الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعذيب الموالي:
بعد أن بذلت قريش كل ما في وسعها من قوة وحيلة في إطفاء أنوار الدعوة المحمدية، وباءت بخيبة مريرة حوّلت ذلك إلى نقمة على المستضعفين من المؤمنين كبلال وعمّار ووالده ياسر وأمه سمية، وصهيب الرومي، وخبّاب ابن الأرت وأبي فهيرة، وأبي فكيه، ومن النساء زنّيرة، والنهدية، وأم عبيس.
أمّا بلال فكان مملوكا لأميّة بن خلف الجمحي، وكان يعذبه بإلقائه في الرمضاء على وجهه وظهره، ويضع الصخرة العظيمة على صدره، وذلك إذا حميت الشمس وقت الظهيرة، ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، وبلال صابر يردد كلمة:«أحد.. أحد» . وأخيرا استبدله أبو بكر الصديق بعبد مشرك عنده وأعتقه- رضي الله عنهما.
وأمّا عمّار وأمه ووالده ياسر فقد كانوا يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحرّها، فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون، فقال:«صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنّة» . فمات ياسر تحت العذاب رحمه الله رحمة واسعة.
وأمّا سميّة فقد أغلظت القول لأبي جهل فطعنها بحربته في قبلها فماتت شهيدة، فكانت أول شهيد في الإسلام.
وشدد أعداء الله العذاب على عمّار ونوّعوا العذاب عليه فمرة بالجرّ ومرة بوضع الصخرة على صدره، وأخرى بالغمس في الماء إلى حد الاختناق ويقولون له لا نتركك حتى تسب محمدا، وتقول في اللات والعزى خيرا، وفعل ما طلبوه منه فتركوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقال:«ما وراءك؟» . فقال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا.
فقال له: «كيف تجد قلبك؟» . قال: أجده مطمئنا بالإيمان. فقال: «إن عادوا يا عمّار فعد» . وأنزل الله تعالى قوله من سورة النحل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً «1» .
وأمّا خبّاب فقد أسلم سادس ستة فقد عذبه المشركون عذابا شديدا إذ كانوا يلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالحجارة المحماة بالنار ويلوون رأسه. وأمّا عامر بن فهيرة فقد أسلم قديما قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دار الأرقم، وكان من المستضعفين فعذّب عذابا شديدا، ولم يرده ذلك عن دينه، وكان يرعى غنما لأبي بكر، وكان يروح بها الى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما في الغار طوال المدة التي كانا فيها في الغار، وأمّا أبو فكيهة واسمه أبو يسار فكان عبدا لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، أسلم مع بلال فأخذه أميّة بن خلف وربط في رجليه حبلا وأمر فجرّ ثم ألقاه في الرمضاء، ومر به جعل (حشرة معروفة) فقال له أمية: أليس هذا ربك؟. فقال: الله ربي وربك وربّ هذا. فخنقه خنقا شديدا، وكان معه أخوه أبي بن خلف فيقول: زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره ولم يزالوا يعذبونه كذلك حتى أغمي عليه فظنوه مات ثم أفاق فاشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه.
وأمّا النساء المؤمنات زنّيرة وأم عبيس ولبيبة والنهدية فقد عذّبن كذلك أشدّ العذاب من قبل مواليهنّ ولم يرجعن عن دينهنّ، فرضي الله عنهن وأرضاهن.
(1) القرآن الكريم- سورة النحل، الآية/ 106.
لقد نفس الكفار أغلب أحقادهم على الإسلام ومعتنقيه في أشخاص الموالي، لأنه لم تكن لهم منعة. فكان العذاب أقسى وأفظع.
وقد عذر الله المعذّبين فيما يتلفظون به حينما يبلغ الجهد منهم مبلغه. قال سعيد بن جبير لابن عباس: «أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟» قال: «نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجوعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده» «1» . قال ابن كثير «2» : «وفي مثل هذا أنزل الله تعالي: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» «3» .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه دائما على الصبر على الأذى ويخبرهم بأن الله تعالى سوف ينصر دينه. فقد جاء إليه خبّاب بن الأرت يشكو إليه ما يصيبهم من شدة من المشركين وقال له: «يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟
فقعد وهو محمرّ وجهه فقال: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلّا الله» «4» .
لقد عرضت قريش المال والجاه، الثروة والملك على الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فأجابهم:«ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشّرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكنّ الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا فبلّغتكم رسالات ربّي ف إن تقبلوه فهو حظّكم في الدّنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» «5» .
ولما فشل المشركون في محاولاتهم في التصدي للدعوة الإسلامية، تعاهدوا على مقاطعة بني هاشم فلا يبيعونهم شيئا ولا يبتاعون منهم ولا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم. وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، فاضطر أبو طالب وعشيرته إلى التحصن بالشعب ودام حصارهم زهاء ثلاث سنوات عانوا خلالها أشد المعاناة من الجوع والعوز. حتى تمكن بعض زعماء قريش بزعامة هشام بن عمرو من نقض ما جاء في الصحيفة الظالمة، وانتهت مقاطعة بني هاشم «6» .
(1) رواه ابن إسحق، ابن هشام- السيرة (1/ 396) .
(2)
البداية والنهاية (3/ 65) .
(3)
القرآن الكريم- سورة النحل، الآية/ 106.
(4)
البخاري- الصحيح (فتح الباري)(7/ 202- حديث رقم 3852) .
(5)
ابن هشام: السيرة 2/ 316.
(6)
ابن هشام- السيرة 2/ 219- 221، 234- 237، البيهقي- دلائل النبوة 2/ 311- 314، ابن عبد البر- الدرر ص/ 27- 30، البلاذري- أنساب الأشراف 1/ 235- 236.