الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاسعاً - شرعية الجريمة والعقوبة، أو مبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)
، وتأثير ذلك على ظاهرة الإجرام:
إن التصور السابق للجريمة المنصوص على تجريمها في قوانين الدولة العقابية، ومعرفة نوع العقوبة المقررة قانوناً في تقنين منشور متداول، يعد حاجزاً قوياً ما نعاً من الإجرام والتفكير بالجريمة والتخطيط لها.
لذا ظلت النظم الديمقراطية تحترم مبدأ قانونية أو شرعية الجرائم والعقوبات، بمعنى تركيز سلطة التجريم في يد الشارع أو من يفوضه في ذلك ضمن حدود معلومة، وقد أعلنت هذا المبدأ الثورة الفرنسية ونصت عليه وثيقة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام (1789م) في المادة الثامنة، استجابة لصيحات الفلاسفة والمفكرين الذين حملوا على ما كان عليه القضاة من سلطة تحكمية أدت إلى إسراف في العقاب وعسف بحريات الأفراد، ونص عليه في المادة الرابعة من قانون العقوبات الذي أصدره نابليون سنة (1810م)، ثم انتقل إلى الشرائع الأخرى، وصاغه العرف القانوني بعبارة موجزة هي «لا جريمة ولا عقوبة بغير نص» . والحكمة منه كفالة حقوق الأفراد وحريتهم في أفعالهم وتصرفاتهم، إذ لو ترك أمر التجريم للقاضي، لأضحى الأفراد في حيرة من أمرهم، ثم إن العدالة والمنطق يقضيان به حتى لا تواجه الدولة الأفراد بعقاب لا علم لهم به.
وبما أن هذا المبدأ يؤدي إلى جمود التشريع الجنائي وتخلفه عن مسايرة التطورات الحديثة، فقد اتجه الفقه والقضاء عامة إلى ضرورة التخفيف من حدته، وتوسيع سلطة القاضي في تقرير العقوبة أو إيقاف تنفيذها أحياناً، ولكن دون إخلال بأصل المبدأ، وهو حرمان القاضي من سلطة التجريم.
وفي هذا المجال أيضاً نجد بعض رجال القانون الوضعي يتهمون الشريعة
الإسلامية جهلاً وغلطاً وظلماً وتعصباً ضدها بأنها تترك أمر التجريم للقاضي. ومنشأ الاتهام راجع في تقديرنا إلى ناحية تنظيمية: هي عدم وجود تقنين خاص بالجرائم والعقوبات عند الفقهاء الشرعيين المعاصرين، مع أن الأمر سهل جداً، إذ لا مانع شرعاً من وجود مثل هذا التقنين، ومن اليسير على فقهاء الشريعة إيجاده وصياغته في أشهر معدودة، إذا أظهرت السلطة الحاكمة استعدادها لتطبيق وإنفاذ العمل به، وقد وجد فعلاً بعض هذه التشريعات في ليبيا والسودان والإمارات. ولكن لا يعني عدم التقنين أن القاضي حر التصرف بالعقاب حرية مطلقة، وإنما الأمر في شأن التعازير (العقوبات غير المنصوص صراحة على نوعها ومقدارها) راجع شرعاً وفقهاً لتقدير ولي الأمر الحاكم أي الدولة، فالدولة تضع للقضاة من الأنظمة والقوانين الجزائية ما يناسب العصر، وعلى وفق ما تراه اللجان المتخصصة المكونة عادة من العلماء والفقهاء، بحسب متطلبات المصلحة العامة، ومقتضيات الزمان وتطور الأحداث.
لذا كان ينبغي أن يعرف هؤلاء القانونيون أن مبدأ التفويض لولي الأمر في تقدير العقوبات التعزيرية في الإسلام، هو في الأصل مبدأ دستوري تمارسه الدولة مقيدة بأحكام الشريعة، كما هو الشأن في أن كل دولة لها الحق في وضع القوانين الداخلية التي تريدها.
وعليهم أن يعرفوا أن الإسلام يفترض في كل مسلم ومسلمة تعلم أحكام شريعته، ومعرفة الفرائض والحلال والحرام، والمعاصي والعقوبات أو الجزاءات المقررة في الإسلام؛ لأن من الفرائض الشرعية العينية المطلوبة من كل المسلمين تعلم الحد الأدنى المفروض العلم به من الشريعة، فلا يصلح الاحتجاج بتقصير المسلمين في التعلم سبباً للقول بأن الأفراد لا يعلمون ما هو ممنوع ولا أنواع العقوبات، حتى توجد التقنينات.
ثم إن كتب الشريعة، سواء القرآن والسنة ومصنفات الفقهاء المطولة والموجزة، فيها البيان الواضح المفصل لكل المعاصي والمخالفات، والكبائر والصغائر، والتحذير من مخاطرها وبيان مدى ضررها، والتصريح بالعقوبات الدنيوية والأخروية المقررة لها.
والقاضي لا يملك في الشريعة سلطة التجريم وتحديد أصل العقاب بحسب رغبته وهواه، كما يفهم خطأ، وإنما هو مقيد في ذلك بأحكام الشريعة، وبما تضعه له الدولة من نظام، إذ ليس لأي مسلم سلطة التشريع، وإنما السلطان في الأحكام إنشاء ووضعاً للشريعة والمشرع وهو الله تعالى، كل ما في الأمر هو أن للقاضي سلطات تقديرية في التطبيق فقط، حسبما يرى ملائماً لظروف الجريمة والجاني ولكن في غير دائرة الحدود والقصاص المنصوص على أحكامها صراحة، وإنما في مجال التعزيرات التي يمكن إدخال أغلب نصوص القوانين الجزائية الحديثة في مضمونها.
ويوضح ذلك أن الشريعة ـ كما هو معروف ـ جاءت حرباً على الأهواء الشخصية والنزعات والميول الفردية، كما دل على ذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى:{ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء:36/ 17] وقوله سبحانه: {إن يتّبعون إلا الظن، وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم:23/ 53] وقوله عز وجل: {وما لهم به من علم، إن يتَّبعون إلا الظن، وإن الظنَّ لا يُغْني من الحق شيئاً، فأعرضْ عمن تولَّى عن ذِكْرنا، ولم يرِدْ إلا الحياة الدنيا} [النجم:28/ 35 - 29] وقوله جل جلاله: {ولو اتّبعَ الحقُّ أهواءهم، لفسدت السموات والأرضُ ومن فيهن، بل أتيناهم بِذِكْرهم، فهم عن ذِكْرهم مُعْرضون} [المؤمنون:23/ 71].
لذا وضعت الشريعة نظاماً تشريعياً متكاملاً ودقيقاً للحياة، وسبق الفقهاء المسلمون إلى معرفة قاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» كما يتضح من القاعدتين الأصوليتين التاليتين:
1 -
«لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص» .
2 -
«الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال: الإباحة» .
ومصدر هاتين القاعدتين قول الله تبارك وتعالى: {وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15/ 17] وقوله سبحانه: {وما كان ربُّك مُهْلِكَ القرى حتى يبعثَ في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا} [القصص:59/ 28] وأمها: أصلها وعاصمتها ومركزها، وقوله جل وعز:{رسلاً مبشرِّين ومنذِرِين، لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسُلِ} [النساء:165/ 4].
هذه النصوص الشريفة قاطعة بأن لا جريمة إلا بعد بيان، ولا عقوبة إلا بعد إنذار.
وترتب على هذا المبدأ أن فترة الجاهلية عند جمهور المسلمين لا عقاب على الجرائم التي حدثت أثناءها، سواء أكانت إراقة دم حرام أم غيرها من الربا والزنا والنهب والغصب والمنكرات.
