الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد رأى الشافعية أن الحدود إذا أقيمت في الدنيا، لم تقم في الآخرة لحديث:«الله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة» (1)، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«الحدود كفارات لأهلها» (2).
ويسقط حد تارك الصلاة وحد الردة بالتوبة الصادقة النصوح.
هل تقبل شهادة المحدود بالقذف إذا تاب
؟ اختلف الحنفية والجمهور فيه، فقال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في القذف أبداً، وإن تاب وأصلح، ومن هنا كانت التوبة عندهم بالنسبة إليه عملاً قلبياً بين العبد وربه، ليس من الضروري اطلاعنا عليه؛ لأنه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة.
وقال الجمهور: إذا تاب المحدود في القذف قبلت شهادته، وتوبة القاذف: إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول: كذبت فيما أقول، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: لا
(1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصاب حداً فعجل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة. ومن أصاب حداً فستره الله عليه وعفا عنه فال أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» (راجع جامع الأصول: 349/ 4، الجامع الصغير: 164/ 2).
(2)
الأحاديث في هذا المعنى كثيرة منها: ما رواه الطبراني وأحمد بنحوه عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما عبد أصاب شيئاً مما نهى عنه، ثم أقيم عليه حده، كفر عنه ذلك الذنب» وفي رواية: «من أصاب ذنباً وأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته» وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات. وروي بمعناه عن ابن عمر مرفوعاً عند الطبراني، وفيه متروك، وقد جاء في القسطلاني شرح البخاري: 380/ 7: إن الحدود كفارات. وترجم الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم بعنوان: «باب: الحدود كفارات لأهلها» : 224/ 12، وذلك عند شرح حديث عبادة بن الصامت الآتي ذكره في المبحث التالي (راجع مجمع الزوائد: 265/ 6).
يقول: كذبت؛ لأنه ربما يكون صادقاً، فيكون قوله:«كذبت» كذباً، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما قلت ورجعت عنه، ولا أعود إليه.
والسبب في أن الشافعي شرط في توبة القاذف التلفظ باللسان، مع أن التوبة من عمل القلب: أنه رتب عليها حكماً شرعياً: وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب، فلا بد من أن يعلم الحاكم بتوبته حتى يقبل شهادته.
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور: خلافهم في رجوع الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا} [النور:4/ 24 - 5] هل يرجع إلى جميع الجُمَل التي سبقت، فيرتفع رد الشهادة، كما ارتفع الفسق، أو يرجع إلى الجملة الأخيرة وهي الفسق. والخلاف راجع إلى مسألة أصولية مشهورة وهي: هل الاستثناء عقب الجمل المتعاطفة يعود للجميع أو يعود للجملة الأخيرة؟
قال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في القذف أبداً، لاختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأنها جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سبباً لهذه العقوبة.
ونوقش قولهم بأن العلة في هذه العقوبة هو فسقهم، والفسق علة في رد الشهادة، فإذا ارتفع الفسق بالتوبة، فيلزم منه ارتفاع رد الشهادة الذي هو معلوله؛ لأن الحكم يزول بزوال علته.
وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: تقبل شهادة المحدود في القذف بالتوبة؛ لأن الاستثناء يرجع إلى الجمل الثلاث المتعاطفة بالواو، فيرتفع رد