الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً* «1» ، فهؤلاء حيوا بها حياة طيبة كما قال تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «2» ، وفريق يتناولها لا على الوجه الذي جعلها الله لهم، فركنوا إليها فصار ذلك لهم نقمة وشقاوة فتعذبوا بها عاجلا وآجلا، وهم الموصوفون بقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ «3» ، «4» .
فالأخلاق في الإسلام- إذا- تعتمد على أهداف العقيدة الإسلامية باعتبار أن العقيدة الإيمانية معيار توزن عليه الأعمال والأقوال وكافة التصرفات، لحفظ كرامة الإنسان وصيانته، وتحقيق سعادته في حياته الدنيا، والأخرى، وعلى هذا فمردود الالتزام الخلقي ليس دنيويا فحسب وإنما أخروي أيضا.
المقدمة الثانية: الأخلاق الإسلامية ومبدأ التكليف:
الإنسان كائن مكلف، ولهذا شواهده من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وعلى هذا يمكن فهم الإنسان وفهم هدف حياته، فهو مبتلى بتبعة التكليف، ولذا فهو مسئول عن اختياراته وبناء حياته، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ «5» .
يقول أبو حيان في تفسير هذه الآية الكريمة: بيّن الله أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ تعظيما لأمر التكليف، والظاهر أن الأمانة هي كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي، وشأن دين ودنيا، والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور، والظاهر عرض الأمانة على هذه المخلوقات العظام- وهي الأوامر والنواهي- فتثاب أن أحسنت، وتعاقب إن أساءت، فأبت وأشفقت،
…
وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته «6» .
والأمر كذلك، فإن الإنسان لا بد أن يكون قادرا على الفعل والترك، أي الاختيار لكي تصبح منه الطاعة بفعل المأمورية، إذ أنه يكون عاصيا بتركه، ويلزم أن يكون الإنسان عالما بالأفعال التي كلف بها، إتيانا أو تركا «7» .
ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ
…
«قال علي بن أبى طلحة عن ابن عباس: الأمانة: الفرائض عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك وأشفقوا منه من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم
(1) النحل: 41.
(2)
النحل: 97.
(3)
التوبة: 55.
(4)
الراغب الأصفهاني: كتاب تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، بيروت، دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، 1983، ص 65، 66.
(5)
الأحزاب: 72.
(6)
البحر المحيط 7/ 243 (بتصرف يسير) ، وانظر صفة الأمانة ج 3 ص 510.
(7)
راجع: عبد القاهر البغدادى، كتاب أصول الدين، ط 3، بيروت. دار الكتب العلمية، 1401 هـ/ 1981 م ص 210- 213.
فقبلها بما فيها» «1» .
أيا كان الأمر فقد منح الإنسان ما يساعده على القيام بمهمة التكليف، ويمكن عرض ذلك بإيجاز فيما يلى:
1-
الإنسان غاية حياته تحقيق وظائف الاستخلاف في الأرض: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2» ، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «3» .
2-
الإنسان وحده من بين سائر الكائنات هو المخصوص بالكرامة والتكريم وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «4» .
والفعل المختص بالإنسان ثلاثة:
أ- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها «5» وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش وغيره.
ب- وعبوديته لله المذكورة في قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «6» وذلك هو طاعة الله- عز وجل في عبادته، في أوامره ونواهيه.
ج- استخلافه المذكور في قوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ «7» وغيره من الآيات، وذلك هو الطاعة للباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي واستعمال مكارم الشريعة، ومكارم الشريعة هى الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس في الحكم، والإحسان، والفضل، والقصد منها أن يبلغ الإنسان إلى جنة المأوى، وجوار رب العزة تبارك وتعالى «8» .
3-
على هذا الأساس وهب الإنسان استعدادات وقدرات ومواهب تؤهله للقيام بتلك الوظيفة سواء المادية والمعنوية، وهما جماع الذات الإنسانية، وبهما تتم حياة الإنسان، ويعود الاهتمام بالجانب المادي إلى أنه وعاء الشخصية الإنسانية، ومن هنا تأتي علاقة الإنسان المادية بالأشياء طبيعية، إذ أنها مفطورة في جبلته «9» . وهو بهذا قادر على المشى في الأرض، والسعي فيها، وتعميرها وتحسينها، ولو كان الإنسان روحا محضا ما وجدت لديه الدافعية الحافزة له على استخدام المادة والسير في مناكب الأرض، وممارسة معطياتها «10» .
