الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سرية مؤتة:
أعد النبي صلى الله عليه وسلم جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل وبعثه إلى تخوم بلاد الشام في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة بعد عودته بمن اعتمر معه من المسلمين عمرة القضاء بخمسة أشهر «1» ، وقد انفرد الواقدي، بالقول بأن شرحبيل بن عمرو الغسّاني قد اعتدى على مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى حين حمل له رسالته وهو الحارث بن عمير الأزدي وقتله صبرا رغم أن العرف الجاري هو أن الرسل لا تقتل «2» . مما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى إرسال الجيش إلى مؤتة وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السرية إجراء احتياطيّا للمرة الأولى، حيث ولّى عددا من الأمراء بالترتيب، مما دلل على جواز تعليق الإمارة بشرط. فقد عين زيد بن حارثة أميرا على الجيش، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن أبي رواحة «3» . والراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توقع أن تحف بالسرية الأخطار بسبب بعد المسافة، وجهلهم بالمنطقة التي وجهوا إليها، وعدم حصول تجربة سابقة في الاحتكاك بقوات الإمبراطورية البيزنطية وحلفائها من القبائل العربية في بلاد الشام» .
ودّع المسلمون في المدينة إخوانهم المشاركين في الجيش، والأمراء الذين اختارهم النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة، وسألوا الله أن يوفقهم ويدفع عنهم ويردهم صالحين «5» ، وتحرك الجيش حتى وصل إلى معان من أرض الشام وأناخ فيها، وبلغ المسلمون أن هرقل قد نزل بأرض البلقاء في مائتي ألف مقاتل نصفهم من الروم ونصفهم من نصارى العرب من قبائل لخم وجذام وقضاعة «6» .
تشاور المسلمون وهم في معان طوال ليلتين، فاقترح بعضهم مكاتبة الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلامه بعدد جيش العدو وما توفر لديهم من معلومات عن قوته لكي يرسل إليهم مددا أو يأمرهم بأمره، ومال بعضهم إلى التريث وعدم الاندفاع في مناجزة العدو حتى يأتيهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما ينير لهم سبيلهم، غير أن عبد الله بن أبي رواحة
(1) ابن إسحاق بإسناد حسن الى عروة الذي أرسله، ابن هشام- السيرة 3/ 427، ابن سعد- الطبقات 2/ 128، ابن حجر- فتح الباري (7/ 510- كتاب المغازي- غزوة مؤتة) .
(2)
الواقدي- المغازي 2/ 755- 6، ابن سعد- الطبقات 2/ 17، ابن حجر- الإصابة 1/ 589، فتح الباري- 7/ 511.
(3)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 513 حديث 4261) .
(4)
زاد الواقدي (المغازي 2/ 756 باسناد ضعيف، وابن سعد- الطبقات 2/ 128 معلقا، وفيه:«فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليتريض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم» .
(5)
ابن إسحاق بإسناد حسن إلى عروة: ابن هشام- السيرة 3/ 430 وورد في الرواية كيف بكى عبد الله بن رواحة في هذه المناسبة وهو يستذكر قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (سورة مريم الآية/ 71)، ثم تمثله شعرا سأل الله فيه المغفرة والشهادة جاء فيه قوله:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
…
وضربه ذات فرغ تقذف الزبدا
(6)
ابن هشام- السيرة 3/ 432- 5، ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 220- 22.
انبرى يخاطب الجيش مشجعا على قتال العدو قائلا: «يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون:
الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ولا نقاتلهم إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة» فقال الناس «قد والله صدق ابن أبي رواحة» وأحدثت عباراته الإيمانية الواثقة بقضاء الله وقدره أثرها في نفوس المسلمين «1» . أصدر زيد بن حارثة أمره لقواته بالتقدم نحو قوات العدو متخذا من قرية مؤتة مقرّا لقواته التي عبأها فجعل على ميمنته قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري، والتقى الجيشان غير المتكافئين في عددهم وعدتهم، وكانت ملحمة بطولية خالدة سجل فيها المجاهدون وقادتهم الثلاثة بطولات وجرأة وثباتا نادرا غير أنها انتهت باستشهاد القادة واحدا تلو الآخر «2» ، واختار المسلمون- حسب توجيه النبي صلى الله عليه وسلم قائدا بديلا، هو خالد بن الوليد الذي كان يدرك خطورة الوضع، فأعاد تنظيم الجيش، وأوهم العدو بوصول الإمدادات مما مكنه من اهتبال الفرصة للقيام بانسحاب منظم لم يخسر فيه إلا عددا محدودا من قواته، وبذلك أنقذ الجيش الإسلامي من خطر الإبادة الكاملة أمام جموع العدو الهائلة «3» ، ويعتبر هذا الإنجاز فتحا كبيرا عند مقارنة خسارة المسلمين المحدودة بما يقابلها من خسائر الروم الذين أثخنت قواتهم بأعداد كبيرة من القتلى والجرحى. ولا شك في أن بسالة المقاتل المسلم وشجاعته النادرة وحرصه على الموت في سبيل الله، إلى جانب عبقرية خالد العسكرية ونظراته الثاقبة، وقدرته على المناورة، وذكائه، وفطنته قد مكنت المسلمين من التخلص من مأزقهم أمام الجيش البيزنطي.
وقد ظهرت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر هذه السرية فقد نعى للمسلمين في المدينة زيدا وجعفرا وابن أبي رواحة، قبل أن يصل إليه خبرهم، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع. ثم أخبرهم باستلام خالد للراية، وبشرهم بالفتح على يديه وأسماه سيف الله «4» ، وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية، ولم يزد عما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم «5» ، وكان لشهداء مؤتة مكانة عظيمة عند الله لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما يسرّني أو قال ما يسرّهم أنّهم عندنا» «6» .
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 435- 442.
(2)
المرجع السابق 3/ 442- 447، ولم يسند ابن إسحاق من قصة الوقعة سوى خبر عقر جعفر بن أبي طالب لفرسه ونزوله للمعركة راجلا، وخبرين أولهما عن تردد عبد الله بن رواحة وثانيهما عن تصميمه وإقدامه وهي بأسانيد حسنة فيها ذكر لصحابي مجهول.
(3)
المرجع السابق 3/ 447، ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 222.
(4)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 512 حديث 6262، 6263) .
(5)
جاء بأخبار الغزوة إلى المدينة يعلى بن أمية، كما في رواية موسى بن عقبة: انظر ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 275، ابن حجر- فتح 7/ 512 في شرح الحديث (6262) ، وأورد ابن حجر كذلك رواية أخرى تجعله (عامر الاشعري) وهي من رواية الطبراني. عنده.
(6)
البخاري- الصحيح (فتح الباري- 6/ 135 حديث 3063) .