الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتتاح صلاة المصلّي بقوله «اللهمّ» ومعنى ذلك*
لا خلاف أنّ لفظة «اللهمّ» معناها «يا الله» ولهذا لا تستعمل إلّا في الطّلب، فلا يقال: اللهمّ غفور رحيم، بل يقال: اللهمّ اغفر لي وارحمني.
واختلف النّحاة في الميم المشدّدة من آخر الاسم:
فقال: سيبويه: زيدت عوضا من حرف النّداء ولذلك لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام، لا يقال:«يا اللهمّ» إلّا فيما ندر.
وقيل: الميم عوض عن جملة محذوفة، والتّقدير:«يا الله أمّنا بخير» أي: اقصدنا، ثمّ حذف الجارّ والمجرور وحذف المفعول، فبقي في التّقدير: يا الله أمّ» ثمّ حذفوا الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدّعاء على ألسنتهم، فبقي «يا اللهمّ» ، وهذا قول الفرّاء. وصاحب هذا القول يجوّز دخول «يا» عليه، ويحتجّ بقول الشّاعر:
وما عليك أن تقولي كلّما
…
صلّيت أو سبّحت يا اللهمّا
اردد علينا شيخنا مسلّما «1» .
قال المؤلّف- رحمه الله: وردّ البصريّون هذا بوجوه «2» .
وقيل: زيدت الميم للتّعظيم والتّفخيم، كزيادتها في «زرقم» «3» لشديد الزّرقة «وابنم» في الابن.
قال المؤلّف- رحمه الله: «الميم» حرف شفهيّ يجمع النّاطق به شفتيه، فوضعته العرب علما على الجمع، فقالوا للواحد:«أنت» فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا «أنتم» ، وقالوا للواحد الغائب «هو» فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا:
«هم» وكذلك في المتّصل يقولون: ضربت، وضربتم، وإيّاك، وإيّاكم، وإيّاه، وإيّاهم، ونظائره نحو: به وبهم، ويقولون للشّيء الأزرق: أزرق، فإذا اشتدّت زرقته، واستحكمت، قالوا: زرقم، ويقولون للكبير الاست: ستهم.
وتأمّل الألفاظ الّتي فيها الميم كيف تجد الجمع معقودا بها مثل «لمّ الشّيء يلمّه» : إذا جمعه، ومنه «لمّ الله
* قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (الأحزاب: 56) . في هذه الآية القرآنية المباركة، أمر الله تعالى بالصّلاة والسّلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن صلوات الله وسلامه عليه كيفية الصلاة عليه بقوله:«قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد..» (الحديث: تقدم تخريجه) . فما معنى قول المصلّي «اللهم» في افتتاح صلاته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وضّح المؤلف- رحمه الله معنى هذه اللفظة وشرحها شرحا وافيا فليتنبّه إليه فإنه مهم.
(1)
الشيخ هنا: الأب والزوج.
(2)
هذه الوجوه ذكرها المؤلف مفصّلة وهي (عشرة وجوه) ختمها بقوله: «فهذا كله لا يسوغ فيه التقدير الذي ذكروه» .
(3)
وذكر ابن فارس في المقاييس: الزّرقم، أجمع أهل اللغة أن أصله من الزّرق، فإن الميم فيه زائدة- (المقاييس 3/ 52) .
شعثه» أي جمع ما تفرّق من أموره، ومنه قولهم «دار لمومة» أي: تلمّ النّاس وتجمعهم، ومنه أَكْلًا لَمًّا «1» . جاء في تفسيرها يأكل نصيبه ونصيب صاحبه، وأصله من «اللّمّ» وهو الجمع، كما يقال: لفّه يلفّه، ومنه ألمّ بالشّيء: إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه، ومنه «اللّمم» وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر، ومنه الملمّة وهي النّازلة الّتي تصيب العبد، ومنه «اللّمّة» وهي الشّعر الّذي قد اجتمع، وتقلّص حتّى جاوز شحمة الأذن، ومنه:(تمّ الشّيء) وما تصرّف منها، ومنه بدر التّمّ إذا كمل واجتمع نوره، ومنه التّوأم للولدين المجتمعين في بطن، ومنه الأمّ، وأمّ الشّيء أصله الّذي تفرّع منه، فهو الجامع له، وبه سمّيت مكّة أمّ القرى، والفاتحة أمّ القرآن، واللّوح المحفوظ أمّ الكتاب، قال الجوهريّ: أمّ الشّيء أصله، ومكّة أمّ القرى، وأمّ مثواك: صاحبة منزلك، يعني الّتي تأوي إليها، وتجتمع معها، وأمّ الدّماغ: الجلدة الّتي تجمع الدّماغ، ويقال لها: أمّ الرأس، وقوله تعالى في الآيات المحكمات:
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ «2» . والأمّة: الجماعة المتساوية في الخلقة والزّمان، قال تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ «3» ، وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«لولا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها» «4» .
