الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم المَحَبَّةَ مِنْ مَيْسَرَةَ، فكَانَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ، فَلَمَّا كَانُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، قَالَ مَيْسَرَةُ: يَا مُحَمَّدُ انْطَلِقْ إِلَى خَدِيجَةَ فَأَخْبِرْهَا بِمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهَا عَلَى وَجْهِكَ، فَإِنَّهَا تَعْرِفُ ذَلِكَ لَكَ، فَتَقَدَّمَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فِي سَاعَةِ الظَّهِيرَةِ، وخَدِيجَةُ فِي عِلِّيَّةٍ (1) لَهَا فَرَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، ومَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ، فَأَرَتْهُ نِسَاءَهَا فَعَجِبْنَ لِذَلِكَ، ودَخَلَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَبَّرَهَا بِمَا رَبِحُوا فِي وَجْهِهِمْ، فَسُرَّتْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ مَيْسَرَةُ عَلَيْهَا أخْبَرَتْهُ بِمَا رَأَتْ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ هَذَا مُنْذُ خَرَجْنَا مِنَ الشَّامِ، وأخْبَرَهَا بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ "نَسْطُورٌ"، ثُمَّ بَاعَتْ خَدِيجَةُ مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تِجَارَةٍ فَرَبِحَتْ ضِعْفَ مَا كَانَتْ تَرْبَحُ، وأَضْعَفَتْ لَهُ ضعْف مَا كَانَتْ تُعْطِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ (2).
*
رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لِاضْطِرَابِهَا:
روَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وأَبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَه فِي السُّنَنِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لِاضْطِرَابِهِ عَنِ السَّائِبِ بنِ أَبِي السَّائِبِ قَالَ: جِيءَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُعَلِّمُوني بهِ، قَدْ كَانَ صَاحِبِي فِي الجَاهِلِيَّةِ".
(1) العِلِّيَّةُ: الغُرْفَةُ في الطابق الثاني من الدَّارِ فوقه، وجمعها عَلَالِي. انظر النهاية (3/ 267).
(2)
أخرج قِصة خُروج الرسول صلى الله عليه وسلم في مالِ خديجة رضي الله عنها: ابن سعد في طبقاته (1/ 61 - 62) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 224) بدون إسناد - وأوردها الإمام الذهبي في سيرته (1/ 62) من طريق المحاملي، عن عبد اللَّه بن شبيب، وهو واه، ثم قال بعد أَنْ سَاقَ القصة: وهو حديث منكر.
قُلْتُ: نَعَمْ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَنِعْمَ الصَّاحِبُ كُنْتَ.
فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا سَائِبُ، انْظُرْ أَخْلَاقَكَ التِي كنْتَ تَصْنَعُهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَاجْعَلْهَا فِي الإِسْلَامِ، أَقْرِ (1) الضَّيْفَ، وأَكْرِمِ اليَتِيمَ، وأحْسِنْ إِلَى جَارِكَ"(2).
قَالَ الحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: وهَذَا الحَدِيثُ فِيمَنْ كَانَ شَرِيكُهُ صلى الله عليه وسلم مُضْطَرِبٌ جِدًّا (3)، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ لِلسَّائِبِ بنِ أَبِي السَّائِبِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ لِأَبِيهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ لِقَيْسِ بنِ السَّائِبِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بنَ السَّائِبِ-، وهَذَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ.
وذَكَرَ ابنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ السَّائِبَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا (4)، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وبَايَعَ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وحَسُنَ إسْلَامُهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ (5).
* * *
(1) قَرى الضَّيْفَ: أضَافَهُ. انظر لسان العرب (11/ 149).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15500) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (4836) - وابن ماجه في سننه - رقم الحديث (2287) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (3216).
(3)
ممن أعلَّ هذا الحديث بالاضطراب: ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 141) - والسُهيلي في الروض الأنف (3/ 172).
(4)
انظر سيرة ابن هشام (2/ 325).
(5)
انظر تهذيب التهذيب (1/ 682).
زَوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَدِيجَةَ (1) رضي الله عنها
كَانَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها تُسَمَّى سَيِّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وتُسَمَّى الطَّاهِرَةَ وذَلِكَ لِشِدَّةِ عَفَافِهَا، وكانَتْ نَقِيَّةً ذَاتَ عَقْلٍ وَاسِعٍ، وَحَسَبٍ، ومَالٍ.
