الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غزوة فتح مكة:
التزمت قريش بشروط صلح الحديبية حوالي السنة ونصف السنة، ثم وقعت في خطأ كبير حين أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، حين وثبوا عليهم ليلا على ماء بأرض خزاعة يعرف بالوتير. وقد أعانت قريش بكرا بالخيل والسلاح والرجال «1» ؛ وقالوا:«ما يعلم بنا محمد، وهذا الليل وما يرانا أحد» ، فعلوا ذلك للضغن على رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . وقد استنجدت خزاعة بالمسلمين، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة يستنصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنشد في ذلك أبياتا من الشعر أمامه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم. «نصرت يا عمرو بن سالم» ، ثم مرت بهم سحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ هذه السّحابة لتستهلّ بنصر بني كعب» «3» . وليس هناك من شك في أن انتصار قريش لحلفائها ودعمها لهم على حلفاء المسلمين، هو نقض صريح لبنود صلح الحديبية أدركت قريش أخطاره، وندمت على فعلها له، ولذلك فإنها بادرت إلى إرسال أبي سفيان إلى المدينة بهدف تجديد المعاهدة، وتشير بعض الروايات إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى قريش «4» يخيّرهم بين دفع دية قتلى خزاعة، أو البراءة من حلف بني بكر، أو القتال، فاختارت الحرب، ثم ندمت فبادرت إلى إرسال أبي سفيان كما أسلفنا، لكنه عاد خائبا «5» ، فقد فشل في الحصول على أي وعد بتجديد المعاهدة التي تضمنت بنود صلح الحديبية «6» .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز والاستعداد للغزو غير أنه لم يسمّ وجهته، وحرص على ضمان السرية التامة
(1) أوضح موسى بن عقبة أ: ن من بين أشراف قريش الذين أعانوا بكرا على خزاعة: صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، وأن الإعانة كانت بالسلاح والرقيق. ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 313، من رواية موسى دون إسناد، وانظر ابن حجر- فتح الباري 8/ 6.
(2)
ألجأت بكر خزاعة أثناء الحرب إلى منطقة الحرم وواصلت حربهم فيه كما ذكر ابن إسحاق (ابن هشام- السيرة 2/ 389) بدون إسناد، وبلغ عدد قتلى خزاعة عشرين قتيلا، الواقدي مغازي 2/ 784 بإسناد ضعيف.
(3)
رواه ابن إسحاق بإسناد حسن لذاته وصرح بالتحديث، ورجاله رجال الصحيح، ما عدا ابن إسحاق انظر: ابن كثير- البداية 4/ 278- 309- 310، وله شاهدان ضعيفان أولهما في المعجم الصغير للطبراني 2/ 73، وثانيهما أورده أبو يعلى في مسنده 4/ 400، وقد روى البزار- كشف الأستار ص/ 342 القصيدة التي أنشدها عمرو بن سالم الخزاعي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مستنجدا مطالبا بتنفيذ بنود الحلف. ورواه ابن أبي شيبة مرسلا، الصنعاني- المصنف 5/ 374 مختصرا بإسناد صحيح وفيه اختلاف يسير في ألفاظه مع إسقاطه للشعر، وانظر الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 162.
(4)
ابن حجر- المطالب العالية 4/ 234، بإسناد صحيح، فتح الباري 8/ 6 (حديث 4280) ، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 281، الواقدي- المغازي 2/ 786- 7 وعنده أن اسم مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش هو حمزة.
(5)
ابن حجر- فتح الباري 8/ 6 عن مرسل عكرمة عن ابن أبي شيبة، وابن إسحق معلقا، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 312.
(6)
فقد ردّه أبو بكر وعمر وعلي وفاطمة، وأغلظ عليه عمر في الرد، وأبت ابنته أم المؤمنين أم حبيبة أن تسمح له بالجلوس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له:«إنك رجل مشرك نجس» ، وحين كلم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يجبه بشيء. ابن كثير- البداية 4/ 313- 14، البيهقي- دلائل النبوة 5/ 9/ 11، السنن الكبرى 9/ 120، الصنعاني- المصنف 5/ 375. بإسناد صحيح، وهو جزء من رواية ابن إسحاق الطويلة في فتح مكة، ابن هشام- السيرة 2/ 389، بدون إسناد.
في هذا المجال، وسأل ربه قائلا:«اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها» «1» .