ومنه الإمام الّذي يجتمع المقتدون به على اتّباعه، ومنه: أمّ الشّيء يؤمّه: إذا اجتمع قصده، وهمّه إليه، ومنه:
رمّ الشّيء يرمّه: إذا أصلحه، وجمع متفرّقة، قيل: ومنه سمّي الرّمّان لاجتماع حبّه وتضامّه.
ومنه: ضمّ الشّيء يضمّه، إذا جمعه، ومنه همّ الإنسان وهمومه وهي إرادته وعزائمه الّتي تجتمع في قلبه.
ومنه قولهم للأسود: أحمّ وللفحمة السّوداء: (حممة)، وحمّم رأسه: إذا اسودّ بعد حلقه، كلّ هذا لأنّ السّواد لون جامع للبصر لا يدعه يتفرّق، ولهذا يجعل علي عيني الضّعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود من شعر أو خرقة، ليجمع عليه بصره، فتقوى القوّة الباصرة، وهذا باب طويل فلنقتصر منه على هذا القدر.
وإذا علم هذا من شأن الميم، فهم ألحقوها في آخر هذا الاسم الّذي يسأل الله سبحانه به في كلّ حاجة وكلّ حال إيذانا بجميع أسمائه وصفاته. فالسّائل إذا قال:«اللهمّ إنّي أسألك» كأنّه قال: أدعو الله الّذي له الأسماء الحسنى والصّفات العلى بأسمائه وصفاته، فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلّها كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيح: «ما أصاب عبدا قطّ همّ ولا حزن، فقال: اللهمّ إنّي عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو
(1) سورة الفجر: 19.
(2)
سورة آل عمران: 7.
(3)
سورة الأنعام: 38.
(4)
أخرجه الترمذي (1486) والنسائي (7/ 185) ، وابن ماجه (3205) والدرامي (2/ 90) ، وأبو داود (2845) من حديث عبد الله بن مغفل، وتمامه «فاقتلوا منها كل أسود بهيم ومن أهل أبيت يرتبطون كلبا إلّا نقص من عملهم كل يوم قيراط إلّا كلب صيد أو كلب حرث، أو كلب غنم» ورجاله ثقات، وقال الترمذي: حسن صحيح. وانظر «جامع الأصول» (10/ 238- 239) .
أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي، إلّا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحا» ، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلّمهنّ؟ قال: «بلى ينبغي لمن سمعهنّ أن يتعلّمهنّ» «1» .
فالدّاعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته كما في الاسم الأعظم «اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت الحنّان المنّان بديع السّماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حيّ يا قيّوم» «2» .
وهذه الكلمات تتضمّن الأسماء الحسنى كما ذكر في غير هذا الموضع.
والدّعاء ثلاثة أقسام. أحدها: أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته، وهذا أحد التّأويلين في قوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» .
والثّاني: أن تسأله بحاجتك وفقرك، وذلّك، فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذّليل المستجير ونحو ذلك.
والثّالث: أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحدا من الأمرين، فالأوّل أكمل من الثّاني، والثّاني أكمل من الثّالث، فإذا جمع الدّعاء الأمور الثّلاثة كان أكمل.
وهذه عامّة أدعية النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي الدّعاء الّذي علّمه صدّيق الأمّة- رضي الله عنه ذكر الأقسام الثّلاثة، فإنّه قال في أوّله:«ظلمت نفسي ظلما كثيرا» ، وهذا حال السّائل ثمّ قال:«وإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت» ، وهذا حال المسؤول، ثمّ قال:«فاغفرلي» «4» فذكر حاجته، وختم الدّعاء باسمين من الأسماء الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه.
وهذا القول الّذي اخترناه جاء عن غير واحد من السّلف، قال الحسن البصريّ:«اللهمّ» مجمع الدّعاء، وقال أبو رجاء العطارديّ: إنّ الميم في قوله «اللهمّ» فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى: وقال النّضر بن شميل: من قال «اللهمّ» فقد دعا الله بجميع أسمائه.
(1) أخرجه أحمد (712) وابن حبان (2372) والحاكم (1/ 509) من حديث ابن مسعود، وقال الأرناؤوط سنده صحيح.
(2)
أخرجه أبو داود (1495) والنسائي 3/ 25، وابن ماجه (3858) ، من حديث أنس ابن مالك، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2382) والحاكم (1/ 503، 504) ووافقه الذهبي.
(3)
سورة الأعراف: 180.
(4)
أخرجه البخاري (الفتح 2/ 834)، ومسلم (2705) من حديث أبي بكر الصدّيق أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال:«قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلّا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» .