ويمكن القول إجمالاً: إن الشريعة والقانون الوضعي الجنائي يلتقيان في أنه إذا لم يكن هناك نص مانع من شيء، فهو مباح، بيد أن المنصوص عليه قانوناً صريح محصور في دائرة التقنين الموضوع، أما المنصوص عليه شرعاً فهو غير مقنن في مجموعة قانونية محدودة وموحدة بين المذاهب، وليس ذلك بعسير علينا عند الطلب، فقد يكون التحريم أو التجريم والعقاب مأخوذاً من نص القرآن الكريم أو
السنة النبوية، أو من إجماع الأمة، أو من اجتهاد المجتهدين في ضوء النصوص، وروح التشريع الإسلامي. والنص الحاظر شرعاً أو المانع من فعل قد يكون صريحاً، كما هو الشأن في الحدود (العقوبات المقدرة نوعاً ومقداراً) وقد يفهم دلالة وضمناً من طريق اجتهاد علماء الإسلام الثقات. ودور العلماء في الحقيقة مجرد كاشف ومظهر لحكم الله في الحادثة، ومبيّن للقيود والشروط والأوصاف. أما أصل الحكم حظراً وعقاباً، فمرده إلى الحكم الإلهي، إذ لا بد لصحة الاجتهاد من مستند شرعي يعتمد عليه في الاستنباط.
ثم إن المحذور الذي يخشى منه القانونيون من مخالفة قاعدة: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» وهو أن يلجأ القاضي فيما لا نص بتجريمه إلى الأخذ بالقياس، هذا المحذور قد فرغ من بحثه علماء الأصول من الحنفية ومن وافقهم الذين قرروا بصراحة عدم جواز القياس في الحدود والمقدرات الشرعية، سواء بالنسبة للمجتهد الفقيه أم للقاضي، وقرروا عدم جواز القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات؛ لأن القياس إنما يفيد الظن، والظن سبيل الخطأ، فكان في سلوكه شبهة، فلا يثبت من طريقه عقاب أو تجريم لحادثة لا نص فيها؛ لأن «الحدود تدرأ بالشبهات» وفي هذا التقعيد الأصولي ضمانة كافية أكيدة لحقوق وحريات الأفراد في تصرفاتهم وأفعالهم.
والقائلون بالقياس في الحدود كالمالكية والشافعية لا ينشئون حكماً جديداً بناء على تحريم حادثة، وإنما يطبقون النص المذكور في حادثة على حادثة مشابهة تماماً، مساوية للواقعة المنصوص عليها، فيكون عملهم من قبيل تطبيق النص على الوقائع، إذ ليست الوقائع كلها منصوصاً عليها حتى في القوانين النافذة الآن،
ويكون القياس المنفي قانوناً في التجريم والعقاب معمولاً به شرعاً باتفاق الفقهاء، إذ ليس للمجتهد سلطة التشريع، أو إنشاء ووضع أحكام جديدة بالمنع والعقاب فيما لم يأذن به الشرع.
وتوضيحاً لذلك يحسن بيان مضمون التشريع الإسلامي في مجال العقوبات:
إن الجرائم والعقوبات محددة بذاتها ونوعها، معروفة تماماً في الإسلام، وهي كل ما نهى عنه القرآن الكريم أو السنة النبوية أو أبانه الفقهاء، والعقوبات الإسلامية منها كما تقدم ما هو مستوجب للإثم والعقاب الأخروي فقط، ومنها ما يجتمع فيه الوصفان: العقاب في الدنيا، والعقاب في الآخرة. والعقوبات الدنيوية تكون على فعل محرّم أو ترك واجب، وهي كما عرفنا نوعان: عقوبة مقدّرة، وعقوبة غير مقدّرة الكمّ شرعاً، والمقدّرة تختلف مقاديرها وأجناسها وصفاتها باختلاف أحوال الجرائم وكبرها وصغرها، وبحسب حال العاصي أو المذنب أو المجرم نفسه، كما أبان ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
والعقوبات المقدرة نوعاً ومقداراً وهي الحدود الشرعية الخمسة أو السبعة كما تبين سابقاً لدى الفقهاء قد نص عليها القرآن الكريم أو السنة النبوية صراحة، ثم أجمع عليها الصحابة الكرام والفقهاء من بعدهم. والسبب في نص الشرع عليها: هو حرصه على إقامة ركائز وحصون أساسية في حياة المجتمع، تعد بمثابة القواعد الصلبة، لتوفير الأمن والاستقرار والطمأنينة في الأنفس والأموال والأعراض والعقول وإقرار دين التوحيد الحق، ومنع الرذيلة، ودرء المفسدة، واستئصال نزعة الشر، وبتْر أسباب المنازعات والأمراض والفوضى الأخلاقية عن الناس في أخطر ما يمس جوهر حياتهم الاجتماعية التي لا بد لها من وجود نظام ثابت صحيح، غيرمِعْوَج.