بدأت الاستعدادات لحشد القوة الإسلامية القصوى المستطاعة، وكان لا بد من أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه سائر إلى مكة، ثم استنفر القبائل التي تقطن قرب المدينة: سليما وأشجع ومزينة وأسلم وغفارا، فمنهم من التحق بالجيش الإسلامي في المدينة، ومنهم من التحق بالمسلمين في الطريق إلى مكة «2» ، وقد ارتفعت معنويات المسلمين كثيرا، وكان حسان بن ثابت يلقي شعره الذي يذكر فيه بمصاب خزاعة، ونقض المشركين للعهد، ويحرض المسلمين على القتال «3» ، وبلغ عدد جيش المسلمين عشرة آلاف مقاتل «4» ، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد» «5» ، وهذا يدل على مدى تعاظم قوات المسلمين خلال فترة السنة ونصف التي أعقبت صلح الحديبية «6» ، ورغم ذلك فقد التزم الجميع بالسرية التامة وحجبت الأخبار تماما عن قريش «7» مما يعكس مدى الضبط والربط والالتزام الدقيق بأوامر القيادة، والتقويم السليم للمصلحة الإسلامية العليا. وكان الاستثناء الوحيد في هذا المجال المحاولة الفاشلة التي أقدم عليها الصحابي البدري حاطب ابن أبي بلتعة حين أرسل مع امرأة كتابا إلى قريش يخبرهم فيه بأمر الغزوة»
. وهنا تظهر إحدى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فقد أمر ثلاثة من الصحابة «9» بأن يقتفوا أثر المرأة وقال لهم: «انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» «10» ، وقد نفذ الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم فأمسكوا بالمرأة في الموضع المحدد وطالبوها بالكتاب فأنكرت أمره في باديء الأمر، ولكنهم هددوها بالقيام بتفتيشها، فسلمته لهم، وحينما رجعوا بالكتاب والمرأة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلب حاطب وسأله عن أمر الكتاب فلم ينكر وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول
(1) ابن كثير- البداية 4/ 283 بإسناد صحيح عن طريق محمد بن جعفر عن عروة عن عائشة- رضي الله عنها، وأورده ابن هشام- السيرة 2/ 389 بإسناد حسن من حديث الزهري عن عروة عن المسور.
(2)
ابن سعد- الطبقات 2/ 397 بدون إسناد، وابن إسحاق (ابن هشام- السيرة 2/ 399) بإسناد حسن لذاته، الواقدي- مغازي 2/ 801.
(3)
ابن كثير- البداية 4/ 283، ابن هشام- السيرة 2/ 389.
(4)
ابن سعد- الطبقات 2/ 397 بدون إسناد، ومن رواية البخاري- الصحيح (الفتح حديث 4276) ، الواقدي- المغازي 2/ 801.
(5)
ابن إسحاق، أورده ابن هشام- السيرة 2/ 399 بإسناد حسن لذاته.
(6)
انظر تعليق ابن هشام على تقويم الزهري لأهمية صلح الحديبية ابن هشام- السيرة 3/ 322، والعمري- السيرة النبوية الصحيحة 2/ 474.
(7)
ابن حجر- المطالب العالية 4/ 244.
(8)
البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4274) ، مسلم- الصحيح 4/ 1941- 2 (حديث 2494) ، الواقدي- المغازي 2/ 798- 9.
(9)
وهم: علي والزبير والمقداد- رضي الله عنهم.
(10)
البخاري- الصحيح 4/ 72، 579- 599، مسلم- الصحيح 2/ 170.
الله، لا تعجل عليّ، إني كنت: امرأ ملصقا في قريش حليفا، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام» فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أما إنّه قد صدقكم» . فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: «يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّه قد شهد بدرا، وما يدريك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدرا وقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1» ، فأنزل الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «2» . فدمعت عينا عمر وقال: «الله ورسوله أعلم» «3» .
بدأت قوات الفتح مسيرتها المظفرة من المدينة في العاشر من رمضان سنة ثمان من الهجرة «4» ، بعد أن استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري «5» ، وكانوا صياما فواصلوا الصوم حتى بلغوا كديدا فأفطر النبي صلى الله عليه وسلم وأفطر الجيش «6» ، وقد وصل المسلمون إلى مرّ الظهران وعسكروا هناك دون أن تصل قريشا أية أخبار عن تحركهم مما يدل على نجاح المسلمين في تعمية الأخبار «7» وفي الطريق إلى مكة، قدم بعض زعماء قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلنوا إسلامهم، منهم ابن عم أبيه وأخوه من الرضاعة أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب «8» ،
(1) البخاري- الصحيح 4/ 72 (حديث 4274) ، مسلم- الصحيح 2/ 170، 4/ 1921- 1922 (حديث 2494) ، ابن هشام- السيرة 2/ 399، الواقدي- مغازي 2/ 798- 799، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 333 من حديث البيهقي.
(2)
القرآن الكريم- سورة الممتحنة، الآية/ 1، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4274) ، مسلم- الصحيح 4/ 1941- 1942 (حديث 2494) .
(3)
البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 3983) .
(4)
مسلم- شرح النووي 3/ 176 (حديث 113- 114) .
(5)
ابن هشام- السيرة 2/ 399، ابن حجر- المطالب العالية 4/ 248، الحاكم- المستدرك 3/ 44، وانفرد ابن سعد- الطبقات 2/ 135 بأنه عبد الله بن أم كلثوم، معلقا.
(6)
البخاري- الصحيح 5/ 185، فتح الباري 4/ 180- 181 (حديث 4275)، مسلم- الصحيح 2/ 784 (حديث 1113) وفي رواية ثانية عند مسلم: أن الإفطار كان بكراع الغميم (الصحيح حديث 1114) والموضعان متقاربان.
(7)
صحيح مسلم- شرح النووي 3/ 176 وقد وردت روايات صحيحة بخروج بعض زعماء قريش يتحسسون الأخبار وإلى أنهم رأوا نيران المسلمين وتعجبوا من كثرة الجيش وأن أحدهم قد ظن أنهم خزاعة، ابن حجر- المطالب 4/ 244- 248.
(8)
كان أبو سفيان بن الحارث من أشد وألد خصوم الإسلام فقد استمر في مقاومته للرسول والإسلام طوال عشرين سنة وشارك في أغلب الحروب مع قوات المشركين وكان يهجو المسلمين. ولكنه أسلم وحسن إسلامه وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت له مواقف بطولية وصمود مشهود مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنين، الحاكم- المستدرك 3/ 43- 45، ابن هشام- السيرة 2/ 400، الطبري- تاريخ 3/ 50، البيهقي- دلائل النبوة 5/ 27- 8، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 164- 167، ونقل مسلم في صحيحه 2/ 395- قصيدته التي قالها في إسلامه.
وكان قد لقيه بالأبواء فأسلم على يديه، وأسلم عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة «1» ، وكان قبل ذلك شديد العداوة للمسلمين أيضا، وكان إسلامه حين التقى النبي صلى الله عليه وسلم بين السقيا والعرج. ولقى الرسول صلى الله عليه وسلم في الجحفة عمه العباس ابن عبد المطلب مهاجرا بعياله يريد المدينة «2» ، وكان العباس قد أسلم قبيل غزوة خيبر «3» .
خرج ثلاثة من زعماء قريش من مكة ليتحسسوا الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهم أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن جزام، وبديل بن ورقاء، ولم تكن الأخبار قد وصلت مسامع قريش عن خروج المسلمين وتقدمهم ووصولهم إلى مرّ الظهران، ولكنهم كانوا يتوقعون أمرا بسبب فشل سفارة أبي سفيان إلى المدينة ومسعاه عند الرسول صلى الله عليه وسلم في تجديد معاهدة الصلح، وكان الزعماء القرشيون الثلاثة قد أبصروا جيشا كثيفا يعسكر في المنطقة ولا حظوا كثرة نيران معسكره، وكان أبو سفيان ورفيقاه يتناقشون في أمر هذا الجيش، فقد ظن بديل بن ورقاء أنها جموع خزاعة، وعارضه أبو سفيان في ذلك، فمر بهم العباس بن عبد المطلب وأخبرهم بأنه جيش المسلمين، وحين سألوه عن رأيه طلب من أبي سفيان أن يمضي معه وبجواره إلى معسكر المسلمين، رغبة من العباس فيما يبدو في أن يصون مكة ويمنع الدماء والقتال، فوافقه أبو سفيان، ولما دخل أبو سفيان معسكر المسلمين أراد عمر قتله واستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فصرفه عنه، وأدخل العباس أبا سفيان على الرسول صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام، وأمضى معه في ذلك شطرا من الليل، فتلطف في الكلام غير أنه تردد في إعلان إسلامه، ولكنه بعد أن أمضى ما بقي من ليلته تلك مع العباس عاد في صباح اليوم التالي فحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم «4» .
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلع أبا سفيان على قوة المسلمين وعددهم وعدتهم وتنظيمهم، فأمر عمه العباس أن يقف مع أبي سفيان عند مضيق الجبل بمر الظهران، ومر جيش المسلمين أمامه وأدرك بأنهم أصبحوا قوة غالبة
(1) وهو أخو أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنه لأبيها وقد حسن إسلامه وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم واشترك في حصار الطائف واستشهد خلال ذلك، انظر ابن عبد البر- الاستيعاب 2/ 263.
(2)
ابن هشام- السيرة 2/ 400 وهو من مراسيل الزهري.
(3)
أحمد- المسند، الفتح 21/ 122، الصنعاني، المصنف 5/ 466، وأخرجه النسائي، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 217. وقد وردت روايات ضعيفة تبين إسلامه قبل غزوة بدر الكبرى، ابن سعد- الطبقات 4/ 10- 11، بل إن إحدى الروايات جعلت إسلامه قبل الهجرة إلى المدينة، ابن سعد- الطبقات 2/ 31 بإسناد منقطع وفيه الواقدي، ومع التأكيد على ما قدمه الصحابي الجليل العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم من خدمات جليلة للإسلام قبل إسلامه وبعد ذلك حيث كان عينا للرسول صلى الله عليه وسلم على قريش وملاذا للمستضعفين من المسلمين في مكة قبل أن يسلم، فإن أسره في معركة بدر مع المشركين ومطالبة النبي صلى الله عليه وسلم إياه بأن يفتدي نفسه من الأسر تقطع بعدم دخوله الإسلام حتى ذلك الوقت. ويترجح أنه كتم إسلامه في الفترة التي أعقبت غزوة خيبر لمقتضيات مصلحة المسلمين.
