الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توحيد الله في العقول، ويسكن في القلوب، وتطمئن به النفوس، عند ذلك يبدأ العمل بتنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه وتأدية ما فرضه الله على العباد وفق ما جاء به وحيه، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يبدأ التنافس بين العباد في الأعمال الصالحة. ولذلك نجد جوهر دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم واضحة جلية في كثير من الآيات والسور التي نزلت بمكة، ومنها على سبيل المثال قول الله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «1» .
ويجمل شيخ الإسلام ابن تيمية دعوة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «وعامة السور المكية كالأنعام والأعراف
…
هي الأصول الكلية التي اتفقت عليها شرائع المرسلين كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والصدق والعدل والإخلاص، وتحريم الظلم والفواحش والشرك بالله والقول على الله بلا علم» «2» .
شرع النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يبين حقيقة أن «لا إله إلّا الله» التي تعني الوحدانية المطلقة لله سبحانه وتعالى وعدم صرف أي شيء من أنواع العبادة لغير الله، «فالإنسان ليس عبدا لكائن في الأرض أو عنصر في السماء، لأن كل شيء في السماء والأرض عبد لله، يعنو لجلاله ويذل في ساحته ويخضع لحكمه، وليس هناك شركاء ولا شفعاء ولا وسطاء، ومن حق كل امرىء أن يهرع إلى ربه رأسا غير مستصحب معه خلقا آخر، كبيرا أو حقيرا. واجب على كل امرىء أن ينكر من أقاموا أنفسهم أو أقامهم غيرهم للتقرب إلى الله زلفى، وأن ينزل بهم إلى مكانهم المحدود سواء كانوا بشرا أو حجارة أو ما سوى ذلك، ويجب أن تبنى جميع الصلات الفردية والجماعية على أساس تفرد الله في ملكوته بهذه الوحدانية التامة. ونتيجة هذه العقيدة أن الحجارة التي يعبدها العرب أصبحت لا تزيد عن الحجارة التي تبنى بها البيوت أو ترصف بها الطرق» «3» .
أبعاد تأثير الدعوة على مجتمع مكة:
جاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بدعوة، قلبت حياة البشر رأسا على عقب، ولم تكن تلك الدعوة تتناول عقيدتهم وحدها، بل شملت حياتهم في جميع مظاهرها: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي المال، وفي البيت. ولم يكن طبعيا ولا مألوفا أن ينكروا ما وجدوا عليه آباءهم وبلادهم طواعية، فكان لا بدّ لهم من التصدي لهذه الدعوة، ومقاومة صاحبها، ليرجع إلى الصف الذي خرج عنه، فيعظّم حرماتهم التي يعظّمون.
ولهذا فقد قاومت قريش الدعوة التي نقضت عقيدتها الفاسدة والمنحرفة، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو
(1) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآيات/ 151- 153.
(2)
ابن تيمية- الجواب الصحيح 3/ 360.
(3)
محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 92- 93.
إلى التوحيد، وينذر بالبعث «1» ، فلا هي راضية بإله غير آلهتها، ولا هي واجدة في البعث والحساب الذي ينذرها به ما تعقله أو ترضاه.
ولو أن محمدا صلى الله عليه وسلم قصر دعوته على التوحيد، وتسفيه أحلام القوم، لكفى بذلك إعناتا، ولكنه زيادة على ذلك دعا إلى الإيمان بالبعث، فاستغربوا ذلك، واستبعدوه كل الاستبعاد، وقالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* «2» .
لقد سخروا من هذه الفكرة، واستدلّوا بها على ضعف رأي صاحب الدعوة. مشى إليه يوما أبيّ بن خلف بعظم بال، فقال: يا محمّد، أنت تزعم أنّ الله يبعث هذا! ثمّ فتّه بيده، ثمّ نفخه في الرّيح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فردّ القرآن على ذلك بقوله:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «3» .
صدمت الدعوة إلى التوحيد والبعث دين قريش وعقلها فسخرت لذلك قريش من الداعي، ثم هبت إلى الإيذاء والعدوان.
لم يكتف محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته هذه التي كانت غريبة في رأي القوم، بل زاد عليها أن دعا إلى تحريم الخمر، والزنا، والميسر، والربا. وقريش لا تستغني عن هذه الأربعة، ففيها متعهم، وفيها تفاخرهم، وفيها غناهم وثروتهم.
فربا قريش كان في القبائل كلها، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يريد أن يحرم عليها ما تعدّه من طيبات الحياة، ومصادر الثروة، فأنّى لها أن تستطيع على ذلك صبرا؟.
لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، والبعث، وتحريم بعض ما طاب لنفوس القوم، بل دعا كذلك إلى أمر غريب عليهم، مستنكر لديهم، ذلك هو حق المساواة، وهم الذين قضوا أعمارهم في التفاخر بالأحساب والأنساب. فما بال محمد صلى الله عليه وسلم يخرج عليهم بالمساواة بين السادة والعبيد، ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط؟
إنها للكبيرة التي لن ترضى قريش أن تقرّه عليها، قريش التي أنفت أن تسوّى بالناس، فحرّفت لذلك دينها، وأنفت أن تقف على عرفة، وأن تفيض منها كما يقف الناس ويفيضون، وهي تعلم أن ذلك من مشاعر إبراهيم وفرائض الحج. قريش التي ألزمت العرب ألا يطوفوا بالبيت في أثواب جاءوا بها من البدو، فطافوا عراة
…
قريش التي كانت تختص بأنواع الامتياز التي جعلتها لنفسها كما تشاء، كيف ترضى للرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو للمساواة المطلقة، وأن يقول لعشيرته: «يا بني هاشم لا يجئني النّاس بأعمالهم وتجيئوني بأنسابكم
…
» .
بل من الغريب أن محمدا صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت الرياسة من قريش، وفي طليعة الممتازين، رفض في الجاهلية ضروب هذا الامتياز، وسوّى نفسه ببقية الأمة قبل أن يكون رسولا يوحى إليه.
إن دخول المستضعفين في دين الإسلام أزعج زعماء قريش وخافوا مغبته فأرسلوا لمحمد صلى الله عليه وسلم يقولون:
«اطرد هؤلاء عنك ونحن لا نرى بأسا من اعتناق دينك» فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العرض، فبعثوا إليه مرة أخرى
(1) انظر صفة الإنذار.
(2)
القرآن الكريم- سورة الصافات، الآية/ 16.
(3)
القرآن الكريم- سورة يس، الآيات/ 78- 79.
يقولون له: «إن لم يكن من بقائهم بدّ فليكونوا في مؤخرة الصفوف ونتولى نحن الصدارة» ففكر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العرض الجديد، إن الصدارة إنما يظفر بها أهل الكفاية وأصحاب السبق في الإيمان والعمل، أيمكن أن تكل المؤمنين إلى إيمانهم، وتتألف هؤلاء الأقوياء بإحلالهم في مكان الصدارة حتى إذا تشرّبت أفئدتهم الإيمان كاملا تركوا هذه العنجهية من تلقاء أنفسهم.
وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المقابلة نزل الوحي بحسم القضية كلها وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ* وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ «1» .
وهكذا ألقت السماء كلمتها إن المبادىء لا يضحّى بها ولو من ناحية الشكل ومن دخل في دين الله فيلخلع عن نفسه أردية الجاهلية كلها، ولا يشعر بأنه أرجح من غيره لامتيازات مبهمة مدّعاة «2» .
لم تستطع قريش صبرا على الدعوة إلى المساواة، فبطشت بالعبيد، وقست على المستضعفين الذين وجدوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم إنصافا.
ولم يكتف النبي بأن عاب أوثانها، وأنذرها ببعث وحساب شديد، وقوّض جاهها وسلطانها، وحرمها شهواتها والاتجار بالربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا «3» وسوى بينها وبين العبيد المستضعفين، بل قام يطلب لهؤلاء العبيد والفقراء وأبناء السبيل حقّا في أموال الأغنياء: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «4» يؤخذ منهم قسرا، ويضرب عليهم ضريبة، وما كان أبغض إلى نفوس القوم من ضريبة يؤدونها مفروضة! فلما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كانت تلك الضريبة أول ما عصوا عليه، وارتدوا من أجله.