وليس للقاضي بداهة مخالفة النصوص في تجريم وعقاب هذه الجرائم التي قدر لها الشرع نوعاً ومقداراً معيناً من العقوبات، ولم يجز الشرع في العقوبات المقدرة عدا القصاص العفو عنها، ولا الشفاعة فيها، ولا الصلح والتنازل عنها، ولا إسقاطها والإبراء عنها، ولا المعاوضة عنها، بعد رفع الأمر فيها إلى القاضي، صوناً لحق الجماعة العام فيها وفي تطبيقها. ولا يملك القاضي التدخل في شأن هذه العقوبات إلا بإصدار الحكم فيها بعد ثبوت الجريمة، بطرق الإثبات الشرعية المقبولة، لأنها تمس النظام العام للمجتمع: وهو المحافظة على مقاصد الشريعة أو أصولها الكلية الخمسة، وهي الدين والنفس والعرض أو النسب والعقل والمال.
وأما العقوبات غير المقدرة نوعاً ومقداراً وهي التعزيرات، فهي أيضاً معروفة لدى كل مسلم، ويجب عليه تعلم أحكام شرعه، والتعزير: هو العقوبة المشروعة على معصية أو جناية (جريمة) لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت الجريمة على حق الله تعالى، أي حق المجتمع، كالأكل في نهار رمضان عمداً، والإخلال بأمن الدولة، والتجسس، وترك الصلاة، وطرح النجاسة ونحوها في طريق الناس، أو على حق الأفراد، كمباشرة المرأة الأجنبية (غير القريبة قرابة رحم محرم) فيما دون الجماع، والتقبيل واللمس، والنظر والخلوة المحرمة ونحوها، وسرقة الشيء القليل الذي هو دون النصاب الشرعي الموجب للحد (دينار أو ربع دينار على الخلاف بين الفقهاء) والسرقة من غير حرز حافظ للمال، والقذف بغير لفظ الزنا ونحوه من أنواع السب، والضرب والإيذاء بأي وجه، كالقول: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، يا فاجر، يا زنديق، يا آكل الربا، يا شارب الخمر أو يا حمار، أو بغل أو ثور، في رأي الأكثرين، وخيانة الأمانة من الحكام وولاة الوقف ونظّار الأوقاف، وتبديد أموال الأيتام، وإهمال الوكلاء والشركاء، والغش في المعاملة، وتطفيف المكيال والميزان (النقص من البائع والزيادة من المشتري) وشهادة الزور التي كشف
أمرها، والرشوة، والحكم بغير ما أنزل الله تهاوناً، والاعتداء على الرعية، والدعاء بدعوة الجاهلية وعصبيتها ونحو ذلك (1).
ويمكن وضع ضابط عام للتعزير بمثابة تقنين أو تعريف عام: وهو كل ما فيه اعتداء على النفس أو المال أو العرض أو العقل أو الدين مما لا حدّ فيه، وذلك يشمل كل الجرائم التي هي ترك واجب ديني أو دنيوي، أو فعل محرم محظور شرعاً للمصلحة العامة أو الخاصة بالشخص.
وذكر فقهاء الحنفية ضابطاً مختصراً لجرائم التعزير وهو: يعزر كل مرتكب منكر ـ خطيئة لا حد فيها ـ أو معصية ليس فيها حد مقدر أو مؤذي مسلم أو غير مسلم بغير حق، بقول أو فعل أو إشارة بالعين أو باليد (2). أو بعبارة أخرى: إن ضابط موجب التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة، سواء أكان المعتدى عليه مسلماً أم كافراً (3).