(4)
ابن حجر- المطالب العالية 4/ 244، قال ابن حجر وهو حديث صحيح، وقد أسلم بديل الخزاعي وحكيم بن حزام حال وصولهما النبي صلى الله عليه وسلم الواقدي- مغازي 2/ 815، ابن سعد- الطبقات 2/ 135.
لا تستطيع قريش مواجهتهم، حتى إذا مرت به كتيبة المهاجرين والأنصار وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان للعباس:«والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما» ، فقال له العباس:«ويحك يا أبا سفيان، إنها النبوّة» ، قال:
«فنعم إذا» «1» . وطلب العباس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لأبي سفيان شيئا يفخر به- وهو يعرف أنه يحب الفخر- فوافق على ذلك وقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» «2» .
وحين مرت كتيبة الأنصار بأبي سفيان عند المضيق بمر الظهران، قال سعد بن عبادة حامل رايتهم:«اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة» «3» فتأثر أبو سفيان من ذلك واشتكى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد، فقال صلى الله عليه وسلم:«كذب «4» سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة» «5» ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم راية الأنصار من سعد بن عبادة ودفعها إلى ابنه قيس، ولكن سعدا كلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ملتمسا أن يصرف ابنه عن الموضع الذي هو فيه، مخافة أن يقع في خطأ، فأخذها منه «6» .
ويقدم محمد بن عمر الواقدي تفصيلات دقيقة عن تشكيلات الجيش الإسلامي وأعداد المهاجرين والأنصار وكل من القبائل المشاركة، وأسماء المبعوثين الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبائل لاستنفارها، وتوزيع الرايات والألوية على أمراء الكتائب «7» .
عاد أبو سفيان إلى مكة بعد أن رأى مبلغ قوة المسلمين وكثرتهم واستعدادهم وعدتهم وبسالتهم، وحين دخل مكة صرخ في قومه محذرا أنه لا قبل لهم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من قوات ونهاهم عن المقاومة، ووجههم إلى
(1) ابن حجر- المطالب العالية 4/ 244، الطحاوي- شرح معاني الآثار 3/ 322.
(2)
حديث صحيح من رواية إسحاق بن راهويه أورده ابن حجر في المطالب العالية (حديث 4362) وقال هذا حديث صحيح، ورواه ابن إسحاق في السيرة بإسناد حسن (ابن هشام 4/ 62- 67 وسياقهما واسع بالمقارنة مع ما أورده الإمام البخاري في الصحيح (فتح الباري حديث 4280)، وقال ابن حجر في ترجمته لحكيم بن حزام:«وثبت في السيرة وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن» (الإصابة/ 3491) . وأورد الحافظ ابن كثير حديث ابن إسحاق الذي فيه «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وقال: زاد عروة «ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن» ، البداية والنهاية 5/ 323.
(3)
البخاري- الصحيح 5/ 186 (حديث 4280) .
(4)
كانت تستعمل بمعنى أخطأ.
(5)
البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4280) .
(6)
ابن حجر- مختصر زوائد البزار، ص/ 248 وصححه، وانظر فتح الباري- شرح حديث (4280) وقال ابن حجر فيه أن إسناده على شرط البخاري، وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم الراية إلى الزبير بن العوام- رضي الله عنه وأن الزبير دخل مكة بلوائين: ابن حجر- المطالب العالية 4/ 241، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 169، والثابت في الصحيح أن راية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مع الزبير بن العوام (البخاري- الصحيح- فتح الباري، حديث 2480) ، وجزم موسى بن عقبة في المغازي عن طريق الزهري أنه قد دفعها إلى الزبير، ابن حجر- فتح الباري (شرح الحديث 2480) وانظر ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 323- 328.
(7)
الواقدي- مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/ 799- 801، وهو متروك عند المحدثين فيما يختص بالمسائل المتصلة بالسياسة الشرعية، ولكن هذه المعلومات تاريخية عامة ولا ضرر من قبولها، إذا أسندت بطرق أخرى.
ما يحقق أمنهم مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» .
قرر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مر الظهران الزحف على مكة فعبأ الجيش وقسمه إلى مجنبتين وقلب من الفرسان، وجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، والزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وأبا عبيدة عامر بن الجراح على الرجالة «2» ، وكانت رايته سوداء ولواؤه أبيض «3» .