ذلك مجمل من القول يصوّر حالة المجتمع الذي قام فيه محمد صلى الله عليه وسلم داعيا إلى الله، وإلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بغيض إلى القوم. وقد صوّر ذلك القرآن في أبدع إيجاز بهذه الآية: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا «5» .
ويجيب القرآن على قولهم هذا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ* وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ «6» .
كما أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ذكّر قومه قريشا بفضل الله عليهم وطالبهم بشجاعة وإصرار بترك آلهتهم
(1) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآيات/ 52- 53.
(2)
محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 90- 93.
(3)
القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 275.
(4)
القرآن الكريم- سورة المعارج، الآيات/ 24- 25، وانظر صفة «الزكاة» .
(5)
القرآن الكريم- سورة القصص، الآية/ 57.
(6)
القرآن الكريم- سورة القصص، الآيات/ 57- 59.
وأصنامهم وأن يعبدوا الله وحده ربّ حرمهم الآمن بلفظ واضح جامع: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» .
ولقد نقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه ما جاء به القرآن الكريم في وصف القيامة ومشاهدها ووصف الجنة وما فيها من نعيم للمؤمنين والنار وما فيها من عذاب مهين للكافرين، فنجد سورا كاملة تتحدث عن ذلك «2» . ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بقوله:«وأما وصف القيامة الكبرى في الكتاب والسنة، فكثير جدّا، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وقد بعث بين يدي الساعة فلذلك وصف القيامة بما لم يصفها به غيره» «3» .
وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم عرض دعوته على قومه، وأخذت الآيات البينات تتنزل عليه من ربه تبين لهم أن تلك الأصنام التي يعبدونها من دون الله لا تضر ولا تنفع، وتنذرهم بأن من يعبدها ويموت على ذلك فمصيره إلى النار وبئس القرار.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبهم بلسانهم فحسب، بل كان يخاطبهم بتلاوة كلام الله عليهم، ذلك الكلام العربي المبين الذي يهزهم بفصاحته وبلاغته، وكانت كثير من سور القرآن تبتديء بحروف لها وقع غريب تلفت انتباههم وتشدهم ثم يتلوها كلمات لها معان لم يسمعوا بها قط. يتلوها عليهم، كما نزلت عليه من عند ربّه ليخبرهم برسالته ويعلمهم بحالهم وحاله حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ* قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ «4» .
ثم يعود ليؤكد لهم بالأسلوب نفسه والطريقة ذاتها أنه رسول الله إليهم وإلى الناس أجمعين لينذرهم ويوضح لهم جوهر دعوته إلى ربه: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ* الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ* وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «5» .
أصبحت قريش بعد كلّ هذا في حيرة من أمر ابنهم هذا الذي أعجزهم بلغتهم وهم سادة لسان العرب.
وكان أبو طالب في هذه الفترة قد حدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لأمره، لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم (أي لا يرضيهم) من شيء وأنكروه عليه
(1) القرآن الكريم- سورة قريش، الآيات 1- 4.
(2)
منها على سبيل المثال لا الحصر سور: ق، الطور، الرحمن، الواقعة، الحاقة، المعارج، المدثر، القيامة، الإنسان، المرسلات، النبأ، النازعات، عبس، الانفطار، الانشقاق
…
وغيرها.
(3)
ابن تيمية- الجواب الصحيح، ص/ 99.
(4)
القرآن الكريم- سورة فصلت، الآيات/ 1- 6.
(5)
القرآن الكريم- سورة إبراهيم، الآيات/ 1- 4.
ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه، فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب «1» ، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلل آباءنا، ف إما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله. فذهب الوفد مرة أخرى إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب: إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين
…
ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعدوانهم، ولم يطب نفسا بتسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه، فدعا أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يابن أخي: إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فقال عليه الصلاة والسلام:«يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته» «2» ، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قال، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا «3» .
