الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأجبر الناس المجاورين للمسجد على بيع دورهم المحيطة به، وقال لهم:«إنما أنتم الذين نزلتم على الكعبة، ولم تنزل الكعبة عليكم» . وكذلك فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا الفعل مرة أخرى وقال: «إنما جرأكم علي حلمي، فقد فعل عمر بكم ذلك فلم تتكلموا» ثم أمر بحبسهم لمدة، مما يدل على جواز نزع الملكية الفردية لمصلحة المرافق العامة كتوسيع الطرق والمقابر وإقامة المساجد وإنشاء الحصون والمرافئ والمؤسسات العامة كالمشافي والمدارس والملاجئ ونحوها؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ثم إن فقهاء المذاهب قرروا أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإذا منع من فعل مباح صار حراماً، وإذا أمر به صار واجباً. والدليل على إعطاء ولي الأمر مثل هذه الصلاحيات في غير المنصوص على حكمه صراحة هو قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: هم الأمراء والحكام والعلماء، كما تبين سابقاً.
ولكن ليس كل مايتوهم من ضرر، أو يتخيل من مصلحة يكون مسوغاً لتقييد الملكية أو مصادرتها بالتعويض، وإنما ينبغي أن تكون المصلحة العامة محققة الحدوث، أو الضرر العام محقق الوقوع، أو غالب الوقوع، لا نادراً ولا محتملاً، ويكفي عند فقهاء المالكية والحنابلة أن يكون احتمال وقوع الضرر مسوغاً لمنع الفعل أخذاً بقاعدة:«دفع المضار والمفاسد مقدم على جلب المصالح» .
ويلاحظ أن
مبدأ تقدير الضرر مقيد بثلاثة أمور:
أولاً ـ أن كل ضرر يلحق الناس كافة هو ممنوع.
ثانياً ـ لا ينظر في الأضرار العامة إلى قصد الضرر أو عدم قصده وإنما ينظر إلى النتائج المترتبة في الواقع ..
ثالثاً ـ لا يعتبر الضرر الواقع بآحاد الناس إلا إذا قصد الشخص إضرار غيره بالفعل بأن يتعسف في استعمال حقه، أو يستعمله استعمالاً غير عادي.
ومن هنا يمكن أن يعتبر مسوغاً لتنظيم الملكية أو تقييدها: كون صاحبها مانعاً لحقوق الله فيها، أو اتخاذها طريقاً للتسلط والظلم والطغيان أو للتبذير والإسراف، أو لإشعال نار الفتن والاضطرابات الداخلية أو للاحتكار والتلاعب بأسعار الأشياء، ومحاولة تهريب الأموال إلى خارج البلاد، أو لتأمين متطلبات الدفاع عن البلاد، أو لدفع ضرر فقر مدقع ألم بفئة من الناس على أن يكون كل هذا إجراء استثنائياً بحسب الحاجة وبشرط عدم استئصال أصل رأس المال، مع دفع العوض. ولقد قرر دارسو الأوضاع الاقتصادية في البلاد العربية أن تركز أكثر الثروة القومية في أيدي فئة قليلة من الأغنياء ينشأ عنه ضرر عام جسيم بمصلحة البلاد، على عكس ما يتطلبه القرآن الكريم الذي يطالب بتداول الأموال في المجتمع في قوله تعالى:{كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/ 59] ومما لا شك فيه أن تأميم المرافق العامة التي تقدم خدمات للشعب كالمواصلات والكهرباء والماء يرفع الحرج عن الناس، ومثل ذلك تحديد ملكية الأراضي الزراعية برفع الحرج عن الناس، وأما تأميم المصانع والشركات المملوكة للأفراد، فيتطلب وجود مصلحة عامة فيه.
ومن أدلة منع الضرر: الحديث النبوي السابق ذكره: «لا ضرر ولا ضرار» (1) وحديث «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» (2) ومن الوقائع التاريخية
(1) أخرجه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
لتدخل الحاكم المسلم في ملكيات الأفراد في دائرة منع الضرر: «أنه كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار، وكان يدخل هووأهله فيؤذي صاحب الأرض، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول لصاحب النخل: بعه: فأبى: فقال الرسول صلى الله عليه وسلم فاقطعه، فأبى، قال: فهبه ولك مثله في الجنة فأبى، فالتفت رسول إليه، وقال: أنت مضار، ثم التفت إلى الأنصاري، وقال، اذهب فاقلع نخله» (1) ففي هذه الحادثة مايدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحترم الملكية المعتدية.
ومن الأمثلة أيضاً: (أن رجلاً اسمه الضحاك بن خليفة أراد أن يمر بماء له في أرض محمد بن مَسْلمة، فأبى، فاشتكى الضحاك إلى عمر فدعا محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيل جاره، فقال محمد: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ماينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً وهو لايضرك، فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك)(2) ففي هذه الواقعة مايدل على أنه لايكفي الامتناع عن الضرر، بل يجب على المسلم في ملكه أن يقوم بما ينفع غيره، مادام لاضرر عليه فيه ..
وعندما حمى عمر رضي الله عنه أرضاً بالرَّبَذَة قرب المدينة، قال:«المال مال الله والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر» فهذا يدل على أن تخصيص بعض الأراضي للمصلحة العامة أمر جائز، وأن نزع الملكية لضرورة المصلحة العامة للجماعة أو لدفع الحرج عن الناس لا مانع منه شرعاً ..
(1) رواه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين.
(2)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ.