الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَيْنِي بِسُوقِ ذِي المَجَازِ يقُولُ: "يا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا"، ويَدْخُلُ في فِجَاجِهَا (1)، والنَّاسُ مُقْتَصُّونَ (2) علَيْهِ، فمَا رأيْتُ أحَدًا يقُولُ شَيْئًا، وهُوَ لا يَسْكُتُ يَقُولُ:"أيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" إِلَّا أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلًا أحْوَلَ وَضِيئَ الوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ (3) يقُولُ: إنَّهُ صَابِئٌ (4) كَاذِبٌ، فقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قالُوا: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ وهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ، قُلْتُ: مَنْ هذَا الذِي يُكَذِّبُهُ؟ قالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ (5).
*
قَصِيدَةُ أَبِي طَالِبٍ الشَّهِيرَةُ:
وأدَّى ذلِكَ إِلَى أَنْ صَدَرَتْ (6) العَرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَوْسِمِ، فَانْتشَرَ ذِكْرُ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بِلَادِ العَرَبِ كُلِّهَا، وخَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دَهْمَاءَ العَرَبِ (7) أَنْ يَرْكَبُوه مَعَ قَوْمِهِ، فقَالَ قَصِيدَتَهُ المَشْهُورَةَ التِي تَعَوَّذَ فِيهَا بِحَرَمِ مَكَّةَ وبِمَكَانِهِ مِنْها، وتَوَدَّدَ فِيهَا أشْرَافَ قَوْمِهِ، وهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّمٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا تَارِكَهُ لِشَيْءٍ أبَدًا حتَّى يَهْلِكَ دُونَهُ. فقَالَ:
(1) الفِجَاجُ: جمعُ فَجٍّ، وهو الطريق الواسع. انظر النهاية (3/ 370).
(2)
قال السِّنْدِيُّ في شرح المسند (9/ 176): مقتَصُّونَ عليه: أي مجْتَمِعُونَ عليه تَعَجُّبًا مما يقول.
(3)
غَدِيرَتَيْنِ: هي ضَفَائِرُ، وهي كذلك الذَّوَائِبُ. انظر النهاية (3/ 310).
(4)
كانت العربُ تُسَمِّي النبي صلى الله عليه وسلم الصَّابئ؛ لأنه خرجَ مِنْ دين قُرَيش إلى دينِ الإسلام، ويُسَمُّون مَنْ يدخلُ في دِينِ الإسلام مَصْبُوًّا. انظر النهاية (3/ 3).
(5)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16023) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم رقم الحديث (6562).
(6)
صَدَرَ: رَجَعَ. انظر النهاية (3/ 15).
(7)
الدَّهْمَاءُ: الجمَاعَةُ مِنَ الناس. انظر لسان العرب (4/ 431).
ولَمَّا رَأَيْتُ القَوْمَ لا وُدَّ فِيهِمُ
…
وقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرَى والوَسَائِلِ
وقَدْ صَارَ حَوْلَنَا بِالعَدَاوَةِ والأَذَى
…
وقَدْ طَاوَعُوا أمْرَ العَدُوِّ المُزَايِلِ (1)
وقَدْ حَالفوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنَّةً (2)
…
يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ (3)
صَبَّرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ (4)
…
وأبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ (5)
وأحْضَرْتُ عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وإخْوَتِي
…
وأمْسَكْتُ مِنْ أثْوَابِهِ بالوَصَائِلِ
ومِنْهَا:
أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ
…
عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
ومِنْ كَاشِحٍ (6) يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ
…
ومِنْ مُلْحِقٍ في الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلِ
وثَوْرٍ ومَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا (7) مَكَانَهُ
…
ورَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ ونَازِلِ
وبِالْبَيْتِ حَقُّ البَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةٍ
…
وبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وبِالْحَجَرِ المُسَوَّدِ إذْ يَمْسَحُونَهُ
…
إِذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى والأَصَائِلِ
ومَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةً
…
عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
(1) المُزَايِلُ: أي التَّبَايُنُ والتَّفَرُّقُ. انظر لسان العرب (6/ 128).
(2)
أظِنَّةً: أي مُتَّهَمِينَ. انظر لسان العرب (8/ 271).
(3)
الأنَامِلُ: جمعُ أنْمُلَةٍ وهي رؤوس الأصابع. انظر لسان العرب (14/ 295).
(4)
سَمْرَاء سَمْحَةٍ: أي فَرَسٍ سَرِيعَةٍ. انظر لسان العرب (6/ 356).
(5)
الأبيض: أي السيف، والعَضْبُ: أي القاطع. انظر لسان العرب (9/ 252).
المَقَاوِلُ: المُلُوك. انظر لسان العرب (11/ 353).
(6)
الكَاشِحُ: هو العدُوُّ المُبْغِضُ. انظر لسان العرب (12/ 99).
(7)
ثَورٌ وثَبِيرٌ وحِرَاءٌ: جبالٌ بمكَّةَ. انظر النهاية (1/ 202 - 223 - 362).
ومِنْهَا:
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَتْرُكَ مَكَّةً
…
وَنَظْعَنُ إِلَّا أمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ (1)
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَبْزِي (2) مُحَمَّدًا
…
وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ ونُناضِلِ
ونُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ
…
ونُذْهَلَ عَنْ أبْنَائِنَا والحَلَائِلِ (3)
ويَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الحَدِيدِ إلَيْكُمُ
…
نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلَاصِلِ
وحَتَّى ترى ذَا الضِّغْنَ يَرْكَبُ ردعَهُ (4)
…
مِنْ الطَّعْنِ فِعْلَ الأنْكَبِ (5) المُتَحَامِلِ
وإنَّا لَعَمْرُ اللَّهِ إِنْ جَدَّ مَا أرَى
…
لَتَلْتَبِسَنَّ أسْيَافُنَا بالْأَمَاثِلِ (6)
بِكَفَّيْ فَتًى مِثْلَ الشِّهَابِ سَمَيْدَعٍ (7)
…
أخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ
ومِنْهَا:
ومَا تَرَكَ قَوْمٌ لَا أبَا لَكَ سَيِّدًا
…
يَحُوطُ الذِّمَارَ غَيْرَ ذَرِبٍ مُوَاكِلِ (8)
(1) بَلابِلٌ: هي وُسْوَاسُ الصَّدْرِ. انظر لسان العرب (1/ 493).
(2)
نَبْزِي مُحَمدًا: أي نَسْلُبُهُ ونَغْلِبُ عليه. انظر سيرة ابن هشام (1/ 312).
(3)
الحَلائِلُ: الزَّوْجاتُ، واحِدَتُهَا: حليلة. انظر لسان العرب (3/ 296).
(4)
الضِّغن: الحقد. انظر لسان العرب (8/ 68).
يقال للقتيل: ركب رَدْعه: إذا خَرَّ لوجهه على دمه. انظر لسان العرب (5/ 188).
(5)
الأنْكَبُ: المَائِلُ. انظر لسان العرب (14/ 275).
(6)
أماثل القوم: خيارهم. انظر لسان العرب (13/ 23).
(7)
السميدع: الكريم السيد. انظر لسان العرب (6/ 357).
(8)
الذِّمَارُ: ما يَلْزَمُكَ حِمَايَتُهُ. انظر لسان العرب (5/ 57).
ذَرِبٍ: هو الفاحِشُ البذيء. انظر لسان العرب (5/ 31).
مواكل: عاجز كثير الاتكال على غيره. انظر لسان العرب (15/ 387).
وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
ثِمَالُ (1) اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الهَلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
…
فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
ومِنْهَا:
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السِّقَايَةِ فِيهِمُ
…
ونَحْنُ الكَدَى مِنْ غَالِبٍ والكَوَاهِلُ
شَبَابٌ مِنَ المُطَّيِّبِينَ وَهَاشِمٍ
…
كَبِيضِ السُّيُوفِ بَيْنَ أيْدِي الصَّيَاقِلِ (2)
ومِنْهَا:
لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْتُ وجْدًا بِأَحْمَدٍ
…
وإِخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبِّ المُوَاصِلِ
فَلَا زَالَ فِي الدُّنْيَا جَمَالًا لِأَهْلِهَا
…
وزَيْنًا لِمَنْ وَاللَّهِ رَبَّ المَشَاكِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أيُّ مُؤَمِّلٍ
…
إِذَا قَاسَهُ الحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ
…
يُوَالِي إِلَاهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُنَّةٍ
…
تَجُرُّ عَلَى أشْيَاخِنَا فِي المَحَافِلِ
لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ
…
مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٍ
…
لَدَيْنَا ولَا يَعْنِي بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ (3)
…
تَقَصَّرُ عَنْهُ سُورَةُ (4) المُتَطَاوِلِ
(1) الثِّمال: الملجأ والغياث والمطعم في الشدة. انظر لسان العرب (2/ 130).
(2)
الصياقل: السيوف اللامعة. انظر لسان العرب (7/ 377).
(3)
الأَرُومَةُ: بفتح الهمزة: الأصْلُ. انظر النهاية (1/ 44).
(4)
السُّورَةُ: بضم السين هي المَنْزِلَةُ الرَّفِيعة. انظر لسان العرب (6/ 427).
حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وحَمَيْتُهُ
…
ودَافَعْتُ عَنْهُ بِالذُّرَا (1) والكَلَاكِلِ (2)
فأيَّدَهُ رَبُّ العِبَادِ بِنَصْرِهِ
…
وأظْهَرَ دِينًا حَقُّهُ غَيْرُ بَاطِلِ (3)
إِلَى آخِرِ القَصِيدَةِ، وهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ جِدًّا.
قَالَ فِيهَا الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ بَلِيغَةٌ جِدًّا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَهَا إِلَّا مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ، وهِيَ أفْحَلُ مِنَ المُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، وأبْلَغُ فِي تَأْدِيَةِ المَعْنَى فِيهَا جَمِيعًا (4).
* مَا نَزَلَ بِشَأْنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ (5) رضي الله عنه:
كَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو أشْرَافَ قُرَيْشٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، ولَا يَأْلُو (6) جُهْدًا فِي نُصْحِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ زُعَمَائِهِمْ وكُبَرَائِهِمْ، فِيهِمُ: الوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ، وعُتْبَةُ، وشَيْبةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، يَتَأَلَّفُهُمْ ويَعْرِضُ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، إذْ أقبَلَ عَمْرُو
(1) الذُّرا: جمع ذُرْوَة، وهي أعْلَى سَنَامِ البَعِير. انظر لسان العرب (5/ 41).
(2)
الكَلاكِلُ: جمعُ كَلْكَلٍ، وهو الصَّدْرُ من كل شيء. انظر لسان العرب (12/ 146).
(3)
انظر سيرة ابن هشام (1/ 309).
(4)
انظر البداية والنهاية (3/ 63).
(5)
مختلف في اسمه، فأهل المدينة يقولون: عبد اللَّه، وأهل العراق يقولون: عمرو بنُ أمِّ مكتومٍ القُرَشِيُّ، وهو ابنُ خالِ خَدِيجَةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، أسلمَ قَدِيمًا، كَانَ مِنَ المهاجِرينَ الأوَّلين، قدم المدينةَ قبل أَنْ يُهَاجِرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَسْتَخْلِفَهُ على المدينةِ في عَامَّةِ غَزَوَاتِهِ يُصَلِّي بالناس، خَرَجَ رضي الله عنه إلى القادِسِيَّةِ، فشَهِدَ القِتَالَ، واستشهِدَ هناك، وكان معه اللِّواءُ حِينئذ. انظر الإصابة (4/ 494).
(6)
لا يألُوا: أي لا يُقَصِّرُ. انظر النهاية (1/ 64).
بنُ أمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى رضي الله عنه، فَجَعَلَ يَسْأَلُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويَسْتَقْرِئُهُ القُرْآنَ، فَشَقَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتَّى أضْجَرَهُ، وذَلِكَ أَنَّهُ شَغَلَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ أمْرِ الوَليدِ وأصْحَابِهِ، ومَا طَمعَ فِيهِ مِنْ إسْلَامِهِمْ، فلَمَّا أكْثَرَ عَلَيْهِ القَوْلَ خَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتُهُ إِلَى ذَلِكَ المِسْكِينِ الأَعْمَى يُنَفِّرُ عَنْهُ قُلُوبَ أُولَئِكَ الزُّعَمَاءِ، فأعْرَضَ عَنْهُ وعَبَسَ في وَجْهِهِ، وأقْبَلَ عَلَى الآخَرِينَ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، ونَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. . .} إِلَى قَوْلهِ تَعَالَى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} (1).
قَالَ ابنُ إسْحَافَ: أيْ يَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ بَشِيرًا ونَذِيرًا، لَمْ أَخُصَّ بِكَ أحَدًا دُونَ أَحَدٍ، فَلَا تَمْنَعْهُ مِمَّنْ ابْتَغَاهُ، ولا تَتَصَدَّيَنَّ بِهِ لِمَنْ لا يُرِيدُهُ (2).
رَوَى الحَاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، وعِنْدَهَا رَجُلٌ مَكْفُوفٌ، وهِيَ تُقَطِّعُ لَهُ الْأُتْرُجَّ (3) وتُطْعِمُهُ إيَّاهُ بالعَسَلِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ؟ ، قَالَتْ: هَذَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الذِي
(1) سورة عبس آية (1 - 14).
(2)
أخرج قِصَّةَ ابنِ أم مكتوم رضي الله عنه: ابن حبان في صحيحه - كتاب البر والصلة - باب فصل من البرِّ والإحسان - رقم الحديث (535) - والترمذي في جامعه - باب ومن سورة عبس - رقم الحديث (3621) - وإسناده صحيح على شرط مسلم - وانظر سيرة ابن هشام (1/ 401) - والطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 422).
(3)
الأتْرُجُّ: هي فاكِهَةٌ مَعْرُوفَةٌ، واحدَتُهُ تُرُنْجَةٌ، وأُتْرُجَّةٌ. انظر فتح الباري (10/ 82) - ولسان العرب (2/ 25).
عَاتَبَ اللَّه تبارك وتعالى فِيهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعِنْدَهُ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمَا، فنَزَلَتْ:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. . .} ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ (1).
قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا قَصَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَأْلِيفَ هَؤُلَاءِ الكُفَّارِ، ثِقَةً بِمَا كَانَ فِي قَلْبِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مِنَ الإِيمَانِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ:"إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكِبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ"(2).
ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ تبارك وتعالى حَبِيبَهُ ونَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَا تَنْكَسِرَ قُلُوبُ أَهْلِ الصُّفَّةِ (3)، أَوْ لِيُعْلَمَ أَنَّ المُؤْمِنَ الفَقِيرَ خَيْرٌ مِنَ الغَنِيِّ الكَافِرِ، وكَانَ النَّظَرُ إِلَى المُؤْمِنِ أوْلَى، وإنْ كَانَ فَقِيرًا أصْلَحُ وأَوْلَى مِنَ الأَمْرِ الآخَرِ، وهُوَ الإِقبالُ عَلَى الأَغْنِيَاءِ طَمَعًا في إيمَانِهِمْ، وإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَوْعًا مِنَ المَصْلَحَةِ (4).
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم باب تعظيمِ أهل بيتِ النبي صلى الله عليه وسلم لابنِ أمِّ مكتوم - رقم الحديث (6730).
(2)
أخرج هذا الحديث: البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة - رقم الحديث (27) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه - رقم الحديث (150).
(3)
أهلُ الصُّفَّةِ: هم فُقَرَاءُ المُهَاجرينَ، ومَن لم يكنْ له منهم مَنْزِلٌ يَسْكُنُهُ، فكانوا يأوُون إلى موضِعٍ مُظلّلٍ في مسجدِ المدينةِ يسْكُنُونَهُ. انظر النهاية (3/ 35).
(4)
انظر تفسير القرطبي (22/ 72).