الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة النبوية «1» . ويرجع الواقدي سببها إلى أنه قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بدومة الجندل جمعا كثيرا من الناس وأنهم يظلمون من مرّ بهم من تجار الميرة والمتاع المتنقلين بين المدن- وكان بدومة الجندل سوق عظيم وتجارة رائجة، وأنه قد ضوى إليهم قوم من العرب كثير، وأنهم يريدون التوجه إلى المدينة طمعا في أموالها «2» ، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وخرج في ألف من المسلمين، ومعهم دليل من بني عذرة، وقبل وصولهم دومة الجندل هجموا علي ماشيتهم ورعائهم، فأصابوا قسما منها، وهرب من هرب، فبلغ الخبر دومة الجندل، فتهاربوا إذ لم يجد المسلمون أحدا فيها عند وصولهم، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فيها أياما، وبعث بالسرايا من هناك إلى مختلف الأنحاء وكانت ترجع بالإبل فقط، إلّا سريّة محمد بن مسلمة الذي أسر رجلا منهم وعرض عليه الإسلام فأسلم. وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى المدينة «3» .
غزوة المريسيع (بني المصطلق) :
ساهم بنو المصطلق- وهم من خزاعة الأزدية اليمانية «4» مع قوات المشركين التي قادتها قريش ضد المسلمين في معركة أحد «5» . وقد تجرّأ بنو المصطلق فيمن تجرّأ من الأعراب على المسلمين، فأخذ زعيمهم الحارث بن أبي ضرار في جمع السلاح والرجال وتأليب القبائل المجاورة للقيام بهجوم على المدينة «6» . وحين علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، أرسل عينا جاءه بتأكيد نيّتهم في ذلك «7» .
وفي يوم الاثنين الثاني من شعبان سنة 5 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة «8» ، في سبعمائة مقاتل وثلاثين فرسا، وتوجه نحو بني المصطلق «9» . وحيث إنهم كانوا ممن بلغتهم دعوة الإسلام، وكانوا قد شاركوا في غزوة أحد ضمن جيش المشركين ضد المسلمين، كما أنهم كانوا يجمعون الجموع ويستعدون لحرب المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أغار
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 297- 298، الواقدي- المغازي 1/ 402، ابن سعد- الطبقات 2/ 62.
(2)
الواقدي- المغازي 1/ 402- 404، ابن سعد- الطبقات 2/ 62- 63، وقد أضاف الواقدي سببا آخر وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يقترب بتحركاته العسكرية من حدود الشام لكي يفزع الروم (المغازي 1/ 403) ، وانظر ابن هشام- السيرة 3/ 297- 298.
(3)
الواقدي- المغازي 1/ 402- 404، ابن سعد- الطبقات 2/ 62- 63 معلقا.
(4)
خليفة بن خياط- الطبقات ص 76، 107، ابن هشام- السيرة 1/ 136 وكانوا يسكنون قديدا وعسفان بين مكة والمدينة (الحربي- المناسك 458- 460) ، القلقشندي- قلائد الجمان ص 93، النويري- نهاية الأرب 2/ 332.
(5)
ابن هشام- السيرة 2/ 61، الواقدي- مغازي 1/ 200.
(6)
ابن سعد- الطبقات 2/ 63 بإسناد جمعي.
(7)
المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها، وانظر: البيهقي- السنن 9/ 54، ودلائل النبوة 4/ 44، الواقدي- 1/ 404، ابن كثير- البداية 3/ 242، 4/ 156. وكذلك ابن هشام- السيرة 3/ 401.
(8)
ابن كثير- البداية 3/ 242، 4/ 156 وهذا هو الراجح حكاه موسى بن عقبة عن الزهري وعن عروة، وتابعه أبو معشر والواقدي وابن سعد انظر ابن حجر فتح الباري 7/ 430، مغازي 1/ 404، ابن سعد- الطبقات 2/ 63، البيهقي- السنن 9/ 54، ابن القيم- زاد المعاد 3/ 125، الذهبي- تاريخ الإسلام 2/ 275.
(9)
الذهبي- تاريخ الإسلام (المغازي) 1/ 230، الواقدي- مغازي 1/ 404.
عليهم وهم غارّون، وكانت أنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم وغنم أموالهم «1» . ولم تتفق الروايات في عدد القتلى ومقدار السبي والأموال سوى ما ذكره ابن إسحاق من عتق «مائة أهل بيت من بني المصطلق» «2» ، في حين يذكر الواقدي بأنه قد قتل عشرة من بني المصطلق وأسر سائرهم «فما أفلت منهم إنسان» «3» .
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة إلى المدينة هلال رمضان، بعد أن غاب عنها ثمانية وعشرين يوما «4» .
وفي هذه الغزوة كشف المنافقون عن مدى حقدهم على الإسلام والمسلمين، فقد ازدادوا غيظا بالنصر الذي تحقق على بني المصطلق، وسعوا في بادىء الأمر إلى إثارة العصبية القبلية بين المهاجرين والأنصار «5» . فلما فشلت المحاولة، عمل عبد الله بن أبي بن سلول على عرقلة جهود الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة، وعلى منع الأموال من أن تدفع لأجل ذلك بغية أن ينفض الناس من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوعد بإخراجه ذليلا من المدينة عند العودة إلى المدينة «6» .