وهذا الضابط، وإن كان فيه عموم وإجمال، خلافاً لما تتطلبه قوانين العصر من النص صراحة على كل جريمة بعينها وعقوبتها، إلا أنه بمثابة القاعدة الفقهية الكلية المفيدة في التفقيه ووضع الإطار العام للجرائم غير الحدية، ويمكن بسهولة إفراد كل جريمة بالبيان، لأن مرجع القاضي في التجريم ـ كما تقدم ـ إنما هو الشرع، وليس هو العقل والهوى الشخصي، الذي ليس له أثر في شرع الله بإنشاء الأحكام، وما على القاضي إلا أن يتقيد في كل تجريم بأوامر الشرع ونواهيه في القرآن والسنة، ويهتدى بما أجلاه الفقهاء تماماً في هذا الشأن، فما قبّحه الشرع أو منعه فهو قبيح ممنوع، وما حسّنه الشرع أو طلبه، فهو حسن مطلوب أو مباح، كما
(1) البحر الرائق: 240/ 8، تكملة المجموع: 361/ 18.
(2)
رد المحتار على الدر المختار: 195/ 3 وما بعدها.
(3)
البدائع: 63/ 7.
يقول الأصوليون غير المعتزلة. وحكم الشرع دائماً مقيد بالمصلحة العامة، ودفع الضرر العام. فإن لم تكن هناك مصلحة عامة أو ضرر عام، روعيت المصلحة الشخصية، دون إضرار بالآخرين. ويقسم ابن تيمية رحمه الله الجرائم التعزيرية، من ناحية أصل التكليف إلى قسمين:
الأول: ما تكون العقوبة فيه على إتيان فعل نهى الله عنه كالغش، والتزوير، وشهادة الزور (أي التي ظهر أمرها للقاضي) وخيانة الأمانة، والتدليس
…
الخ.
الثاني: ما تكون العقوبة فيه على ترك واجب أو على الامتناع من أداء حق، وتكون هذه العقوبة بقصد حمل الشخص على أداء الواجب أو الحق، كعقوبة تارك الزكاة، فهي للحمل على الأداء وليست على ترك الزكاة، فإن أداها التارك فلا عقاب. وكذلك الحال بالنسبة لحبس المرتد، فإن تاب فلا عقاب، وحبس المدين المماطل، فإن وفى الدين فلا عقاب (1).
والعقوبات التعزيرية: هي التوبيخ أو الزجر بالكلام، والحبس، والنفي عن الوطن، والضرب. وقد يكون التعزير بالقتل سياسة في رأي الحنفية وبعض المالكية، وبعض الشافعية إذا كانت الجريمة خطيرة تمس أمن الدولة أو النظام العام في الإسلام، مثل قتل المفرّق جماعة المسلمين، أو الداعي إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو التجسس، أو انتهاك عرض امرأة بالإكراه، إذا لم يكن هناك وسيلة أخرى لقمعه وزجره (2).
(1) الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي للأستاذ المرحوم محمد أبو زهرة: 122/ 1.
(2)
الفروق للقرافي: 79/ 4، الاعتصام للشاطبي: 120/ 2، الطرق الحكيمة لابن القيم: ص 101 وما بعدها، أحكام القرآن للجصاص: 412/ 2، تبيين الحقائق: 207/ 2، المغني: 328/ 9، رد المحتار: 196/ 3، الشرح الكبير للدردير: 355/ 4، المهذب: 242/ 2، غاية المنتهى: 334/ 3، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 114، الحسبة لابن تيمية: ص48.