لم يرتدع المشركون المعاندون ورءوس الكفر من قريش عن غيهم حتى بعد أن أحدقت بهم قوات المسلمين، فقد عولوا على تجميع قوات من قبائل شتى من حلفائهم لكي يدفعوهم لحرب المسلمين بقصد منعهم من دخول مكة، وكانوا مهيّئين للالتحاق بتلك القوات إذا حققت ما يؤملون، أما في حالة الفشل فإنهم يعطون ما طلب أبو سفيان منهم من الصلح. وقاد جموع أحلاف قريش التي تجمعت في الخندمة «4» صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو «5» .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم قواته بدخول مكة لفتحها وقتال المقاومين، فتقدم المسلمون حتى وصلوا إلى الصفا ما يعرض لهم أحد يقاومهم إلّا قتلوه «6» .
دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها من جهة كداء «7» ، في حين دخل خالد بن الوليد بقواته من أسفلها «8» ، وكانت مقاومة المشركين يسيرة، وكانت أعنف المواجهات قد حصلت عند جبل الخندمة حين التحمت قوات خالد بالمشركين فاستشهد اثنان من فرسان المسلمين على أصح الروايات «9» ، في حين قتل من المشركين اثنا عشر رجلا «10» ، وكان هذا القتال الذي جرى في مكة بسبب عدم احترام المقاومين للأمان الذي أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة، وقد توجع أبو سفيان بسبب كثرة القتلى وخاطب النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: «يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد
(1) حديث «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..» من رواية إسحاق بن راهويه، وهو صحيح وقد مر ذكره آنفا.
(2)
مسلم- الصحيح 3/ 1406 (حديث 1780) ، ابن هشام- السيرة 2/ 407.
(3)
ابن ماجه- السنن 2/ 941 بإسناد حسن، الألباني- صحيح سنن ابن ماجه 2/ 123 رقم (2274، 2818) ، وانظر كذلك النسائي- السنن 5/ 300.
(4)
أحد جبال مكة.
(5)
ابن هشام- السيرة 2/ 407.
(6)
مسلم- الصحيح 3/ 1405 (حديث 1780) .
(7)
البخاري- الصحيح 5/ 189 (حديث 4290- 4291) .
(8)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 10) .
(9)
البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4280) ، وفي رواية ابن إسحاق ثلاثة (ابن هشام- السيرة 2/ 407) ، والعمدة على ما أورده البخاري فقد نص على اثنين من الشهداء بين المسلمين.
(10)
ابن هشام- السيرة 2/ 407، الحاكم المستدرك 3/ 241، ونقل البيهقي في السنن الكبرى (9/ 120) من مراسيل موسى بن عقبة أنهم قريب من عشرين رجلا بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة من هذيل وذكر الواقدي أنهم أربعة وعشرون من قريش وأربعة من هذيل (المغازي 2/ 827- 829) ، ابن سعد- الطبقات 2/ 126، وجعلهم الطبراني سبعين رجلا وهو ما نقل عنه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 331) .
اليوم» .»
ولقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماء أربعة رجال وامرأتين بسبب ما كانوا قد ألحقوه من أذى شديد وتنكيل بالمسلمين فكان في إهدار دمائهم عبرة للطغاة والمستهترين، ولكل من تسول له نفسه الظلم والطغيان «2» . وأباح النبي صلى الله عليه وسلم لخزاعة أن تثأر من بني بكر في اليوم الأول من فتح مكة حتى العصر وذلك لما كان منهم بالوتير «3» ، وعند ما دخل العصر أمر بكف السلاح عن بني بكر، وبيّن حرمة مكة «4» .
أعلن النبي صلى الله عليه وسلم العفو العام عن عامة أهل مكة حيث اجتمعوا إليه قرب الكعبة المشرفة ينتظرون حكمه فيهم فقال لهم: «ماذا تظنّون أنّي فاعل بكم؟» ،: فقالوا «خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم» فقال لهم: «لا تثريب عليكم يغفر الله لكم» ، وفي: رواية «اذهبوا فأنتم الطّلقاء» «5» . وقد نزل قول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ «6» .
لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخول الفاتحين، بل إنه دخل خاشعا لله تعالى وهو يقرأ سورة الفتح ويرجّع في قراءتها وهو على راحلته «7» ، وقد دخل المسجد الحرام وطاف بالكعبة المشرفة فاستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين ولكي يعلّم أبناء الأمة آداب الطواف، وأعلن صلى الله عليه وسلم حرمة مكة وبأنها لا تغزى بعد الفتح «8» ، ورفع من مكانة قريش وأمر بألّا يقتل قرشي صبرا بعد الفتح وإلى يوم القيامة «9» . وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتحطيم الأصنام والأوثان، وشارك صلى الله عليه وسلم بنفسه في ذلك وهو يقرأ قول الله تعالى: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ «10» . وقوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «11» .
(1) مسلم- الصحيح 2/ 95- 96.
(2)
البخاري- الصحيح 5/ 188، مسلم- الصحيح 1/ 570، ابن هشام- السيرة 2/ 410، البيهقي- السنن 9/ 120، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 299، كما نقله السيوطي عن النسائي وزهر الربا 7/ 105) .
