الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين:
عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن أدى حجة الوداع مع من صحبه من المسلمين ومن شهده معه من أهل الموقف، فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة من السنة العاشرة، والمحرم وصفر من السنة الحادية عشرة، وضرب على الناس بعثا إلى الشام، وأمّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه «1» ، وأمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين فتجهز الناس «2» ، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر «3» ، وكان أسامة بن زيد شابّا في الثامنة عشرة من عمره، فتكلم البعض في تأميره وهو مولى وصغير السّن، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم اعتراض أحد على إمارة أسامة بن زيد وأوصى به خيرا» .
ولم يقدر لهذا البعث أن يخرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم اللواء لأسامة الذي خرج به إلى الجرف وعسكر فيه بانتظار استكمال التجهيز والتحاق الجند وتكاملهم «5» ، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم مرض بعد ذلك بيومين واستغرق مرضه عشرة أيام ثم توفي صلى الله عليه وسلم مما أخر خروج الجيش إلى ما بعد بيعة الصديق- رضي الله عنه «6» .
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «7» . اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم من سم أصابه منذ العام السابع الهجري، فقد تناول بعد فتح خيبر قطعة لحم من شاة مسمومة مشوية قدمتها له زوجة سلام بن مشكم اليهودية «8» ، ورغم أنه صلى الله عليه وسلم كان قد لفظ اللقمة ولم يبتلعها، فإن نوعية وكثافة السم الذي احتوته قد أثر عليه «9» ، أما مرضه الأخير فكان قد ألم به أول ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة وبعد شهرين ونصف من عودته إلى المدينة من حجة الوداع، حين شعر صلى الله عليه وسلم بالمرض وهو في بيت أم المؤمنين ميمونة «10» ، وطلب من زوجاته أن يمرّض في بيت أم المؤمنين عائشة «11» ، واستغرق مرضه عشرة أيام «12» .
وكانت عائشة- رضي الله عنها تقرأ بالمعوذتين والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتمسحه بيده رجاء البركة «13» .
(1) أحمد- الفتح الرباني 21/ 220- 223، الواقدي- مغازي 3/ 1117- 1118، ابن سعد- الطبقات 2/ 248.
(2)
ابن هشام- السيرة 4/ 606 برواية ابن إسحاق مرسلا.
(3)
أحمد- الفتح 21/ 220- 221.
(4)
المرجع السابق 21/ 221- 223، وانظر ابن حجر- فتح الباري 8/ 152.
(5)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 152 حديث 4469) .
(6)
المرجع السابق 8/ 152 (حديث 4469) وقد انفرد الواقدي بذكر عدد هذا الجيش (المغازي 3/ 1120- 1123) .
(7)
القرآن الكريم- سورة الزمر، الآية/ 30.
(8)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 138) .
(9)
المرجع السابق 8/ 138.
(10)
ابن حجر- فتح الباري 8/ 129.
(11)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 141 حديث 4442، 4450) ، أحمد- الفتح الرباني 21/ 226 بإسناد صحيح.
(12)
ابن حجر- فتح الباري 8/ 129.
(13)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 138 حديث 4429، 4451) ، مسلم- الصحيح 4/ 1721- 1724، (الأحاديث 1291- 2192) .
