الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
قِصَّةُ حَلِيمَةَ في اسْتِرْضَاعِهِ صلى الله عليه وسلم
-:
تَذْكُرُ حَلِيمَةُ قِصَّةَ رَضَاعِهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فتَقُولُ: خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا، وابنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ، في نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ، قالَتْ: وذَلِكَ في سَنَةٍ شَهْبَاءَ (1)، لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانٍ (2) لِي قَمْرَاءَ (3)، مَعَنَا شَارِفٌ (4) لنَا وَاللَّهِ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ (5)، ومَا نَنَامُ لَيْلَنَا أجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ منَ الجُوعِ، ومَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، ومَا فِي شَارِفِنا ما يُغَذِّيهِ ولَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الغَيْثَ، والفَرَجَ، فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أدَمْتُ الرَّكْبَ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وعَجَفًا (6)، حتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلَّا وقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَأْبَاهُ، إِذَا قِيلَ لَهَا أَنَّهُ يَتِيمٌ، وذَلِكَ أنَّا إِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو المَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ، ومَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أمُّهُ وَجَدُّهُ؟ فكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الاِنْطِلَاقَ، والذَّهَابَ، قُلْتُ لِصَاحِبِي: وَاللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي، ولَمْ
(1) سَنَةٌ شَهْبَاءُ: أي ذاتُ قَحْطٍ، وجَدْب، والشَّهْباء هي الأرض البَيْضاء التي لا خُضْرَة فيها لِقِلَّةِ المَطَر. النهاية (2/ 457).
(2)
الأتانُ: الحمارَة الأنثى خاصة. النهاية (1/ 25).
(3)
القَمْرَاءُ: أي الشديدُ البياض. النهاية (4/ 93).
(4)
الشَّارِفُ: هي الناقة المُسِنَّةُ. النهاية (2/ 415).
(5)
ما تَبِضُّ بقَطْرَةٍ: أي ما يَقْطُرُ منها لبن. النهاية (1/ 131).
(6)
العَجَفُ: أي الهُزَالُ. النهاية (3/ 169).
آخُذْ رَضِيعًا، وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إِلَى ذَلِكَ اليَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، قَالَ: لا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً.
قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فأخَذْتُهُ، ومَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلَّا أنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ.
قالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ، رَجَعْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ في حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حتَّى رَوِيَ، وشَرِبَ مَعَهُ أخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ نَامَا، ومَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا هِيَ حَافِلٌ (1) فَحَلَبَ مِنْهَا وشَرِبَ، وشَرِبْتُ مَعَهُ حتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ، قَالَتْ: يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أصْبَحْنَا: تَعْلَمِي واللَّهِ يا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، قالَتْ: فقُلْتُ واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ، قالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا ورَكِبْتُ أتَانِي، وحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فَوَاللَّهِ لَقَطَعْتُ بِالرَّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهِمْ حتَّى إِنَّ صَوَاحِبِي لَيَقُلْنَ لِي: يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَكِ أَرْبِعِي عَلَيْنَا (2)، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أتَانُكِ التِي كُنْتِ خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟
فأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاللَّهِ، إنَّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا.
قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ، ومَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ (3) مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ حِينَ قَدِمْنَا بهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا،
(1) نَاقَةٌ حَافِلٌ: أي كثيرة اللبن. النهاية (1/ 393).
(2)
أرْبِعِي: أي ارفُقِي واقْتَصِري. النهاية (2/ 172).
(3)
يُقال أرضٌ جَدْبَاء: أي لا نَبَات بها. انظر النهاية (1/ 235).
فَنَحْلِبُ ونَشْرَبُ، ومَا يَحْلِبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ، ولَا يَجِدُهَا في ضَرْعٍ، حَتَّى كَانَ الحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ: وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ فَتَرُوحُ أغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ، وتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبّنًا (1).
فَهَذِهِ مِنْ بَرَكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، وزَوْجِهَا الحَارِثِ.
ولَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ حتَّى مَضَتْ سَنَتَاهُ صلى الله عليه وسلم وفَطَمَتْهُ
(1) أخرج قِصَّةَ استِرْضَاعِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بادِيَةِ بَنِي سعد:
ابن حبَّان في صحيحه - رقم الحديث (6335) بإسناد منقطع - وابن إسحاق في السيرة (1/ 199) وجَوّد إسناده الذهبي في سيرته (1/ 52).