يدل هذا على أن العقوبات التعزيرية معروفة أيضاً في الشريعة، وقد أوضحها الفقهاء في كتبهم، لكنهم قد يذكرونها إجمالاً، ويتركون اختيار إحداها للقاضي يفعل ما يراه محققاً للمصلحة من العقاب، وفي هذا مرونة ومنح للقاضي شيئاً من الحرية، وإعطاؤه سلطة تقديرية، وقد يحدد الفقهاء العقوبة الخاصة بكل جريمة على حدة، فتكون الكتب الفقهية بمثابة التقنينات، وإن كان ينقصها الجمع والتنظيم والإيجاز وحسن التبويب والتفصيل، لتعرف عقوبة كل جريمة بعينها. وليس للقاضي أصلاً الحكم بعقوبة غير مألوفة شرعاً، أما إن لم يكن في الكتب أحياناً تقدير محدد لعقوبة كل جريمة بذاتها، فحينئذ يتمكن القاضي من اختيار نوع العقوبة الملائم قدرها للجريمة، ومراعاة ظروف الجاني وأحواله تغليظاً أو تخفيفاً، لأن المقصود من التعزير: هو الزجر، والناس يتفاوتون بتفاوت مراتبهم فيما يحقق الهدف المقصود من العقاب، ولأنه قد تحدث جرائم لم يألفها الناس، حسبما تقتضي طبيعة التطورات الاجتماعية والاقتصادية، وقد يتفنن المجرمون في ابتكار ألوان مختلفة لجريمة واحدة، كما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله:«سيحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» (1).
وإذا حكم القاضي بالضرب، فليس لأقله حد معين، فهو سوط فأكثر، ويفعل ما يراه محققاً للمصلحة والزجر. وأما أقصى الضرب فهو مقيد بألا يتجاوز مقداراً معيناً، وهو ما دون أقل الحدود الشرعية، للحديث المتقدم:«من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين» .
لكن اختلف الفقهاء في أكثر الضرب، فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود الشرعية، وهو أربعون جلدة، وإنما ينقص
(1) انظر كتاب الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله للكاتب صاحب البحث.
منه سوط واحد، فلا يتجاوز الحكم تسعة وثلاثين سوطاً، باعتبار أن أقل الحدود للعبيد أربعون جلدة. وقال أبو يوسف: لا يبلغ بالحد ثمانين جلدة، وينقص منه خمسة أسواط، فلا يتجاوز خمسة وسبعين سوطاً، باعتبار أن أقل حد الأحرار ثمانون جلدة (1).
وقال المالكية: يجوز التعزير بمثل الحدود فأقل وأكثر بحسب الاجتهاد (2).
وتقدير مدد الحبس أو السجن متروك للقاضي. وعلى كل حال يمكن إصدار نظام أو قانون عام يحدد الحدود الدنيا والقصوى لكل عقوبة، ويبين مدى سلطة القاضي، فهذا متروك لاجتهاد ولاة الأمور، ولا حظر فيه شرعاً، أو عقلا، وإنما هو مستحسن بحسب الأعراف المعاصرة، ويمكننا بسهولة وضع تقنين شرعي يتناسب مع ظروف العصر، وقد حدث هذا فعلاً في القوانين الجنائية المستمدة من الشريعة الإسلامية كما تقدم.
ومن صفات التعزير عند الحنفية والشافعية: أنه ليس واجباً على القاضي الحكم به، وإنما يجوز له العفو عنه وتركه، إذ الم يتعلق به حق شخصي لإنسان معين (3)، لما روي أن النبي قال:«أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» (4). وهذا يدل على أنه يراعى في التعزير مصلحة المتهم، ويسلك معه مسلك التخفيف.
(1) البدائع: 64/ 7، فتح القدير: 214/ 4، تبيين الحقائق: 209/ 3، نهاية المحتاج: 175/ 7، المهذب: 288/ 2، المغني: 324/ 8، غاية المنتهى: 333/ 3 - 335، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 112، الطرق الحكمية: ص 265.
(2)
الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 355/ 4.
(3)
البدائع: 64/ 7، حاشية ابن عابدين: 204/ 3، مغني المحتاج: 193/ 4، قواعد الأحكام للعز: 158/ 1، المهذب: 288/ 2.
(4)
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي عن عائشة، وصححه ابن حبان.