وحين استدعى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقين حين علم بما قالوا، واستفسر منهم عن الأمر، فإنهم أنكروا ذلك وحلفوا بأنهم ما قالوا شيئا، ثم أنزل الله تعالى سورة المنافقين وفيها تكذيب لهم «7» ، وفضح لأيمانهم الكاذبة «8» وتأكيد وتصديق لما نقله الصحابي زيد بن أرقم، وذلك في قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ* يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ «9» .
ولقد ضعف مركز عبد الله بن أبي بن سلول في قومه بعد هذه الحادثة، فقد أصبحوا يعنفونه ويلومونه كلما أخطأ، واحتقره المسلمون، وفقد مكانته «10» ، حتى إن ابنه عبد الله استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمره بأن يبره ويحسن صحبته «11» . وقد أقدم مع شدة برّه بأبيه وهيبته له، على منعه من دخول المدينة
(1) البخاري- الصحيح 3/ 129، مسلم- الصحيح 5/ 139.
(2)
ابن إسحاق- السيرة 1/ 336245، ابن هشام- السيرة 2/ 293- 4، 645.
(3)
الواقدي- المغازي 1/ 140، ابن سعد- الطبقات 2/ 64 ويذكر الواقدي أن الغنائم كانت ألفي بعير وخمسة آلاف شاة، وأن السبي كان مائتي أهل بيت. وأورد الزرقاني رواية له أن السبي أكثر من سبعمائة (شرح المواهب اللدنية 3/ 245) .
(4)
الواقدي- مغازي 1/ 404.
(5)
البخاري- الصحيح 4/ 146، 6/ 128، مسلم- الصحيح 8/ 19.
(6)
سمع ذلك الصحابي زيد بن أرقم فنقله إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما عن طريق عمه سعد بن عبادة، أو عمر بن الخطاب، انظر في ذلك: الإمام أحمد- المسند 3/ 392- 393 بإسناد صحيح، فتح الباري 8/ 649، الترمذي- السنن 5/ 90.
(7)
القرآن الكريم- سورة المنافقون، الآية/ 1.
(8)
القرآن الكريم- سورة المنافقون، الآية/ 2.
(9)
القرآن الكريم- سورة المنافقون، الآية/ 7- 8.
(10)
ابن هشام- السيرة 2/ 290- 293 ويؤيد ذلك أحد المراسيل الجيدة لعروة بن الزبير (فتح الباري 8/ 649) وأصله في الصحيحين البخاري- الفتح 6/ 127، مسلم- الصحيح 8/ 119.
(11)
الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 318.
حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخولها «1» .
استغل المنافقون بعد ذلك حادثة حصلت لأم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها في طريق العودة من غزوة بني المصطلق فقد نزلت من هودجها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقدا لها فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنها فيه، وحين عادت افتقدت الركب فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مرّ بها أحد أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو صفوان بن المعطل السلمي، فحملها على بعيره وأوصلها إلى المدينة بعد وصول الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستغل المنافقون هذا الحادث ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول، وأغرى بالكلام ثلاثة من المسلمين هم مسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، فاتّهمت أم المؤمنين عائشة بالإفك. وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بما كان يسمع من دعايات المنافقين، وصرّح بذلك للمسلمين في المسجد حيث أعلن ثقته التامة بزوجته وبالصحابي ابن المعطل السلمي، وحين أبدى سعد بن معاذ استعداده لقتل من تسبب في ذلك إن كان من الأوس، أظهر سعد بن عبادة معارضته بسبب كون عبد الله بن أبي بن سلول من قبيلة الخزرج، ولولا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم وتهدئته الصحابة من الفريقين لوقعت الفتنة بين الأوس والخزرج «2» .
ومرضت عائشة بتأثير تلك الإشاعات الكاذبة، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الانتقال إلى بيت أبيها، وانقطع الوحي شهرا عانى الرسول صلى الله عليه وسلم خلاله كثيرا، حيث طعنه المنافقون في عرضه وآذوه في زوجته، ثم نزل الوحي موضحا: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ «3» .
وتوالت الآيات بعد ذلك تكشف مواقف الناس من هذه الفرية، وتعلن بجلاء ووضوح براءة أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها التي أكرمها الله سبحانه فمنحها الجائزة والتعويض المناسب لمحنتها وصبرها وحسن توكلها عليه سبحانه، إذ نزل في براءتها آيات من القرآن يتعبّد بها المسلمون أبد الدهر، كما علّم المؤمنين آداب التعامل مع هذه المسائل الحسّاسة، وآداب التعامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك «4» .
لقد كادت حادثة الإفك أن تحقق للمنافقين ما كانوا يسعون إلى تحقيقه من هدم وحدة المسلمين وزعزعة عقيدتهم في النبي صلى الله عليه وسلم، وإشعال نار الفتنة بين المسلمين، ولكن الله سلّم فقد تمكّن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم من قيادة الأمة بكفاءة وهو في تلك الظروف الحالكة لتجتاز الامتحان الصعب، ويصل بها بأمان إلى شاطىء السلامة.
(1) ابن هشام- السيرة 2/ 293، الترمذي- السنن 5/ 90.
(2)
الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 230، السيوطي- الدر 5/ 27.
(3)
القرآن الكريم- سورة النور، الآية 11، وانظر: البخاري- الصحيح 9/ 89، مسلم- الصحيح 8/ 112- 118، الطبري- التفسير 18/ 89.
(4)
انظر: سورة النور، الآيات 12، 16، 22، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 7370) ، مسلم- الصحيح 4/ 2129 (حديث 2770) .