(3)
أحمد- الفتح الرباني 21/ 159، المسند 4/ 32.
(4)
أحمد- الفتح الرباني 21/ 159، المسند 4/ 2، 3 وقد قتلت خزاعة في اليوم الثاني من أيام الفتح رجلا في مزدلفة تطلبه بثأر، فظهر على النبي صلى الله عليه وسلم الغضب الشديد ودفع دية القتيل البكري، وبين أن من قتل بعد ذلك قتيلا فأهل القتيل بالخيار بين القصاص والدية. وانظر حديث شريح في حرمة مكة، رواه البخاري في الصحيح (الفتح حديث 4295) ، مسلم 2/ 987- 988 (حديث 1354) .
(5)
القاسم بن سلام- الأموال/ 143، ابن سعد 2/ 141- 142.
(6)
القرآن الكريم- سورة النحل، الآية/ 126.
(7)
البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4280) .
(8)
الترمذي- السنن 3/ 83، وقال عنه: إنه حسن صحيح، أحمد- المسند 4/ 412.
(9)
مسلم- الصحيح 2/ 97 (حديث 1782) ، أحمد- المسند 3/ 412، بإسناد صحيح.
(10)
القرآن الكريم- سورة سبأ، الآية/ 49.
(11)
القرآن الكريم- سورة الإسراء، الآية/ 81 وقد ورد في رواية البخاري الآية (49) من سورة سبأ ولم ترد الثانية (حديث 4287) وفي مسلم- الصحيح 3/ 2408 (حديث 1781) وردت الأولى والثانية، وفي روايتين أخريين له أورد الآية من سورة الإسراء.
وقد تم تحطيم الأصنام جميعا، وكان عددها ثلاثمائة وستين صنما «1» . وكانت قد علقت في جدران الكعبة الداخلية صورا لإبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام فقال صلى الله عليه وسلم:«قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام» «2» . ووردت رواية أخرى تذكر وجود صورة مريم معلقة داخل الكعبة «3» فغطيت جميع الصور بالزعفران وتم إزالتها من جوف الكعبة قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم فيها «4» ، ووجد فيها حمامة من عيدان فكسّرها ورمى بها خارج الكعبة «5» ، وعند ما طهرت الكعبة دخلها النبي صلى الله عليه وسلم وصلى بها «6» . وحين خرج صلى الله عليه وسلم من الكعبة دعا عثمان ابن طلحة فأعطاه مفتاح الكعبة فأبقى الحجابة في أيدي بني شيبة كما كانت في الجاهلية «7» ، ثم استلم الحجر الأسود وطاف بالبيت من غير إحرام مهللا مكبرا شاكرا ذاكرا حامدا «8» .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا الحبشي أن يؤذن، فصعد إلى ظهر الكعبة وأذن عليها «9» ، وبعد تطهير البيت العتيق من الأصنام عاد البيت كما أراه الله تعالى مركزا للتوحيد الخالص، وكان ذلك أكبر ضربة للوثنية في جزيرة العرب حيث كانت الكعبة من أعظم مراكزها، وإتماما لهذا الهدف الأساسي، فإنه ما أن تم فتح مكة وجرى تطهير الكعبة، حتى بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى إرسال بعض أصحابه لهدم ما تبقى من مراكز الوثنية، فقد وجّه خالد بن الوليد إلى نخلة من ديار ثقيف لهدم «العزّى» التي كانت قبائل مضر وقريش وكنانة تعبدها وتعظمها، فهدمها، وكان ذلك في الخامس والعشرين من شهر رمضان «10» ، وأرسل سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا إلى «مناة»
(1) البخاري- الصحيح 5/ 188، حديث 4287، مسلم- الصحيح 3/ 1408 (حديث 1781) .
(2)
البخاري- الصحيح 5/ 188، احمد- المسند 1/ 365، وأورد البخاري رواية أخرى جاء فيها قوله صلى الله عليه وسلم:«هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم» (حديث 3351) .
(3)
البخاري- الصحيح (حديث 3351) .
(4)
المرجع السابق 5/ 188.
(5)
الذهبي- المغازي ص/ 552 من رواية لابن إسحاق بإسناد حسن.
(6)
البخاري- الصحيح 5/ 222 (حديث 4400) وقد أورد الإمام البخاري في هذه الرواية الصحيحة تفاصيل دقيقة عن المكان الذي صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة، كما أورد تفصيلات عن بناء الكعبة والأعمدة الداخلية.
(7)
الصنعاني- المصنف 5/ 83- 85 الأحاديث 9073، 9074، 9076، وانظر ابن حجر- فتح الباري- شرح حديث (4289) .
(8)
البخاري- الصحيح 3/ 21 (حديث 4286) ، مسلم- الصحيح 2/ 990 (حديث 1358) وفيه أنه كان يلبس المغفر منذ دخل مكة، ثم نزعه عن رأسه ولبس عمامة سوداء.
