الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الهدف العملي من العقوبة فواضح من خلال تطبيقها إذا التزمت ضوابط الشريعة وآدابها في التنفيذ والرقابة والرعاية والتوجيه، ومحاولات الإصلاح المتكررة في السجون بأساليب مختلفة تشمل الوعظ والإرشاد، والتشغيل وإيقاظ الضمير، والإحساس بمخاطر الجريمة، فإن كثيراً من السجناء ما عدا زمرة شاذة كان السجن مثلاً في الجرائم التعزيرية وسيلة لصلاحهم وعودتهم أسوياء ومواطنين صالحين، استقاموا على منهج الحياة الصحيحة.
وفضلاً عن ذلك فإن للسياسة الجنائية الإسلامية مجالاً آخر يتمثل في أسلوب المنع والوقاية من الجريمة قبل وقوعها، بواسطة نظام الحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في جميع مرافق الحياة، وبخاصة في الأسواق العامة، كما أن اتباع أساليب الدين وأحكامه الشرعية والاهتداء بهديها في العبادات والمعاملات والأخلاق، ووعظ الناس بتعاليم دينهم، وإرشادهم إلى الطريق السوي، والاعتماد على عناصر الترغيب والترهيب بآي القرآن الكريم والأحاديث النبوية، كل ذلك سيؤدي حتماً إلى صلاح المجتمع والأفراد، ويقلل من عدد الجرائم المرتكبة، لما له من أثر ملحوظ في التربية والثقافة والتهذيب الأخلاقي والاجتماعي، وتقويم الانحراف، والدفع الإيجابي إلى حياة أفضل وأقوم.
ثالثاً - أنواع الأحكام الشرعية ودورها الوقائي والعلاجي:
يلاحظ أن الأحكام الشرعية نوعان: أحكام أصلية وأحكام مؤيدة أو زجرية، أما
الأحكام الأصلية الأساسية
فهي التي تكوّن نظام الشريعة الأصلي في دائرة الإيجاب والمنع، والقصد من المنع وقاية الإنسان من المحظورات التي يترتب على اقترافها ضرر واضح في الدين أو النفس أو المال أو العقل أو العرض، فكان تحريم الحرام لاتقاء الإضرار والأذى، وليس لأغلب المحرّمات عقاب دنيوي، وإنما
العقاب عليها أخروي، فالشرك، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف من السبع الموبقات أو الكبائر لا عقاب عليها في الدنيا، إلا إذا رأى الحاكم مصلحة في ذلك بسبب الإخلال بالنظام الاجتماعي، وكذلك في مجال العبادات قد يرتكب الإنسان فيها الحرام، كالصلاة من غير طهارة، والصيام مع الغيبة والنميمة، والحج مع الرفث والفسوق (الكلام الفاحش) والزكاة باختيار رديء المال، ولاعقوبه عليه.
وفي المعاملات: قد يقع الإنسان في غش أو غبن أو استغلال أو ظلم، وقد يحتكر أو يغصب، أو يغرر بآخر، أو يبيع على بيع أخيه ولا يعاقب في الدنيا، وفي العلاقات الدولية قد ينقض الحاكم المعاهدة من غير مسوغ شرعي، ولا يعاقب على فعله، وفي المواريث والحقوق العامة قد يجور أحد الورثة فيأخذ شيئاً من التركة، وقد يأخذ المجاهد شيئاً من الغنيمة من غير حق، ولايعجل له عقاب في الدنيا، وفي الأحوال الشخصية قد يلحق الرجل ضرراً بالمرأة، وقد يعضلها (يمنعها) عن الزواج من كفء وقد يخطب على الخطبة ولا يعاقب، وفي دائرة الأخلاق الاجتماعية قد يقع الإنسان في الغيبة والنميمة وقد يسعى ببريء ظلماً إلى حاكم، ولا عقاب على ذلك في الدنيا ما لم ينكشف أمره.
وعدم العقاب الدنيوي لا يعني الإباحة أو الحل، فإن العقاب الأخروي أشد وأنكى، وأخطر وأدوم، فيكون تحريم الحرام أمراً وقائياً لتجنب الوقوع في المخاطر والمضار والمفاسد والشرور والمنازعات، والتأمل في ذلك يدفع المرء إلى التزام جادة الاستقامة، والبعد عن كل ما حرمه الشرع، لئلا يؤدي اقترافه الحرام إلى جريمة، وهذا من خصائص الشريعة والدين السماوي الذي يميزه عن أي نظام قانوني وضعي لا يهتم بالممنوع إلا إذا أدى إلى المساس بالعلاقات الاجتماعية.
وقد يشمل المنع دائرة المشتبهات خشية التورط في الحرام والممنوع، فيكون اجتناب المشتبه فيه أولى وأسلم، لئلا يقع الإنسان في جريمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه .. » (1).
فهذه الأحكام الحاظرة أو المانعة أحكام وقائية ذات أثر تربوي واضح، تعمل على منع الجريمة واقترافها.
ومن أهم الأحكام الوقائية كما تقدم نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يطلب من كل مسلم في صريح كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ويتكرر التذكير به أيام الجمعة والأعياد، قال الله عز وجل:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2). وفي حديث آخر أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: «من غشنا فليس منا» .
وقام على أساس هذه الأوامر نظام الحسبة الذي يقي الأفراد والمجتمع من غائلة الجريمة. والحسبة كما تقدم: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن منكر إذا
(1) رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ظهر فعله (1). أو هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قال ابن خلدون (2).
والحسبة وإن كانت واجباً عاماً على كل مسلم، إلا أنها إذا أصبحت نظاماً أو وظيفة صارت فرض عين على المحتسب بحكم ولايته أو وظيفته المأجورة. ويتولى المحتسب وظائف لها صلة بالقضاء والمظالم والشرطة، فهو ينظر في المنازعات الظاهرة التي تحتاج إلى أدلة إثباتية، كدعاوى الغش، والتدليس والتطفيف، فهو بهذا كالقاضي، ويؤدب مرتكبي المعاصي التي ترتكب جهراً، أو تخل بآداب الإسلام، فهو بهذا كناظر المظالم يرعى النظام العام والآداب والأمن في الشوارع والأسواق مما لا تجوز مخالفته، فيكون بذلك كالشرطة أوالنيابة العامة (3).
ويشمل قيامه بواجبه في نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يتعلق بالجماعة أو الأفراد كترك الواجبات الدينية العامة، الشعائر وغيرها، وتعطل مرافق البلد العامة من مساجد وشوارع، ومماطلة في أداء الحقوق والديون، وكفالة الصغار والمطالبة بترويج الفتيان والفتيات. وفي المحظورات يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (4) مثل اختلاط النساء بالرجال في المساجد والأماكن العامة، والمجاهرة بإظهار المسكرات والملاهي المحرمة. ويمنع المعاملات المنكرة كالربا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه كالغش والتدليس وبخس الكيل والميزان.
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 231.
(2)
مقدمة ابن خلدون: ص 576.
(3)
المرجعان السابقان.
(4)
رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما.