر سلف الأمّة من الصّحابة والتّابعين فيه في تفسير هذه السّورة كتفسير ابن أبي حاتم، وابن جرير، وعبد بن حميد، وغيرها من تفاسير السّلف.
وإذا قام في ذلك المقام، حمده حينئذ أهل الموقف كلّهم مسلمهم وكافرهم أوّلهم وآخرهم، وهو محمود صلى الله عليه وسلم بما ملأ الأرض من الهدى والإيمان والعلم النّافع، والعمل الصّالح، وفتح به القلوب، وكشف به الظّلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشّيطان، ومن الشّرك بالله والكفر به والجهل به حتّى نال به أتباعه شرف الدّنيا والآخرة، فإنّ رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنّهم كانوا بين عبّاد أوثان، وعبّاد صلبان، وعبّاد نيران، وعبّاد الكواكب، ومغضوب عليهم قد باؤوا بغضب من الله، وحيران لا يعرف ربّا يعبده، ولا بماذا يعبده، والنّاس يأكل بعضهم بعضا، من استحسن شيئا دعا إليه، وقاتل من خالفه، وليس في الأرض موضع قدم مشرق بنور الرّسالة، وقد نظر الله سبحانه حينئذ إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلّا بقايا على آثار من دين صحيح، فأغاث الله بها البلاد والعباد، وكشف به تلك الظّلم، وأحيا به الخليقة بعد الموت، فهدى به من الضّلالة، وعلّم به من الجهالة، وكثّر به بعد القلّة، وأعزّ به بعد الذّلّة، وأغنى به بعد العيلة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، فعرف النّاس ربّهم ومعبودهم، غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدأ وأعاد، واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله حتّى تجلّت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشّكّ والرّيب عنها، كما ينجاب السّحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدع لأمّته حاجة في هذا التّعريف لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كلّ من تكلّم في هذا الباب أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «2» .
وعرّفهم الطّريق الموصّل لهم إلى ربّهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع حسنا إلّا أمرهم به، ولا قبيحا إلّا نهى عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ما تركت من شيء يقرّبكم إلى الجنّة إلّا وقد أمرتكم به، ولا من شيء يقرّبكم من النّار إلّا وقد نهيتكم عنه» «3» . قال أبو ذرّ رضي الله عنه: (لقد توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلّب جناحيه في السّماء
(1) سورة الإسراء: 79.
(2)
سورة العنكبوت: 51.
(3)
أورده الهيثمي في «المجمع» (8/ 263، 264) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة.
إلّا ذكّرنا منه علما) «1» .
وعرّفهم حالهم بعد القدوم على ربّهم أتمّ تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدع بابا من العلم النّافع المقرّب لهم إلى ربّه إلّا فتحه، ولا مشكلا إلّا بيّنه وشرحه، حتّى هدى الله به القلوب من ضلالها، وشفاها من أسقامها، وأغاثها من جهلها، فأيّ بشر أحقّ بأن يحمد منه صلى الله عليه وسلم، وجزاه عن أمّته أفضل الجزاء.
وممّا يحمد عليه صلى الله عليه وسلم ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق، وكرائم الشّيم، فإنّ من نظر في أخلاقه وشيمه صلى الله عليه وسلم، علم أنّها خير أخلاق، فإنّه صلى الله عليه وسلم كان أعلم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثا، وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم، وأشدّهم احتمالا، وأعظمهم عفوا ومغفرة، وكان لا يزيده شدّة الجهل عليه إلّا حلما، كما روى البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّه قال في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التّوراة:«محمّد عبدي ورسولي سمّيته المتوكّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتّى أقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا الله، وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا وقلوبا غلفا» «2» .
وهو أرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعا في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله، وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالّة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصّبر، وأصدقهم في موطن اللّقاء، وأوفاهم بالعهد والذّمّة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه، وأشدّهم تواضعا، وأعظمهم إيثارا على نفسه، وأشدّ الخلق ذبّا عن أصحابه وحماية لهم، ودفاعا عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه، وأوصل الخلق لرحمه، فهو أحقّ بقول القائل:
برد على الأدنى ومرحمة
…
وعلى الأعادي مازن جلد
قال علي رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود النّاس صدرا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم «3» .