(9)
الذهبي- المغازي ص/ 555 بإسناد حسن، البيهقي- دلائل النبوة 5/ 78 بإسناد صحيح، ابن سعد- الطبقات 3/ 234- 235، الواقدي- مغازي 2/ 846 ونقل الواقدي تعليقات بعض وجهاء قريش على صعود بلال على ظهر الكعبة وهي تعكس الامتعاض والتمييز العنصري المخالف للإسلام بطبيعة الحال. ولم يكونوا قد أسلموا بعد.
(10)
ابن هشام- السيرة 4/ 112 برواية ابن إسحاق، وفيه أن سدنتها وحجابها كانوا من بني شيبان وبني سليم حلفاء بني هاشم، وانظر الواقدي- المغازي 2/ 873، ابن سعد- الطبقات 2/ 145.
بالمشلل من ناحية قديد، وكانت من الأصنام التي تعظمها قبائل العرب وخصوصا الأوس والخزرج قبل الإسلام فهدمها وذلك لست بقين من رمضان «1» . كما أرسل عمرو بن العاص إلى «سواع» صنم هذيل فهدمه، وأرسل الطفيل بن عمرو الدوسي لإحراق (ذي الكفّين) صنم عمرو بن حممة فأنجز الطفيل مهمته «2» . مما أزال أكبر مراكز الوثنية التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «3» .
اجتمع الناس لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ورسوله «4» ، فلما فرغ من بيعة الرجال، بايع النساء وأورد الطبري في تاريخه تفصيلات بيعة النساء، وهي لم ترد عن طريق صحيحه، وقد تضمنت «ألّا يشركن بالله تعالى ولا يسرقن ولا يزنين ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصين الرسول في معروف» «5» .
ولقد خشي بعض الأنصار أن يكون الأمان الذي منحه الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش وتسامحه معهم دليلا على رغبته في قريته ورغبته في المقام بين أبناء عشيرته، فأخبره الوحي بما قالوا فخاطبهم قائلا:«إنّي عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم» ، فاعتذروا إليه فقبل اعتذارهم «6» .
خطب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة عدة خطب وردت بمرويات صحيحة ومتواترة، أولها كانت خطبته يوم الفتح على باب الكعبة بيّن فيها دية الخطأ شبه العمد في القتل، وألغى مآثر الجاهلية وثاراتها مستثنيا منها سقاية الحاج وسدانة البيت العتيق «7» .
وفي الخطبة الثانية أبطل أحلاف الجاهلية وبأنه «لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة، والمؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، يرد سراياهم على قعيدهم» ، كما بين صلى الله عليه وسلم فيها أنه:«لا يقتل مؤمن بكافر، دية الكافر نصف دية المسلم» ، وأنه «لا جلب ولا
(1) ابن سعد- الطبقات 2/ 146، هشام ابن محمد الكلبي- الأصنام ص/ 15.
(2)
ابن سعد- الطبقات 2/ 146 معلقا، ابن هشام- السيرة 1/ 385 بدون إسناد.
(3)
القرآن الكريم- سورة النجم، الآية/ 19- 20.
(4)
بايع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد الفتح على الإسلام والإيمان والجهاد، انظر: البخاري- الصحيح 5/ 72، 193، مسلم- الصحيح 2/ 140.
(5)
الطبري- تاريخ 3/ 61- 62 بلاغا، وذكر الطبري تفصيلات عن مناقشة هند بنت عتبة ومداخلاتها في أثناء البيعة وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بأن يأخذ له البيعة عليهن، وقد ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبايع النساء بالكلام بالآية ولا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً
…
سورة الممتحنة (الآية/ 12، وأنه ما مست يده الكريمة امرأة أجنبية عنه (البخاري- الصحيح- فتح الباري حديث 2588) ، مسلم- الصحيح (حديث 1866) .
(6)
مسلم- الصحيح 3/ 1406 حديث 1780، وأورد الإمام البخاري أن أسامة بن زيد- رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان سينزل في بيته، فقال صلى الله عليه وسلم:«وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» ، ولذلك فقد أقام صلى الله عليه وسلم في قبة ضربت له في الحجون (البخاري- الصحيح 5/ 187) ، (مسلم- الصحيح 1/ 567) .
(7)
أحمد- المسند 3/ 410 بإسناد حسن لذاته، أبو داود- السنن (2/ 492) بإسناد صحيح.
جنب ولا تؤخذ صدقاتهم إلّا في دورهم» «1» .
أما في الخطبة الثالثة فقد أعلن صلى الله عليه وسلم تحريم مكة وتحريم صيدها وخلالها ولقطتها والقتال فيها، وقال إن الله قد أحلها له ساعة من نهار وهو وقت الفتح، وبين أنه لا هجرة بعد الفتح ولكن يبقى الجهاد والنية «2» .