ولما فشل المشركون مع أبي طالب في أن يتخلى عن النبي صلى الله عليه وسلم عمدوا إلى المستضعفين من المسلمين فأنزلوا بهم من الأذى والاضطهاد والتعذيب الشيء الكثير «4» . ولما ازداد الأذى بالمسلمين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة لأنها أرض صدق وبها ملك لا يظلم أحدا، فهاجر عدد من الرجال والنساء في السنة الخامسة ثم لحق بهم مهاجرون آخرون بعد بضعة شهور حتى وصلوا إلى ثلاثة وثمانين رجلا مع بعض النساء.
وخافت قريش من انتشار الإسلام خارج مكة فأرسلت رجلين إلى النجاشي ملك الحبشة بهدايا قيمة بغية استعادة المهاجرين إلى مكة، فلما طلبا من النجاشي تسليمهم استدعاهم النجاشي وسألهم عن أمرهم فتحدث نيابة عنهم جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه وعرض في إيجاز جوهر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال:
«أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة
(1) سيرة ابن هشام 1/ 297، وقد ذكر ابن هشام من هؤلاء عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري، والأسود بن عبد المطلب، وأبو جهل، والوليد بن المغيرة، وغيرهم.
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 299، وتاريخ الطبري 2/ 326، سيرة ابن كثير 1/ 474- 475.
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 299، وقارن بالمراجع العديدة التي ذكرت هناك.
(4)
ابن تيمية- الجواب الصحيح 1/ 194، البلاذري- أنساب الأشراف 1/ 158- 197.
والزكاة والصيام- فعدد عليه أمور الإسلام- فصدّقناه وآمنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك» ، فرفض النجاشي تسليم المهاجرين لمبعوثي قريش وتعهد بحمايتهم «1» .
ثم لجأت قريش إلى ترويج الاتهامات الباطلة لصد الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك أنهم اتهموه بالجنون.
وفي ذلك نزل قول الله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «2» . وقد أجابهم الله في سورة القلم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «3» ، وحكى ذلك عنهم في قوله وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ «4» . واتهموه بالسحر وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ «5» ، وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً «6» .
وقد تحير الوليد بن المغيرة فيما يصف به القرآن. فعندما أوشك دخول موسم الحج جمع فريقا من عتاة المعاندين، فقال لهم: «يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا
…
» وعلى الرغم من استبعادهم أنه كاهن أو شاعر أو ساحر إلّا أنهم اتفقوا على أن يقولوا للناس إنه ساحر، لأنه يفرق بين الأقارب، فأنزل الله في الوليد ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً
…
«7» ثم أخذوا يتلقون الناس يحذرونهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وشاء الله أن تصدر العرب من ذلك الموسم وقد شاع بينهم أمر الدعوة وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها «8» وكان مثل هذه المواقف سببا في إسلام الناس في المواسم.
واتهموه بالكذب، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ «9» .
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 206- 207، أحمد- المسند 1/ 201- 203، البيهقي- دلائل النبوة 2/ 301- 304، ابن عبد البر- الدرر في اختصار المغازي والسير ص/ 93- 94، الذهبي- السيرة النبوية ص/ 116- 119 وقال الألباني إنّ سنده صحيح، وانظر: محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 115 حاشية رقم (2) .
(2)
القرآن الكريم- سورة الحجر، الآية/ 6.
(3)
القرآن الكريم- سورة القلم، الآية/ 2.
(4)
القرآن الكريم- سورة القلم، الآية/ 51.
(5)
القرآن الكريم- سورة ص، الآية/ 4.
(6)
القرآن الكريم- سورة الفرقان، الآية/ 8.
(7)
القرآن الكريم- سورة المدثر، الآية/ 11. وانظر الآيات التي بعد هذه الآية في صفات الوليد.
(8)
ابن هشام- السيرة (2/ 334- 337) من رواية ابن إسحاق، ورواه الطبري في تفسيره (14/ 157) من طريق ابن إسحاق أيضا.
(9)
القرآن الكريم- سورة الفرقان، الآية/ 4. وانظر تفسيرها في زاد المسير (6/ 72- 73) . قال مجاهد في قوله وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ: يعنون اليهود. وقال مقاتل: أشاروا إلى عداس مولى حويطب ويسار غلام عامر بن الحضرمي وحبر مولى لعامر أيضا، وثلاثتهم من أهل الكتاب.