وفي اليوم الخامس من مرضه صلى الله عليه وسلم اشتدت عليه الحمى فطلب أن يصبّوا عليه الماء، حتى يخرج للناس فيعهد إليهم، وبعد أن استحم أحس بخفة، فعصب رأسه ودخل المسجد فصعد المنبر وخطب فنهى عن اتخاذ قبره وثنا يعبد «1» ، ولعن اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد «2» ، وعرض نفسه للقصاص، وأوصى بالأنصار خيرا، وفي نهاية خطبته قال صلى الله عليه وسلم:«إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله» . «3»
وقد اشتد بكاء أبي بكر رضي الله عنه فعجب الناس من ذلك، فكان المخير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر أعلمهم بذلك، وأثنى النبي على أبي بكر صحبته، وما أنفق في سبيل الله ونصرة الإسلام فقال:«لو كنت متّخذا خليلا عند ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته» ، وأمر صلى الله عليه وسلم بألا يبقى في المسجد باب إلّا سدّ، إلا باب أبي بكر. «4»
وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، كما أمر صلى الله عليه وسلم بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم «5» ، وحين اشتد وجعه ذلك اليوم قال للصحابة الذين كانوا معه:«هلمّوا اكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده» فاختلفوا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال صلى الله عليه وسلم: «قوموا عنّي» . «6»
وفي اليوم التالي أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحسنوا الظّنّ بالله عز وجل» . «7»
وقد أثقله بعد ذلك المرض، ومنعه من الخروج للصلاة بالناس، فقال:«مروا أبا بكر أن يصلّي بالنّاس» ، وقد راجعته عائشة- رضي الله عنها فقالت:«إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن» فأصرّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فمضى أبو بكر يصلي بهم «8» ، وحين شعر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتحسن، وخرج لصلاة الظهر وهو يتوكأ على رجلين رآه أبو بكر فأراد أن يتأخر، فأومأ إليه ألّا يتأخر، فأجلسه بجانبه، فجعل أبو بكر- رضي الله
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 425، 436، 437) مسلم 10/ 4756 (حديث 529، 532) ، مالك- الموطأ ص/ 360.
(2)
مالك- الموطأ ص/ 365، البيهقي- دلائل النبوة (7/ 169- 180) .
(3)
البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 4431- 4432) ، مسلم 3/ 1257- 59، (الحديث 1637) .
(4)
البخاري- الصحيح (فتح الباري الحديث 4432) مسلم- الصحيح (الحديث 1637) .
(5)
الذهبي- السيرة ص/ 557، ابن ماجه- صحيح ابن ماجه للألباني 1/ 271، كتاب الجنائز (حديث 1625) وقال: صحيح، وصححه الهيثمي- مجمع الزوائد 4/ 237.
(6)
هناك قرائن تشير إلى أن أمره صلى الله عليه وسلم بإحضار أدوات الكتابة لم تكن على الوجوب وإنما فيه تخيير، فلما قال عمر مقولته لم يكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كان الأمر لازما لأوصاهم به، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 132) .
(7)
الذهبي- السيرة ص/ 557 وقال إنه حديث صحيح من العوالي.
(8)
أحمد- الفتح الرباني 21/ 226- 227 من طريق ابن إسحاق ورجاله ثقات، أبو داود- السنن، 5/ 47- 48، ابن كثير- البداية 5/ 232- 233.
عنه- صلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر «1» .
أعتق النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم السابق لوفاته غلمانه، وتصدق بما كان معه من دنانير، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا نورث وما تركنا صدقة» «2» .
أطل الرسول صلى الله عليه وسلم فجر يوم وفاته على المسلمين وهم يستوون لصلاة الصبح حيث كشف ستر حجرته ونظر إليهم وتبسم، وهمّ المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخر أبو بكر عن موضع الإمام ملتحقا بالصف الأول، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليهم بيده الكريمة: أن أتمّوا صلاتكم، ثم دخل حجرة عائشة، وأرخى الستر. «3»
ودخلت عليه فاطمة الزهراء- رضي الله عنها عند الضحى فقالت: «واكرب أباه» . فقال لها صلى الله عليه وسلم:
«ليس على أبيك كرب بعد اليوم» «4» .
ثم دعاها فسارّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارّها بشيء فضحكت، فأخبرت بعد وفاته أنه أخبرها بموته فبكت ثم أخبرها بأنها أول أهله لحاقا به فضحكت «5» ، والحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لأن ما أخبرها به قد كان.
وكان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم قوله وهو يستند إلى صدر أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها: «مع الّذين أنعمت عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، اللهمّ اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرّفيق الأعلى، اللهمّ في الرّفيق الأعلى» كررها ثلاثا «6» . ثم مالت يده، ولحق بالرفيق الأعلى «7» .
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول عام إحدى عشرة للهجرة «8» وقد نادت فاطمة الزهراء:«يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه: إلى جبريل ننعاه» «9» .
ولم يصدق عمر بن الخطاب نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم وتهدد من يقول ذلك «10» . أما أبو بكر فقد جاء من بيته بالسنح، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن وجهه وقبله وبكى. ثم خرج إلى الناس وهم بين مصدق ومنكر، فقال: «أما
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 141، أحمد- المسند (الفتح الرباني 21/ 231) ، ابن كثير- البداية 5/ 229- 230، وانظر كذلك مسلم- الصحيح 1/ 313- 4 (حديث 418) .
