الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
هدفنا: كلما نقب الإنسان في آفاق الفقه وكتب الفقهاء المسلمين، ازداد إيماناً بخلود شريعة الإسلام في تنظيم الحياة، وسلامة الفكر الإسلامي، وعبقرية الفقهاء، وعظمة الفقه، الذي لا تقتصر أحكامه على الدليل النقلي من القرآن والسنة فحسب، وإنما تتغلغل في أعماق الوجدان والعقل الإنساني لتجد لها ما يؤيدها ويدعمها حتى اليوم، ويساندها من أجل التطبيق العملي، ويشد أزرها للنهوض من جديد في حكم العلاقات الاجتماعية والمعاملات المتكررة يومياً بين الأفراد، وفي العلاقات الدولية أيضاً.
والهدف من الأخذ بأحكام الإسلام هو إقامة مجتمع إسلامي عزيز كريم نظيف آمن مطمئن، لا محل فيه لإعطاء الدنية أو الاستسلام للعدو، ولا قرار فيه للجريمة والفوضى، ولا اعتبار للشذوذ والانحراف، والفساد أو المنكر والمعصية، وذلك بقدر الإمكان، وضمن مبادئ الإسلام التي من أهمها مبدأ الستر على المعصية الخفية غير المعلنة، ومبدأ درء الحدود ـ لا التعزيرات ـ بالشبهات.
ومما يشدنا إلى إسلامنا بحق أن الناس جربوا في عصرنا المستورد من القوانين والأنظمة، والأفكار والثقافات والمعارف المتعددة، المصطبغة كلها بصبغة مادية ضيقة أو بحتة، وآب الواعون في النهاية إلى حظيرة الإسلام ليجدوا فيه الحل الأفضل، بعد أن أفلست البضاعة المستوردة، في تقدم الفرد والجماعة، وانكشف طلاؤها المزيف بزيف الحضارة، التي أخذنا منها الساقط الحقير، وتركنا الجوهر أو النافع المفيد، فنقم الناس على تلك الأنظمة والثقافات، لما أدت إليه من إفساد
الضمائر والأفكار، وزرع الشك وعدم الثقة بالنفس، واهتزاز القيم والفضائل والأخلاق، ولم تفلح في النهاية إلا في إبقائنا ضعفاء عالة على الغير، مجهولي الهوية، ليست لنا ذاتية مستقلة، إسلاماً أو عروبة، شرقاً أو غرباً.
وبدافع قوي من الشعور أو اللاشعور اتجه المجتمع إلى الإسلام ـ طريق الخلاص، ولكنهم ظلوا في فلك العبادات وحدها يعملون، فأصبحت نظم الحياة في جانب، والعبادة في جانب، فصاروا في ازدواجية وترنح وتناقض، وحيرة وملل، واضطراب جديد أقل سوءاً من البعد النهائي عن الإسلام.
ولا نجاة من تلك الازدواجية إلا بتطبيق كامل لشرعة الله في المعاملات والجنايات والحدود وغيرها، وتغيير القوانين الوضعية. وبالفعل برقت آمال في اتجاهات صادقة نحو قوانين الشريعة في دنيا العرب والإسلام لتطهير المجتمع من الرذيلة والانحراف، وإثبات الذات، ومعالجة شؤون الحياة بفكر الإسلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، ولتحطيم قيود الذل والهوان، ودحر العدوان بمختلف أشكاله، ومحاربة الاستغلال بكل أصنافه، والاعتماد على النفس، وجمع المسلمين تحت راية القرآن، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والإفادة من فقه الشريعة الذي لا يخرج عن هذين المصدرين.
وأحسَّ كل مسلم أن سبيل العزة، ورد العدوان، وتخليص الأراضي والحقوق المغتصبة، هو بالانضمام تحت راية الجهاد المقدس لإعلاء كلمة الله تعالى، على النحو الذي وُجد به العدو، وجمَّع قواته، وقاتلنا تحت شعار مذهبه العنصري البغيض.
ومعرفة أحكام العقود، كما بان سابقاً، وتنظيم الجهاد في الفقه، وتفصيل الكلام عن الحدود والجنايات، والقضاء الإسلامي العادل، ومبادئ الحكم
الإسلامي، فرع من تلك الدوحة العظيمة والثروة الكبرى لفقهنا الذي له من المكانة العالية عند كل رجال التشريع والفقه والقضاء في العالم.
ومع الأسف الشديد وصف بعض الجاهلين هذا الفقه الخصب بأنه «مجرد ركام» تأثراً منهم بحب الغرب، وشعوراً منهم بالنقص، وعدم الثقة بالنفس، وجهلاً فاضحاً بما تتطلبه الحياة من فرضيات واحتمالات كثيرة موجودة في ظل تطبيق القوانين الحالية، ويحلو لهم بعدها التطفل على موائد الغرب، وترديد ما قال (المسيو فلان والمستر فلان) متجاهلين أو تاركين عمداً ما قاله شيوخ الإسلام العظام، الذين ما زالت أفكارهم ونظرياتهم وجهودهم مرقى العظماء، ومطمح العلماء، ومأوى الفلاسفة والمفكرين.
فإلى فقه الإسلام يا جيلنا، وإلى ثروته الخصبة، وإلى ينابيعه العذبة لتغترف منها ما تراه مناسباً لعصرك، فالله يسَّر لك الطريق باختيار السمح السهل من الأحكام، وزودك باليقين الصادق والعقل الناضج والحس المرهف لأخذ الصالح، وكشف الحق في مهاده، وقمع الباطل في وهاده. وحينئذ تعلم أن رفع راية الإسلام تتطلب تهيئة أرضية صلبة لها، من الواقع العملي المتمثل بالفقه الإسلامي، والفكر الإسلامي، والدعوة الإسلامية البناءة؛ لأن الدعوة ليست مجرد عاطفة تؤجج، أو هيكل فارغ المضمون والمحتوى والمنهج. وإعداد هذه الأرضية إنما هو من أجل ضمان بقاء هذه الدعوة، حتى لا تهتز أمام تحرك العواصف الهوجاء، أو تدابير الأعداء.
ففي فقه الإسلام بكل مذاهبه إذن دليل على صلاحية الإسلام للتطبيق في كل عصر، وطريق لتحقيق تماسك الشخصية الإسلامية، فهو عامل بناء وتجميع وتوحيد لا تفريق وتمزيق كما يرى السطحيون، وأما اختلاف الفقهاء فليس إلا في