الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شخصيا، إراديا، تم أداؤه بحرية «أي بدون إكراه» وأن نكون على وعي كامل وعلى معرفة بالشرع أو القانون «1» .
ثالثا: الجزاء:
يعتبر الجزاء العنصر الثالث من عناصر النظرية الخلقية. فالقانون الخلقي يبدأ بتوجيه الدعوة إلى الإرادة، فتستجيب لتلك الدعوة، ثم بإعلان الالتزام تأتي المسئولية، كاستجابة جازمة، ثم يأتي التقويم بعد ذلك، أي يأتي الجزاء.
فالجزاء هو رد فعل القانون الخلقي على موقف الأشخاص الخاضعين لهذا القانون والملتزمين به.
وللجزاء ثلاثة ميادين هي:
1- الجزاء الأخلاقي
. 2- الجزاء الشرعي. 3- الجزاء الإلهي.
وفيما يلي تناول موجز لهذه الأنواع:
(1)
الجزاء الأخلاقي:
يباشر الإنسان عمله طبقا لقواعد يعرفها ويحس بها، وبعد ذلك تحدث في النفس أصداء معبرة عن الرضا في حالة النجاح، وعن الألم في حالة الفشل، هذا يتعلق بالإنسان الذي يعرف أن هناك قواعد للسلوك، أما ذلك الإنسان الذي لا يعرف قواعد السلوك فإنه يكون فاقدا لمعنى الخير والشر تماما، فما معنى هذا بالنسبة للجزاء الخلقي؟.
يحلل ذلك الدكتور دراز متوصلا إلى أن الندم لا يعتبر جزاء لما يقترفه الفرد، وهو ليس بعقوبة أو مكافأة للقانون الأخلاقي. ويرى كذلك أن المتعة والألم اللذين نحس بهما بعد أن نفعل خيرا أو شرا هما رد فعل لضميرنا على ذاته، أكثر من أن يكون رد فعل للقانون علينا. فهما تعبيران طبيعيان يدلان على توافق في الذات مع المثل الأعلى، أو على تضاد الذات معه. وهذا ما تدل عليه النصوص النبوية. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك فأنت مؤمن» «2» . فالحديث لم ينظر إلى حالات النفس هذه على أنها ثواب يقتضيه سلوكنا، وإنما رأي فيه ترجمة وتحديدا للإيمان الخلقي.
وفي حديث آخر: «إنه المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه» «3» . وهذا يعود إلى درجة شدة اللوم الباطن التي تعكس صدق إيماننا وتقيس درجته قياسا دقيقا فنحن نشعر بمساءة الذنب وخطورته فينا لدرجة شعورنا الحي بالتكليف.
(1) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق فى القرآن، مرجع سابق، ص 222.
(2)
مسند أحمد 5/ 251، 252، 256.
(3)
الترمذى، كتاب صفة القيامة 4/ 568 برقم 2497.
وهذا كله يشير إلى أن الندم لا ينشيء جزاء ثوابيّا، ولا جزاء إصلاحيّا. ولذا فإن الجزاء الخلقي الصحيح هو ذلك الشعور الذي يعيد تثبيت القانون المنتهك وهو (التوبة) ، والندم هو مقدمة التوبة وإعداد لها. وهو محاولة لتجميع قوى النفس ورأب لصدعها، وتجد في حرارة الندم المؤلمة وسيلتها لتلتئم وتقوى، وتعاود حمل الأمانة من جديد بمزيد من الطاقة والحماس وقد يثير الندم التوبة، وقد لا يثيرها على وجه الإطلاق، أي أنه لا يستتبعها كنتيجة مبدئية «1» .
وعلى هذا فالتوبة هي الجزاء الخلقي، يفرض تدخل الجهد من أجل الإصلاح، إنها واجب يفرضه الشرع على أثر تقصير في أداء الواجب، وهناك الكثير من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك «2» . لكون التوبة كذلك، فإنها في ذاتها ندم على ما سلف، وإقلاع عنه في الحال، وعزم على عدم المعاودة في المستقبل «3» .
إن التوبة لا يمكن أن تؤدي وظيفتها الإصلاحية في الأخلاق الإسلامية إذا اقتصرت على الأسف على ما اقترفناه من شر والعزم على عدم المعاودة ولكنها موقف أكثر تعقيدا، موقف ينظر للماضي والحاضر والمستقبل، ويتجلى في الأفعال لا في اتخاذ خط سلوكي جديد فقط، بل أيضا في إعادة تجديد البناء الذي تهدم بصورة منهجية، وقد أوضح القرآن مجموع الشروط الموضوعية الضرورية ليصبح للتوبة عائدها الحقيقي هو الغفران.
- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «4» .
فليس المهم التوبة فقط، وإنما الإصلاح، إصلاح ما نقص أو فسد أو أفسده الإنسان وهذا الإصلاح يتمثل في أمور عدة:
- إما في عمل ناقص، ويجب أن يعاد، ويؤدى بطريقة مناسبة آجلا أو عاجلا.
وإما في إصلاح شر بتعويض آثاره من سلبيات إلى تقليل آثاره السلبية بأداء أفعال ذات طبيعة مناقضة للفعل الأول: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «5» .
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها «6» .
(1) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن، مرجع سابق ص 248- 502 (بتصرف) .
(2)
راجع: صفة التوبة من صفات الموسوعة.
(3)
راجع ابن القيم: مدارج السالكين لابن القيم، ج 1، ص 202، 203.
(4)
البقرة: 160، الأنعام: 54، والنحل 119.
(5)
هود: 114.
(6)
التوبة: 102- 103.