لَمَّا سَمِعَتْ رضي الله عنها بِعَظِيمِ أمَانَةِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، وحُسْنِ أخْلاقِهِ،
(1) قال الحافظ في الفتح (7/ 512): خَدِيجةُ سيِّدةُ نِسَاءِ العالمين في زَمَانها أم القاسم القرشية الأسدية، وهي ممن كَمُل من النِّساء، وكانت عاقِلَةً جَلِيلةً دَيّنة مصونةً كَرِيمَةً: من أهل الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُثنِي عليها، ويُفَضِّلُهَا على سائر أمَّهَات المؤمنين، ويُبَالِغُ في تَعْظِيمِهَا، وهي أوَّل مَنْ تزوَّجها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بنتُ خُويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، تجتمعُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في قُصَيٍّ، وهي مِنْ أقرب نِسَائِهِ إليه في النَّسَبِ، ولم يتزوَّج من ذُرِّيَّةِ قُصي غيرها إلا أُمَّ حَبِيبَة، وكانت تُسَمى في الجاهلية الطَّاهرة، وقد تزَّوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبلَ البِعْثَةِ بخمسَ عشْرَةَ سَنَة، وكانت مُوسِرَة، وولدت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أولادَهُ كُلهم، إلا إبراهيم.
وكانت أوَّل من آمنَ باللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم وصَدَّق بما جاء به، فخَفَّفَ اللَّه بذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكان لا يَسْمع شيئًا يَكْرَهُهُ منَ الرَّدِّ عليه، فيرجع إليها إلا ثَبَّتَتْه وتُهَوِّن عليه أمْرَ الناس، وقد تقدَّم في أبواب بدءِ الوحْيِ بيان تَصْدِيقها للنبي صلى الله عليه وسلم في أوَّل وهْلَةٍ، ومن ثباتها في الأمر ما يدل علي قوة يَقِينِها، ووفُورِ عَقْلِها، وصِحَّة عَزْمِها، لا جَرَم كانت أفضل نسائه على الراجح، روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه هذه خديجة قد أتَتْ معها إنَاء فيه إدَام، أو طعَام، أو شَرَاب، فإذا هي أتَتْكَ، فاقرأ عليها السلام من ربِّهَا، ومِنِّي، وبَشِّرْهَا ببيْتٍ في الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فيهِ ولا نَصَبَ.
وصِدْقِ حَدِيثِهِ، أَحَسَّتْ رضي الله عنها أَنَّهَا وَجَدَتْ ضَالَّتَهَا المَنْشُودَةَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ رَجُلٌ لا تَسْتَهْوِيهِ حَاجَةٌ، وأنَّهُ لا يَتَطَلَّعُ إِلَى مَالٍ، ولا إِلَى جَمَالٍ، فَحَدَّثَتْ بِمَا في نَفْسِهَا إلى صَدِيقَتِهَا نَفِيسَةَ بِنْتِ مُنَيَّةَ، فَذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَدِيجَةَ فَرَضِيَ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.
وسَأَدَعُ نَفِيسَةَ بِنْتَ مُنَيَّةَ تَرْوِي لَنَا قِصَّةَ زَوَاجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها، قَالَتْ نَفِيسَةُ: كَانَتْ خَدِيجةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً حَازِمَةً جَلْدَةً، شَرِيفَةً، مَعَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا مِنَ الكَرَامَةِ والخَيْرِ، وهِيَ يَوْمَئِذٍ أوْسَطُ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وأعْظَمَهُمْ شَرَفًا، وأكْثَرَهُمْ مَالًا، وَكُلُّ قَوْمِهَا حَرِيصٌ عَلَى نِكَاحِهَا لَوْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ، قَدْ طَلَبُوهَا وبَذَلُوا لَهَا الأَمْوَالَ، فأرْسَلَتْنِي دَسِيسًا (1) إلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ رَجَعَ في عِيرِهَا مِنَ الشَّامِ، فقُلْتُ: يا مُحَمَّدُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ فقَالَ: مَا بِيَدِي مَا أَتَزَوَّجُ بهِ، قُلْتُ: فإنْ كُفِيتَ ذَلِكَ، ودُعِيتَ إلى الجَمَالِ، والمَالِ والشَّرَفِ، والكَفَاءَةِ ألَا تُجِيبُ؟ قَالَ: فَمَنْ هِيَ؟ قُلْتُ: خَدِيجَةُ، قَالَ: وكَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ عَلَيَّ، قَالَ: فأنَا أفْعَلُ، قَالَتْ نَفِيسَةُ: فَذَهَبْتُ فأخْبَرْتُ خَدِيجَةَ، فأرْسَلَتْ إِلَيْهِ أنِ ائْتِ لِسَاعَةِ كذَا وكذَا، وأرْسَلَتْ إلى عَمِّهَا عَمْرِو بنِ أَسَدٍ لِيُزَوِّجَهَا، فَحَضَرَ، لِأَنَّ أبَاهَا مَاتَ قَبْلَ حَرْبِ الفِجَارِ (2).
(1) الدَّسِيسُ: مَن يُرسَلُ سِرًا ليأتي بالأخبار. انظر لسان العرب (4/ 345).
(2)
انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 62).