(2)
البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 6726- 6728، 6730) ، وانظر ابن سعد- الطبقات 2/ 237- 8، 316- 317، من عدة طرق يتقوى بعضها ببعض ولها شاهد من حديث البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك عند موته عبدا ولا أمة.
(3)
البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4448) .
(4)
المرجع السابق (فتح الباري 8/ 149 حديث 4462) .
(5)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 208 الاحاديث 4433- 4) ، مسلم- الصحيح 4/ 1904 (حديث 2450) .
(6)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 136 حديث 4449) ، ابن هشام- السيرة 3/ 329 بإسناد صحيح.
(7)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 142 حديث 4463) ، مسلم- الصحيح 4/ 1894 (حديث 2444) .
(8)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 150 حديث 4466) ، وانظر ابن حجر- الفتح 8/ 129.
(9)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 149) حديث 4462.
(10)
أحمد- الفتح الرباني 21/ 241- 242، ابن سعد- الطبقات 2/ 266، الصنعاني- المصنف 5/ 433- 434.
بعد. من كان يعبد محمدّا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ثم تلا قول الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «1» .
هدأ الناس واطمأنت نفوسهم إلى قضاء الله تعالى وكأنهم لم يكونوا قد سمعوا الآية من قبل «2» .
وفي يوم الثلاثاء، التالي ليوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تم غسله وهو في ثيابه، شارك في غسله عمه العباس وولداه الفضل وقثم إلى جانب ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب، كما شارك في ذلك شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة بن زيد وأوس ابن خولي «3» ، وتم تكفينه في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة «4» .
صلى المسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم أرسالا أرسالا، لا يؤمهم أحد»
، وحفروا له قبرا في حجرة عائشة رضي الله عنها ، ودفنوه ليلة الأربعاء «6» .
قال حسان بن ثابت عددا من المراثي في الرسول صلى الله عليه وسلم، منها قوله «7» :
بطيبة رسم للرسول ومعهد
…
منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
ولا تمتحي الآيات من دار حرمة
…
بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضح آثار وباقي معالم
…
وربع له فيه يصلّى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها
…
من الله نور يستضاء ويوقد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت
…
عيون ومثلاها من الجفن تسعد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت
…
بلاد ثوى فيها الرشيد المسدّد
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 145 الأحاديث 4452- 4454) ، والآية/ 144 من سورة آل عمران.
(2)
البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 145) .
(3)
ابن هشام- السيرة 4/ 662- 663.
(4)
البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 1264) ، مسلم- الصحيح 2/ 649- 650 (حديث 941) .
(5)
أحمد- الفتح الرباني 21/ 253- 4 وقال الهيثمي وقد رواه في مجمع الزوائد: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» ، ابن سعد- الطبقات 2/ 288- 292 من عدة طرق وقال ابن كثير عن صلاة المسلمين فرادى بأنه «أمر مجمع عليه لا خلاف فيه» (البداية 5/ 299) .
(6)
ابن إسحاق بإسناد حسن، سيرة ابن هشام 4/ 664.
(7)
ابن هشام- السيرة (برواية ابن إسحاق) 4/ 666- 9.
وهل عدلت يوما رزيّة هالك
…
رزيّة يوم مات فيه محمد
وما فقد الماضون مثل محمد
…
ولا مثله حتى القيامة يفقد
أعف وأوفى ذمّة بعد ذمة
…
وأقرب منه نائلا لا ينكّد
وأكرم صيتا في البيوت إذا انتمى
…
وأكرم جدا أبطحيّا يسوّد
وقال في قصيدة أخرى: «1»
تالله ما حملت أنثى ولا مضعت
…
مثل الرسول نبيّ الأمة الهادي
ولا برا الله خلقا من بريته
…
أوفى بذمة جاد أو بميعاد
من الذي كان فينا يستضاء به
…
مبارك الأمر ذو عدل وإرشاد
يا أفضل الناس إني كنت في نهر
…
أصبحت منه كمثل المفرد الصادي
(1) ابن هشام- السيرة 4/ 671.