(1) الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير: تفسير ابن كثير ط 1، مكتبة الرياض الحديثة، دار الفكر 1400 هـ/ 1980 م ج 3، ص 523.
(2)
البقرة: 30.
(3)
الأنعام: 165.
(4)
الإسراء: 70.
(5)
هود: 61.
(6)
الذاريات: 56.
(7)
الأعراف: 129.
(8)
الراغب الأصفهانى، الذريعة إلى مكارم الشريعة، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1980 م، ص 32.
(9)
اقرأ: سورة ص: 71.
(10)
راجع: يوسف القرضاوى، الخصائص العامة للإسلام، ط 1، القاهرة، مكتبة وهبة، 1397 هـ/ 1977 م، ص 135.
وتعطي تعليمات الإسلام الجانب المادي حقه، ولم تنكر مطلبا من مطالبه، بل وجهت إلى ضبطها وضبط إشباعها. ومن التوجيهات النبوية الخالدة، إنكاره صلى الله عليه وسلم على من سولت له نفسه حرمان جسده من حقه وحاجاته الأساسية، يروي البخاري- رحمه الله:«جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى» «1» .
إن الإسلام في توجيهاته لم يطغ الجانب المعنوي على الحاجات الحياتية ولكنه يعطي الجانب المعنوي مكانه وأثره حتى يؤدي غرضه، ومن هذه القوى المعنوية التي أولاها الإسلام عنايته العقل باعتباره القوة المدركة التي يستطيع الإنسان عن طريقها أن يعقل الأمور ويميز الخير من الشر، والنافع من الضار.
4-
ومن منطلق رسالة الإنسان فإن لديه الإمكانية والاستعداد لفعل الخير والشر، ويكتسب جانب الخير وجانب الشر بالتطبيع لا بالطبع، وهذا ما أوضحته الآية الكريمة: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» . وقوله تعالى فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «3» . وهو قادر على فعل الخير وفعل الشر والأمر راجع إلى تربية الاختيار، وقد يختار الإنسان أن يسلك سلوكا مضادا للقوانين الأخلاقية، ولكنه لا يستطيع أن يفلت من الإطار الخلقي بعيدا عن الخير والشر «4» .
وتعود تلك القدرة على الاختيار إلى التربية: تربية الاختيار، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف:«كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» «5» . والحديث يتضمن تصوير حالة الاستعدادات والقدرات القابلة للتشكيل والصياغة، ويبين أنه من خلال التربية والبيئة والتفاعل والتنشئة الاجتماعية يكون سلوك الإنسان، وتكون إرادته وقدرته على مواجهة الشر والتغلب عليه واختيار الخير، وعلى شكل هذه الإرادة وقوتها تكون حياة الإنسان.
(1) صحيح البخاري: بعناية مصطفى البغا، ج 7، ص 20.
(2)
البلد: 10.
(3)
الشمس: 8.
(4)
على عزت بيجوفتش، مرجع سابق، ص 84.
(5)
ابن الديبع الشيباني، تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول، ج 1، ص 23.
والإسلام يقرر من خلال نصوصه أن هذه القضية ترتبط أصلا بالابتلاء، لأنها ترتبط بالإرادة الإنسانية والاختيار، وهذا يلقي على الإنسان مسئولية ضخمة، قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «1» . وهو سبحانه الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «2» .
فالابتلاء يجري على الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته، فهو إما مبتلى بالسراء أو بالضراء، بالمعصية أو بالطاعة «3» .
5-
إن تكليف الإنسان المشار إليه في الآية الكريمة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (الأحزاب/ 72) . هو أيضا ابتلاء، وعلى هذا الأساس كان خلق الإنسان تمهيدا وتأهيلا من حيث كانت قابلة لفعل الخير وتقبله، وكذلك لفعل الشر وتقبله وتحمّل نتائجه، ولذلك زود الإنسان بالصفات الخلقية والعقلية اللازمة للقيام بمهامه في إطار الابتلاء، وكانت القيم الخلقية طبقا للمنهج الإسلامي هي الضابط الأساسي لحركة الإنسان المكلف برسالة الاستخلاف في الأرض، وكانت الابتلاءات الخاصة من منح ومحن لإظهار جودة الإنسان أو رداءته من خلال التزامه بالمنهج الإسلامي في التعامل مع مواقف الابتلاء المختلفة «4» .
