الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منه شيئاً» أو إن النهي عن كراء الأرض محمول على ما إذا كانت الأجرة مجهولة أو مضمونة من إنتاج مكان معين من الأرض، مثل اشتراط صاحب الأرض ناحية منها، أو اشتراط ماينبت على حفة النهر لصاحب الأرض، لما فيه من الغرر والجهالة. فدل ذلك على أن الأحاديث التي تمنع من كراء الأرض محمولة على الندب والاستحباب، والأفضل بذلها مجاناً للفلاحين والعمال، بدليل إجماع الصحابة على أن الإجارة جائزة، ولاتجب الإعارة بالإجماع.
المبحث الخامس - الأجر في الإسلام:
الإجارة نوعان:
إجارة على المنافع
بأن يكون المعقود عليه هو المنفعة، و
إجارة على الأعمال
بأن يكون المعقود عليه هو العمل. ومثال النوع الأول: إجارة العقارات والدور والمنازل والحوانيت والضياع، والدواب للركوب والحمل، والثياب والحلي للبس، والأواني والظروف للاستعمال، ونحو ذلك بشرط أن تكون المنافع مباحة، فإن كانت محرمة كالميتة والدم وأجر النوائح وأجر المغنيات فلا تصح الإجارة عليها. ومثال النوع الثاني: وهي التي تعقد على عمل معلوم: الاستئجار من أجل البناء والخياطة والحمل إلى موضع معين وصباغة ثوب وإصلاح حذاء، ونحو ذلك من كل مايباح الاستئجار عليه، روي عن رافع بن رفاعة، قال:«نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الأمة إلا ماعملت بيديها، وقال: هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل والنفش» (1) أي عجن العجين وخبزه، وغزل الصوف والقطن والكتان والشعر، أو نفشه وندفه، وفي رواية (النقش) وهو التطريز.
والإجارة بنوعيها مشروعة مباحة بالقرآن والسنة والإجماع، قال الله تعالى:
(1) أخرجه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار 282/ 5 ومابعدها).
{فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65]، {يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص:26/ 28] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (1)، «من استأجر أجيراً فليسمّ له أجرته» (2). وأجمعت الأمة في زمن الصحابة على جواز الإجارة، لحاجة الناس إلى المنافع مثل حاجتهم إلى أعيان الأشياء.
لكن أحاط الشرع حق الأجير بضمانات متعددة: وهي الرضا، والعدالة أو الكفاءة، والعرف. فينبغي أن يكون الأجر عادلاً متمشياً مع العرف السائد ومراعى فيه نوع الخبرة، ومعتمداً في التقدير على الحرية والرضا والطواعية، فلا يجوز الإكراه على العمل، ولا إلحاق الظلم بالأجير، ولا منعه حقه أو المماطلة في أدائه، أو استيفاء منفعة منه بغير عوض، إذ إن من استخدم عاملاً بغير أجرة فكأنه استعبده، كما قال فقهاء الإسلام أخذاً من حديث نبوي اعتبر آكل جهد العامل بمثابة من باع حراً وأكل ثمنه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره» (3) قال ابن التين: هو سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح. وأكد النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى على ضرورة إيفاء حق العامل، كما ذكرت، وكما في قوله:«ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» (4).
(1) أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر، وأبو يعلى عن أبي هريرة، والطبراني في الأوسط عن جابر، والحكيم الترمذي عن أنس، وهو ضعيف.
(2)
أخرجه البيهقي وعبد الرزاق وإسحاق في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع بهذا اللفظ عند بعضهم. وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره» (نيل الأوطار: 292/ 5، 293).
(3)
أخرجه أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، (نيل الأوطار: 295/ 5).
(4)
أخرجه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه (نيل الأوطار: 295/ 5).
وحرصاً من الشريعة على حقوق العامل والعمال، ومن أخصها الأجور اشترطت شروط معينة عند الاتفاق على عقد الاستئجار، منها: أن تكون الأجرة مالاً متقوماً معلوماً قدره للعامل جنساً وقدراً وصفة كالثمن في البيع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم:«من استأجر أجيراً فليسمّ له أجرته» والعلم بالأجرة لا يحصل إلا بالإشارة والتعيين، أو بالبيان الصريح. ويشترط أيضاً أن تكون المنفعة المؤجرعليها معلومة القدر، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب وعمل الباب ونحوهما من إجارة الأعمال، وإما بتحديد الأجل إذا لم تكن هناك غاية معروفة، مثل خدمة الأجير مياومة أو مشاهرة أو سنوياً، وذلك إما بالزمان إن كان المأجور عليه عملاً واستيفاء منفعة متصلة الوجود متتابعة التحصيل، مثل كراء الدور والحوانيت، وإما بالمكان إن كان المطلوب مشياً مثل كراء الرواحل، أي وسائط النقل من مكان إلى مكان آخر.
واستحقاق تسلم الأجرة يكون بالعمل أو إنجاز المطلوب من العامل، للحديث السابق:«ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» فإذا لم يكمل عمله، يلزم المستأجر قدر عمل الأجير.
أما ثبوت حق العامل في تملك الأجرة ففيه رأيان للفقهاء: قال الشافعية والحنابلة: تثبت الملكية في الأجرة بمجرد انعقاد العقد، أي بنفس عقد الإجارة، لأنه عقد معاوضة، والمعاوضة تقتضي الملك في العوضين عقب العقد، كما يملك البائع الثمن بالبيع. وبناء عليه إذا كانت الإجارة في الذمة، أي تعهد شيء كخياطة أو بناء في ذمة العامل، يلزم تسليم الأجرة في مجلس العقد. وإن كانت الإجارة واردة على شيء معين كعقار معين بذاته أو دابة معينة بذاتها، ملكت الأجرة في الحال ويجب تعجيلها إلا إذا وجد شرط يقتضي التأجيل.
وقال المالكية والحنفية: تجب الأجرة باستيفاء المنفعة فعلاً أو بالتمكين من الاستيفاء، ولا تملك الأجرة بالعقد نفسه؛ لأن المستأجر يملك حينئذ الشيء المأجور عليه، فيملك الأجير العوض المستحق تحقيقاً لمبدأ المساواة المطلوبة العاقدين. وذلك إلا إذا اشترط تعجيل الأجرة بالعقد نفسه، أو عجلت فعلاً من غير شرط أو تم الاتفاق على تأجيل الأجرة. وبناء عليه: يستحق الأجير أجرته شيئاً فشيئاً بحسب المنفعة التي قدمها للمستأجر وملكها شيئاً فشيئاً على ممر الزمان. وبعبارة أخرى: يلزم المكري دفع الكراء جزءاً فجزءاً بحسب ما يقبض من المنافع، إلا إذا وجد شرط خلافه، أو كان هناك ما يقتضي التقديم، مثل أن يكون الكراء عوضاً معيناً بذاته، أو يكون كراء في الذمة.
والخلاصة: إن العلاقة بين رب العمل والعامل تقوم في الإسلام على أساس الإنسانية والرحمة والتعاون، والعدالة أو الكفاءة والرضا والعرف. ويرغِّب الإسلام أيضاً في إكرام العامل زيادة على أجره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«خيركم أحسنكم قضاء» (1) ويتحدد قدر الشيء المقابل بحسب ما يتعارفه الناس في مثله إذا لم يكن هناك اتفاق صريح على التقدير، أو فوض شخص بأداء شيء لآخر ولم يقدر حدود الشيء المدفوع. ويلزم رب العمل بتعويض العامل عما قد يصيبه من أضرار الآلة والعمل منعاً من الضرر، وللحكومة أن تتدخل في علاقات أرباب العمل والعمال بأن تقرر أن تكون أجور العمال متفقة مع مشقة العمل، ولا تجحف بمصلحة الملاك، منعاً لاستغلال حاجة العمال، ومحافظة على نمو رأس المال للأمة.
(1) أخرجه أحمد والشيخان عن أبي هريرة بلفظ «إن خيركم أحسنكم قضاء» وأخرجه أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله بلفظ «خياركم أحاسنكم قضاء» وأخرجه الجماعة إلا البخاري عن أبي رافع بلفظ «فإن من خير الناس أحسنهم قضاء» (نيل الأوطار: 230/ 5 ومابعدها).