فقوله: كان أجود النّاس صدرا، أراد به: برّ الصّدر، وكثرة خيره، وأنّ الخير يتفجّر منه تفجيرا، وأنّه منطو على كلّ خلق جميل، وكلّ خير، كما قال بعض أهل العلم ليس في الدّنيا كلّها محلّ كان أكثر خيرا من صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع الخير بحذافيره، وأودع في صدره صلى الله عليه وسلم.
وقوله: أصدق النّاس لهجة، وهذا مما أقرّ به أعداؤه المحاربون له، ولم يجرّب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة قطّ، دع شهادة أوليائه كلّهم له به فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات مشركوهم وأهل الكتاب منهم،
(1) أخرجه أحمد في «المسند» (5/ 162) ، ورجاله ثقات.
(2)
أخرجه البخاري (الفتح 8/ 4838) .
(3)
أخرجه الترمذي في «الشمائل» رقم (6) وفي «السنن» (3642) وقال الارنؤوطيان، وفي سنده ضعف وانقطاع» .
وليس أحد منهم يوما من الدّهر طعن فيه بكذبة واحدة صغيرة ولا كبيرة.
قال المسور بن مخرمة: قلت لأبي جهل- وكان خالي- يا خال هل كنتم تتّهمون محمّدا بالكذب قبل أن يقول مقالته؟ فقال: والله يا ابن أختي لقد كان محمّد وهو شابّ يدعى فينا الأمين، فلمّا خطّه الشّيب لم يكن ليكذب، قلت: يا خال فلم لا تتّبعونه؟ فقال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشّرف؛ فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، فلمّا تجاثينا على الرّكب وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيّ، فمتى نأتيهم بهذا» أو كما قال.
وقال تعالى يسلّيه ويهوّن عليه قول أعدائه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ* وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ «1» .
وقوله: ألينهم عريكة، يعني أنّه سهل قريب من النّاس، مجيب لدعوة من دعاه، قاض لحاجة من استقضاه، جابر لقلب من قصده لا يحرمه ولا يردّه خائبا، إذا أراد أصحابه منه أمرا، وافقهم عليه، وتابعهم فيه، وإن عزم على أمر لم يستبدّ بدونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم.
وقوله: أكرمهم عشرة. يعني أنّه لم يكن يعاشر جليسا له إلّا أتمّ عشرة وأحسنها وأكرمها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ له في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ونحوها، بل يحسن إلى عشيرة غاية الإحسان، ويحتمل غاية الاحتمال، فكانت عشرته لهم احتمال أذاهم، وجفوتهم جملة، لا يعاقب أحدا منهم ولا يلومه ولا يبادئه بما يكره، من خالطه يقول: أنا أحبّ النّاس إليه، لما يرى من لطفه به، وقربه منه، وإقباله عليه، واهتمامه بأمره، وتضحيته له، وبذل إحسانه إليه، واحتمال جفوته، فأيّ عشرة كانت أو تكون أكرم من هذه العشرة.
قال الحسين رضي الله عنه: سألت أبي عن سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وترك ما لا يعنيه، كان لا يذمّ أحدا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رءوسهم الطّير، فإذا سكت، تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلّم عنده، أنصتوا له حتّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوّلهم، يضحك ممّا يضحكون منه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتّى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثّناء إلّا من
(1) سورة الأنعام: 33، 34.
مكافيء، ولا يقطع على أحد حديثه، حتّى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام» .
وقوله: «من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه» وصفه بصفتين خصّ الله بهما أهل الصّدق والإخلاص: وهما الإجلال والمحبّة، وكان قد ألقى عليه هيبة منه ومحبّة، فكان كلّ من يراه يهابه ويجلّه، ويملأ قلبه تعظيما وإجلالا، وإن كان عدوّا له، فإذا خالطه وعاشره، كان أحبّ إليه من كلّ مخلوق، فهو المجلّ المعظّم المحبوب المكرّم، وهذا كمال المحبّة أن تقرن بالتّعظيم والهيبة، فالمحبّة بلا تعظيم ولا هيبة ناقصة، والهيبة والتّعظيم من غير محبّة ناقصة كما تكون للغادر الظّالم نقصا أيضا، والكمال: أن تجتمع المحبّة والودّ، والتّعظيم والإجلال، وهذا لا يوجد إلّا إذا كان في المحبوب صفات الكمال الّتي يستحقّ أن يعظّم لأجلها، ويحبّ لأجلها.