لقد ثارت منذ القدم مسألة الجبر والاختيار، وتنوعت الآراء حولها، والذي يهمنا هنا هو توضيح الموقف الإسلامي الصحيح من خلال نصوص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهناك عنصران أساسيان للإجابة هما:
أ- غيبية أفعالنا المستقبلة وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً (لقمان/ 34) .
ب- قدرة الإنسان على أن يحسن أو يفسد كيانه الداخلي قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس/ 9- 10) .
ويمكن أن تكتمل هذه الإجابة القرآنية من خلال تفهم أن جميع المثيرات مهما بلغت لا تستطيع أن تمارس إكراها على قراراتنا في مواجهة الابتلاءات، يقول الله تعالى على لسان الشيطان: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا
(1) الإنسان: 2- 3.
(2)
الملك: 2.
(3)
انظر مظاهر الابتلاء.
(4)
انظر تعامل المسلم مع مواقف الابتلاء.
أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ (إبراهيم/ 22) . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هناك إدانة شديدة للأعمال الناشئة عن الهوى أو التقليد الأعمى «1» ، يقول الله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الأعراف/ 176) ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ* فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (الصافات/ 69- 70) .
ويرى ابن تيمية: أن الطبيعة الإنسانية تتميز بأنها طبيعة حية، والإرادة والحركة من لوازم الحياة، ولما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها، فإذا أهداها الله، علمها ما ينفعها وما يضرها. فأرادت ما ينفعها، وتركت ما يضرها، وهذه الإرادة الحرة المتحركة، النشطة، الفاعلة، المتفاعلة هى من أخص الخصائص الإنسانية، وتبعا لهذه الحركة الإرادية يكون له دور في سلوكه، ومختلف أنماط نشاطه، وميوله، ومن ثم تكون الهداية الإلهية ضرورية، والمعرفة الدينية حيوية، حتى لا تنحرف به ميوله، وإراداته عن طريق الخير «2» . ومعنى هذا: أن الإرادة الإنسانية لا بد أن يكون لها دورها في اختيار النمط السلوكى، الذي تتحمل مسئوليته، ومما يدعم هذه المسئولية، حريتها بالإضافة إلى الفطرة، والمعرفة الإلهية متمثلة في الكتب والرسل، ومن ثم تبرز مسئولية الإنسان عن فعل الشر «3» .
إذن الإنسان يعيش بين جبر واختيار، ويتمثل الجانب الجبرى في حياة الإنسان في الموروثات التي تكون نفسيته وشخصيته أو تشترك في تكوينها، «من ذكاء وطباع ومزاج وغرائز وعواطف، ومواهب، وقدرات، بالإضافة إلى الشكل العام للجسد وقوته» وكذلك «المكتسبات الناتجة عن تفاعل الموروثات ببيئة الفرد مثل العادات والتقاليد، والأنماط السلوكية والمكانة لكل مجتمع ولكل عصر وما إلى ذلك» ، وهو ضرورى «لقيام التجربة الوجودية» «4» .
ومن الجبر أيضا الرزق والعمر والولد والقوة والجاه وكل ما يمنح الله الإنسان من نعم، وكل ما يصيبه من نقم، وأما الجانب الاختيارى فله ركائزه، وهي محققة في القرآن الكريم والسنة المطهرة «5» ، وهذا الاختيار له مساحاته، وإذا أراد الإنسان ونوى وعزم على الفعل، يأتى الفعل من الإنسان، والتوفيق من الله، وفي كل أفعال الإنسان يظل في تلك الحركة الدائبة، وهذا الجانب الاختياري من حياة الإنسان يتكون من مجموع اختياراته حيال التجارب الائتلافية التي يجتازها في حياته كلها، ومن مجموع الجانبين وامتزاجهما نتج لنا شخصية الفرد واضحة
(1) انظر دستور الأخلاق في القرآن الكريم ص 202 (بتصرف واختصار) .
(2)
محمد عبد الله عفيفي: النظرية الخلقية عند ابن تيمية، مرجع سابق ص 253.
(3)
المرجع السابق، ص 253، 254.
(4)
فاروق الدسوقي: القضاء والقدر في الإسلام، مرجع سابق، ص 180.
(5)
المرجع السابق، ص 215، 231.
جلية محددة الاتجاه والمصير، فالإنسان ليس في نهاية حياته سوى عمله الذي اختاره ونفذه ومات عليه» «1» .