وأوضح صلى الله عليه وسلم في خطبته الرابعة: أن وليّ المقتول بالخيار بين قبول الدية أو القصاص «3» .
وفي فتح مكة نزل قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً «4» .
ولقد كان من أبرز نتائج فتح مكة مبادرة قبائل العرب إلى قبول الإسلام بعد أن تيقنوا من نتيجة الصراع بين المسلمين وقريش، وقد أورد الإمام البخاري رواية من حديث عمرو بن سلمة جاء فيها: أن العرب كانت «تلوّم بإسلامها الفتح، يقولون: انظروا فإن ظهر عليهم فهو صادق وهو نبي، فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم»
ومن نتائج فتح مكة المكرمة تحول مركز ثقل معسكر الشرك إلى الطائف حيث سارعت كل من قبيلتي هوازن وثقيف إلى التصدي للإسلام وقيادة معسكر الشرك المعادي له.
وإضافة إلى ما تحقق في فتح مكة من اتساع رقعة ديار الإسلام، وتسارع وتيرة دخول العرب في الإسلام، وإنهاء مقاومة قريش وحلفائها، وتحولهم إلى قوة إيجابية دافعة لنشر العقيدة الإسلامية والتصدي لخصومها ودفع الخطر عنها، فقد اتضحت بعض الأحكام الشرعية المهمة من جراء فتح مكة وخلال أحداث غزوتها، من ذلك جواز الصيام والإفطار في نهار رمضان للمسافر في غير معصية «7» .
(1) أخرج مسلم أوله في الصحيح 4/ 1961 (حديث 2530) ، وأخرجه الإمام أحمد كاملا في الفتح الرباني (21/ 160- 1) ، كما صححه الإمام الترمذي، وقال الساعاتي:«حديث صحيح» .
(2)
ولهذا فقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد الفتح في مكة المكرمة وغيرها على الإسلام والإيمان والجهاد.
(3)
البخاري- الصحيح 1/ 38 (حديث 6880) ، مسلم 3/ 1487- 1488 (حديث 1864) .
(4)
القرآن الكريم- سورة النصر، وانظر البخاري- الصحيح 5/ 189 (حديث 4294) . وأصل تلوّم تتلوّم ومعناها: تنتظر. انظر فتح الباري (7/ 617) .
(5)
البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4302) ، ابن سعد- الطبقات 2/ 70.
(6)
ابن هشام- سيرة 2/ 560.
(7)
مسلم- الصحيح 1/ 451.
كما اتضحت بعض الأحكام المتعلقة بإمامة الصلاة «1» وتحديد مدة قصر الصلاة للمسافر «2» ، وتأكيد صلاة سنة الضحى وعدد ركعاتها «3» ، وكان في إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لجوار أم هاني «4» إقرارا لأمان النساء «5» ، وقد أبيحت المتعة يوم الفتح ثم حرمت بعد ذلك تحريما أبديا إلى يوم القيامة «6» ، كما توضحت الأحكام الخاصة بنكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله «7» ، وكذلك حكم «الولد للفراش» «8» ، ومنها حق الزوجة في الإنفاق على نفسها وعيالها من مال زوجها بالمعروف دون علمه إذا امتنع عن النفقة «9» ، ومنها تحريم بيع الخمر والميتة والأصنام والأوثان «10» ، ومن ذلك تحريم الشفاعة في حد من حدود الله «11» ، ومنها منع صبغ الشيب بالسواد وبيان حكم خضابه بالحناء «12» ، والنهي عن قتل المرأة مادامت لا تقاتل «13» ، وعدم جواز الوصية بأكثر من ثلث المال «14» ، ومنها جواز دخول مكة بغير إحرام «15» .
(1) البخاري- الصحيح 5/ 191.
(2)
المرجع السابق 5/ 190.
(3)
المرجع السابق 5/ 189، مسلم- الصحيح 1/ 289.
(4)
البخاري- الصحيح 4/ 122.
(5)
أبو داود- عون المعبود 7/ 44.
(6)
مسلم- الصحيح بشرح النووي 3/ 553، وانظر الصحيح 1/ 586، 587.
(7)
مالك- الموطأ (شرح الزرقاني 3/ 156، 157) .
(8)
البخاري- الصحيح 8/ 191.
(9)
مسلم- الصحيح 2/ 60.
(10)
البخاري- الصحيح 3/ 110، مسلم- الصحيح 1/ 690، 689.
(11)
البخاري- الصحيح 5/ 192، مسلم- الصحيح 2/ 47.
(12)
مسلم- الصحيح 2/ 244.
(13)
البخاري- الصحيح، فتح (حديث 3014- 3015) ، مسلم- الصحيح (حديث 1744) ، أحمد- المسند 2/ 115.
(14)
البخاري- الصحيح، الفتح الأحاديث 2743، 2744) ، الترمذي- السنن 3/ 291.
(15)
البخاري- الصحيح، فتح الباري (حديث 4286) ، مسلم- الصحيح (حديث 1358) .