الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام في نفوس المؤمنين، كلها عوامل أيضاً لإضغاف بواعث الإقدام على الجريمة، والصد عن اقتراف المعصية حتى يكاد ذلك كله يمنع الانحراف، وليس أدل على ذلك من أن نسبة الجرائم في البلاد الإسلامية أقل عدداً، وأخف خطراً، وأرقى نوعاً مما نسمعه ونشاهده من جرائم عديدة ومتنوعة في البلاد المتطورة أو المتقدمة المتمدنة حديثاً كما سبق بيانه.
الأمل في العفو:
هناك آمال معقودة في القضاء يقرها الشرع عند النظر في التهمة، بإصدار الحكم بالبراءة لعدم ثبوت أو كفاية الأدلة، أو العفو من الحاكم أو رئيس الدولة، أو بإسقاط المدعي حقه الشخصي، أو بحكم القاضي بوقف التنفيذ أو تأجيل تنفيذ الحكم الجزائي، أو بإعطاء القاضي سلطة تقديرية مرنة في اللجوء إلى أخف العقوبات، أو العفو عنها في نطاق التعزيرات «أي العقوبات المفوضة إلى رأي القضاة نوعاً ومقداراً» في غير دائرة الحدود أو بالتخيير بين حدين أدنى وأعلى، وهي دائرة واسعة تشمل أكثر الجرائم، وتكاد تكون عقوبات القوانين الجزائية كلها والمطبقة في البلاد العربيةوالإسلامية، تدخل تحت اسم التعزيرات، كما أن احتمالات العفو من صاحب الحق الشخصي كثيرة، لترغيب القرآن الكريم بالعفو والصفح، قال الله تعالى:{والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين} [آل عمران:134/ 3] وقال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237/ 2].
حكمة تنوع العقاب:
اقتضت الحكمة الإلهية كما تقدم أن يكون العقاب في الإسلام نوعين: العقاب الأخروي، والعقاب الدنيوي.
الأول: الذي هو أشد وأنكى وأدوم وأخطر مؤجل أو مرجأ لنهاية الحياة الإنسانية، كما عرفنا، لإعطاء الفرصة الكافية أمام البشر عبر مسيرة حياتهم
لتدارك ما قصروا فيه، وإصلاح ما أفسدوه، وتصحيح ما أخطؤوا فيه، والإقلاع عن كل مخالفة تغضب الله عز وجل. ولعل أخطر ما تجب ملاحظته أن أخطر الجرائم في الإسلام من شرك أو كفر أو نفاق، لا تعجل عقوبته في الدنيا، كما عرفنا، وإنما أرجأ الله الفصل في أمره إلى عالم الآخرة، جرياً على سنة الله تعالى في خلقه، قال الله تعالى:{وربُّك الغفور ذو الرَّحْمة، لو يؤاخذهم بما كَسَبوا، لعجَّل لهم العذابَ، بل لهم موعدٌ، لن يجدوا من دونه مَوْئلاً، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا، وجعلنا لِمَهْلِكِهم موعداً} [الكهف:58/ 18 - 59]. وهذا دليل واضح على أنه ليس العدل فوق الرحمة أو على العكس، وإنما العدل والرحمة قرينان، لكن الرحمة فوق القوة، ورحمة الله وسعت كل شيء، قال الله تعالى: {ورحمتي وسِعَتْ كلَّ شيء
…
} [الأعراف:156/ 7] وقال سبحانه: {ربَّنَا وَسِعَتْ كلَّ شيء رحمة ً وعلماً
…
} [غافر:7/ 40].
وبالرغم من ترك العقاب الدنيوي على الشرك ما لم يقترن بالعدوان أو الإشاعة والترويج بين الناس، فإن الله سبحانه إعذاراً وإنذاراً وإبعاداً للوم والعقاب، حذر تحذيراً شديداً من الشرك، وجعله قمة الجرائم ورأس الكفر وذروة الكفر وذروة الطغيان، وسمى القرآن أداة الشرك وهي الأصنام والشيطان طاغوتاً، فقال الله تعالى:{إن الله َ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ به ويِغْفِرُ ما دُون ذلك لمن يشاء ُ، ومن يُشْرِكْ بالله، فقد افترى إثماً عظيماً} [النساء:48/ 4] وقال سبحانه: {لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّن الرشدُ من الغيَّ، فمن يكفرْ بالطاغوت، ويؤمنْ بالله، فقد استمسك بالعُرْوةِ الوثقى، لا انفصامَ لها، والله ُ سميعٌ عليم} [البقرة:256/ 2] وقال عز وجل: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوتُ .. } [البقرة:257/ 2] وقال سبحانه {الذين آمنوا يُقاتِلون في سبيلِ الله، والذين كفَروا يقاتلون في سبيل الطاغوت .. } [النساء:76/ 4]: والطاغوت: كل ماعبد من دون الله.
والنفاق كالشرك جرم عظيم، لذا أنذر الحق سبحانه جماعة المنافقين بما ينتظرهم من أشد العذاب، فقال:{إن المنافقين في الدَرْك الأسفل من النار، ولن تجدَ لهم نصيراً} [النساء:145/ 4].
وكذلك العقاب على كثير من الرذائل الخلقية المشينة والموقعة في أشرار كثيرة مؤجل تنفيذه إلى الآخرة، مثل الحسد والحقد والنميمة والسعاية بالإفساد بين الناس أو إلى الحاكم ظلماً، والغيبة، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور التي لم يكشف أمرها ونحو ذلك، كما تقدم.
وأما العقاب الدنيوي: فليس مراداً به التنكيل والتشفي وإلحاق الضرر بالبنية الإنسانية، وإنما يستهدف الزجر والتهديد والإصلاح والتنفير من الجريمة، بل إن الله تعالى لم يوقع عقوبة دنيوية على المنافقين بالرغم من أخطارهم الشديدة على الدولة والمجتمع، وبخاصة وقت الأزمات والحروب. وما أحسن ما قاله الجصاص الرازي عند بيان عقوبة المنافقين الأخروية في الآية التي هي:{إن المنافقين في الدّرك الأسفل من النار} [النساء:145/ 4]:
ومع ما أخبر بذلك من عقابهم وما يستحقونه في الآخرة، خالف بين أحكامهم وأحكام سائر المظهرين للشرك، في رفع القتل عنهم، بإظهارهم الإيمان، وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث وغير ذلك، فثبت أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الإجرام، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها، وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه، فأوجب رجم الزاني المحصن، ولم يزل عنه الرجم بالتوبة، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام في ما عز بعد رجمه، وفي الغامدية بعد رجمها:«لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس ـ جمارك ظالمة ـ لغفر له» . والكفر أعظم من الزنا، ولو كفر رجل، ثم تاب قبلت توبته، وقال تعالى: {قل