وبالإرادة القوية الصحيحة التي تتكون لدى الإنسان عن طريق العلم الصحيح والتربية السليمة المعتمدة على أن الإنسان مفكر ذكي ذو قدرات واستعدادات تساعده على الاختيار السليم يكون الاختيار السليم، ولعل هذا بعض مما يوحى به الحديث الشريف:«اعملوا فكلّ ميسّر» «2» .
6-
والإنسان لا يعيش وحده بل في مجتمع، أي في علاقة، وهذا النوع من العلاقة لا يمكن أن يوجد إلا في وسط مجتمع له غايته الخاصة، وتأتى معطيات الإسلام مقررة أن الإنسان ليس فردا فردية مطلقة، ولا هو ذائب في الجماعة، بل هو يشكل جزءا من كل أكبر، وهذه الجماعة منسّقة لغايات أسمى، فالإسلام لا يضخم الفرد، ولا يضخم الجماعة، إذ هو يعطى الفرد ذاتيته المسئولة بحيث يصبح في النهاية فردا في مجموع، ويعطى المجتمع كيانا ووجودا في ضمير الأفراد، فهو يغذى في الفرد النزعة الفردية بحيث يشعر بذاتيته واستقلاله ويبين للإنسان دوره في المجموع، لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش بمعزل عن المجتمع.
والدور الاجتماعى للفرد مطلوب، وفي الوقت نفسه يقرر الإسلام ضمانات معينة ليسير المجتمع على أساسها، وليوفر الجو المستقر الذي يستطيع الفرد فيه استغلال قدراته كقوة متميزة متفردة، مسئولا عن أعماله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «3» .
وفي إطار هذه المسئولية الاجتماعية التي ترتب على الإنسان واجبات عديدة نحو مجتمعه وأسرته، بل ذاته، فإن له أيضا حقوقا لابد أن ينالها مثل حقه في الحياة والتملك، كل ذلك أي تلك الحقوق وما يقابلها من الواجبات يتم من خلال التوجه إلى مرضاة الله تعالى، وبهذا فقط ينشرح صدر الإنسان وتطمئن نفسه، ويتجاوب مع أهله وأصدقائه مشاركا لهم في أفراحهم، ومعينا لهم في وقت الشدة، ويتلقى منهم ما يسر خاطره، وقد جعل الإسلام هذه المشاعر النبيلة وتلك المشاركة الوجدانية الحقة ضمن عناصر الإيمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «4» .
ويعنى الإسلام كذلك بتقوية الروح الاجتماعية في الإنسان، ومحاربة القبلية والعائلية والانعزالية في نفسه لأنه مهما اتصف الفرد بأكمل الصفات وأتمها، فلن يتم كماله إلا إذا ملأت الروح الاجتماعية قلبه ووجهت عمله، وأيقظت ضميره، وكانت المسيطرة عليه في كل تصرفاته «5» .
(1) فاروق الدسوقي: القضاء والقدر في الإسلام، مرجع سابق، ص 180.
(2)
صحيح البخاري، مرجع سابق ج 3، ص 154.
(3)
مريم: 93- 95.
(4)
البخاري- الفتح (13) ، ومسلم (45) ، وانظر أيضا الأحاديث 63، 65، 67، 68، 71.
(5)
مصطفى السباعي، هذا هو الإسلام، ط 1، بيروت، المكتب الإسلامي، 1979، ص 10، 11.
وإلى هذا كله تشير الآيات الكريمة: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» .
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً «2» .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا «3» .
تؤكد الآيات ومعها الأحاديث النبوية مسئولية الإنسان الفرد في بناء المجتمع المسلم، وتؤكد أن الفرد عضو في كيان أكبر، هو المجتمع الإسلامي الذي يقوم على الإيمان والعدل والمساواة والأخوة والتحرك الواعي تجاه أهداف الجماعة الإسلامية.
هذه المعطيات الأساسية تعتبر المبادىء التي تم بناء الفرد المسلم عليها، وهى المنطلقات الأساسية للتكليف السليم، وهي أساس التربية الخلقية السليمة باعتبار أن الأخلاق الإسلامية تحتل المكان البارز في حياة المسلمين ولأن قواعد الأخلاق الإسلامية تتميز عن غيرها لاقترانها دائما بأمر التكليف حيث نرى اقتران أمر التكليف في كثير من آيات القرآن الكريم بالأمر بالفضائل الخلقية، كالبر والتعاون والمودة والأمانة وأمثالها «4» .
وهذا ما نلاحظه في كثير من آيات القرآن الكريم والسنة المطهرة حيث يربط بين الاثنين في أمر واحد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «5» .
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ* وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «6» .
هذا ما يتعلق بطبيعة الإنسان كمكلف إلا أن هناك شقا آخر في فهم التكليف يعد ضروريا ومهما، وهو (الأحكام التكليفية) وقد حدد الفقهاء هذه الأحكام في أنها: «ما اقتضى طلب الفعل من المكلف، أو كفه عن فعل،
(1) الحجرات: 13.
(2)
النساء: 1.
(3)
الأنفال: 72.
(4)
أبو الوفا مصطفى المراغي: السلوك الخلقي الاجتماعي في الإسلام، العدد 69، سلسلة دراسات في الإسلام، القاهرة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ص 14.
(5)
الحج: 77.
(6)
لقمان: 17- 19.
أو تخيره بين فعل والكف عنه» «1» . أو هو: «خطاب الله، المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخير أو الوضع» «2» .
وينقسم الحكم الشرعي التكليفي خمسة أقسام: الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة، وهذه الأقسام تجعل الفعل الصادر من المكلف ذا قيمة أو غير ذي قيمة، وتفصيل ذلك فيما يلى:
* الإيجاب: هو «ما اقتضاه خطاب الله من المكلف اقتضاء جازما، لا يجوز تركه» كالأمر بالصلاة والزكاة والحج، والذي يتعلق بالإيجاب من فعل المكلف: الواجب وهو: «الفعل الذي يذم شرعا تاركه قصدا، أو هو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه قصدا» «3» .
- والندب: هو «ما اقتضاه خطاب الله من المكلف اقتضاء غير جازم بأن يجوز تركه» وذلك كالأمر بصلاة الليل والضحى، وصدقة التطوع وإفشاء السلام وغير ذلك، ويتعلق بفعل المكلف ويسمى (مندوبا) وهو الفعل الذي يحمد فاعله ولا يذم تاركه، أو هو الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وقد قسمه العلماء أقساما كثيرة «4» .
- والتحريم: هى «ما اقتضى خطاب الله تعالى من المكلف تركه اقتضاء جازما، بأن منع من فعله ولم يجوزه» كالنهي عن الزنا، وأكل مال اليتيم، والغيبة والنميمة.. ويتعلق بفعل المكلف، ويوصف (بالحرام) وهو الفعل الذي يذم شرعا فاعله قصدا، أو هو الذي يعاقب فاعله ويثاب تاركه «5» .
والكراهة هي: ما طلب الشارع الكف عنه طلبا غير ملزم بأن كان منهيا عنه واقترن لفظ النهي بما يدل على أنه لم يقصد به التحريم «6» .
- والإباحة: هى «ما كان الخطاب فيها غير مقتض شيئا من الفعل والترك، بل خيّر المكلف بينهما» ويتعلق بفعل المكلف ويوصف (بالمباح) وهو الفعل الذي لا يتعلق بفعله مدح ولا ذم، أو هو الفعل «الذي لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه «7» .
وهكذا يتضح أن أفعال المكلف تتعلق ببواعث ومثيرات ومعايير معينة، تشكل اتجاهه نحو الأشياء والأفكار والأفعال، والناس مما يجعل هذا الفعل أو هذا السلوك ذا قيمة أو غير ذي قيمة فإذا ما انطبعت نفس الإنسان على الفعل والترك كان ذلك خلقا له.
وخلاصة الأمر أن الإسلام أتى بتلك الأحكام كمعايير لسلوك المسلم، لينظم لهم حياتهم ويصنع بهم العمارة الكبرى في الحياة، ولم يتركهم هملا ولم يكلفهم من أمرهم عسرا، وإنما أخذهم بخطة رشيدة تجعلهم يقومون
(1) عبد الوهاب خلاف: أصول الفقه، ط 8، مكتبة الدعوة الإسلامية (بدون تاريخ) ، ص 101.
(2)
محمد حسن هيتو: الوجيز في أصول التشريع، ط 1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1403 هـ/ 1983 م، ص 99.
(3)
المرجع السابق، ص 43، 44.
(4)
المرجع السابق ص 43. 44، وراجع: عبد الوهاب خلاف، مرجع سابق، ص 112.
(5)
المرجع السابق ص 43، 44.
(6)
أصول الفقه لمحمد أبو زهرة ص 42.
(7)
الوجيز في أصول التشريع ص 43، 44.