وضعف الألباني هذا الخبر في كتابه "دِفَاعٌ عن الحديثِ النَّبوي والسيرة".
قُلت: وهناك شواهد كثيرة وثابتة، تدل على استرضاع الرسول صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد منها:
* ما رواه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (162)(261) - في قصة شقِّ صدره صلى الله عليه وسلم وهو غُلام، وهي تتفق مع رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17648) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4288) - وابن إسحاق (1/ 201) بسند حسن في شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو مُسْتَرضَعٌ في بادية بني سعد.
* ومنها ما رواه ابن إسحاق في السيرة (1/ 203) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 679) بَسَندٍ جيِّد قَوِي، عن خالد بن مَعْدان، عن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول اللَّه أخبرنا عن نفسك؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نَعم أنا دَعْوة أَبِي إبراهيم، وبُشرى عِيسى عليه السلام، ورأتْ أمِّي حيثُ حَمَلت بي أنَّه خرَج منها نُورٌ أضاءَتْ لهُ قُصُور الشَّام، واستُرْضِعْتُ في بَنِي سعدِ بن بَكْرٍ. . .".
* ومنها ما رواه ابن إسحاق في السيرة (4/ 141) بسند حسن في قِصَّة قُدُوم وفْدِ هَوَازِن إلى الرسول وهو بالجِعرانة مُنْصَرَفَهُ من حُنين، ولفظه: . . . فقام رجل من هَوَازن، ثُمَّ أَحَدُ بني سعد بن بكر، فقال: يا رسول اللَّه، إنَّما في الحَظَائِرِ -أي الأسر- عَمَّاتُكَ وخَالاتُكَ وحَوَاضِنُكَ اللاتي كُنَّ يَكْفَلْنَكَ.
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَشِبُّ شَبَابًا لا يُشْبِهُ الغِلْمَانَ فَلَمْ تَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حتَّى كَانَ غُلَامًا كَأَنَّهُ ابنُ أرْبَعِ سِنِينَ.
قَالَتْ حَلِيمَةُ رضي الله عنها: فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُرِيَنَا البَرَكَةَ ونَتَعَرَّفُهَا، حتَّى بَلَغَ صلى الله عليه وسلم سَنَتَيْنِ، فَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لا يَشِبُّهُ الغِلْمَانُ (1).
وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَشِبُّ في يَوْمِهِ شَبَابَ الصَّبِيِّ في الشَّهْرِ ويَشِبُّ في الشَّهْرِ شَبَابَ الصَّبِيِّ في سَنَةٍ (2).
قَالَ البَرْدُونِيُّ:
وَشَبَّ طِفْلُ الْهُدَى المَنْشُودِ مُتَّزِرًا
…
بِالْحَقِّ مُتَّشِحًا (3) بِالنُّورِ وَالنَّارِ
فِي كَفِّهِ شُعْلَةٌ تَهْدِي وفِي فَمِهِ
…
بُشْرَى وفِي عَيْنَيْهِ إِصْرَارُ أَقْدَارِ
وفِي مَلَامِحِهِ وَعْدٌ وفِي دَمِهِ
…
بُطُولَةٌ تَتَحَدَّى كُلَّ جَبَّارِ (4)
قالَتْ حَلِيمَةُ: فَقَدِمْنَا بهِ عَلَى أُمِّهِ زَائِرِينَ لَهَا، ونَحْنُ أحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ، فكَلَّمْنَا أُمَّهُ، وقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَرَكْتِ بُنَيَّ عِنْدِي حتَّى يَغْلَظَ، فإنِّي أخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ.
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب صفته صلى الله عليه وسلم وأخباره - رقم الحديث (6335) - وإسناده منقطع، لكن للقصَّة شواهد كثيرةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ كما مَرَّ قبل قليل.
(2)
انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للذهبي (1/ 51).
(3)
تَوَشَّحَ الرجل بِثَوبِهِ: إذا لبسه. انظر لسان العرب (15/ 306).
(4)
انظر ديوان البردوني ص 507.
قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حتَّى رَدَّتْهُ مَعَنَا (1).
وَهَكَذَا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ.
* * *
(1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 201) - السِّيرة النَّبوِيَّة للذهبي (1/ 51) - وجود الذهبي إسناده.