ولمّا كان الله سبحانه وتعالى أحقّ بهذا من كلّ أحد، كان المستحقّ لأن يعظّم ويكبر ويهاب ويحبّ، ويودّ بكلّ جزء من أجزاء القلب، ولا يجعل له شريك في ذلك. وكلّ محبّة وتعظيم للبشر، فإنّما تجوز تبعا لمحبّة الله وتعظيمه، كمحبّة رسوله وتعظيمه، فإنّها من تمام مرسله وتعظيمه، فإنّ أمّته يحبّونه لحبّ الله له، ويعظّمونه ويجلّونه لإجلال الله له. فهي محبّة لله من موجبات محبّة الله وكذلك محبّة أهل العلم والإيمان، ومحبّة الصّحابة- رضي الله عنهم وإجلالهم تابع لمحبّة الله ورسوله لهم.
والمقصود أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألقى الله سبحانه وتعالى عليه منه المهابة والمحبّة، ولكلّ مؤمن مخلص حظّ من ذلك. قال الحسن البصريّ- رحمه الله: إنّ المؤمن رزق حلاوة ومهابة، يعني يحبّ ويهاب ويجلّ بما ألبسه الله سبحانه من ثوب الإيمان المقتضي لذلك، ولهذا لم يكن بشر أحبّ إلى بشر ولا أهيب وأجلّ في صدره من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الصّحابة رضي الله عنهم.
قال عمرو بن العاص قبل إسلامه: إنّه لم يكن شخص أبغض إليّ منه، فلمّا أسلم، لم يكن شخص أحبّ إليه منه. ولا أجلّ في عينه منه، قال: ولو سئلت أن أصفه لكم، لما أطقت، لم أكن أملأ عينيّ منه إجلالا له «2» .
وقال عروة بن مسعود لقريش: «يا قوم والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّدا صلى الله عليه وسلم ما يحدّون النّظر إليه تعظيما له، وما تنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم فيدلّك بها وجهه وصدره، وإذا توضّأ، كادوا يقتتلون على وضوئه» «3» .
فلمّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملا على ما يقتضي أن يحمد عليه مرّة بعد مرّة سمّي محمّدا، وهو اسم موافق
(1) أخرجه الترمذي في «الشمائل» رقم (344) ، وذكره الألباني في مختصر الشمائل (ص 24) .
(2)
قطعة من حديث مطول أخرجه مسلم (121) في الإيمان: باب كون الإسلام يهدم ما قبله من حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه.
(3)
قطعة من حديث مطول أخرجه البخاري (الفتح 5/ 2731) .
لمسمّاه، ولفظ مطابق لمعناه.
والفرق بين «محمّد» و «أحمد» من وجهين: أحدهما: أنّ «محمّدا» هو المحمود حمدا بعد حمد، فهو دالّ على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه، و «أحمد» أفعل تفضيل من الحمد يدلّ على أنّ الحمد الّذي يستحقّه أفضل ممّا يستحقّه غيره، في «محمّد» زيادة حمد في الكمّيّة و «أحمد» زيادة في الكيفيّة، فيحمد أكثر حمد وأفضل حمد حمده البشر.
الوجه الثّاني: أنّ «محمّدا» هو المحمود حمدا متكرّرا كما تقدّم و «أحمد» هو الّذي حمده لربّه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدلّ أحد الاسمين وهو «محمّد» على كونه محمودا، ودلّ الثّاني وهو «أحمد» على كونه أحمد الحامدين لربّه.
والحاصل أنّه صلى الله عليه وسلم سمّي «محمّدا» و «أحمد» لأنّه يحمد أكثر ممّا يحمد غيره، وأفضل ممّا يحمد غيره فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا هو المختار، وذلك أبلغ في مدحه وأتمّ معنى، ولو أريد به معنى الفاعل لسمّي الحمّاد، وهو كثير الحمد، كما سمّي «محمّدا» وهو المحمود كثيرا، فإنّه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق حمدا لربّه، فلو كان اسمه باعتبار الفاعل، لكان الأولى أن يسمّى «حمّادا» كما أنّ اسم أمّته الحمّادون.
وأيضا فإنّ الاسمين إنّما اشتقّا من أخلاقه وخصائله المحمودة الّتي لأجلها استحقّ أن يسمّى «محمّدا» و «أحمد» فهو الّذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويحمده أهل السّماء والأرض فلكثرة خصائله المحمودة الّتي تفوت عدّ العادّين، سمّي باسمين من أسماء الحمد يقتضيان التّفضيل والزّيادة في القدر والصّفة. والله أعلم.