الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعِنْدَ ذَلِكَ قَامَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ إِلَى الصَّحِيفَةِ فَمَزَّقَهَا، ثُمَّ مَشَى إِلَى أُولَئِكَ الرَّهْطِ مِنْ قُرَيْشٍ الذِينَ أجْمَعُوا أمْرَهُمْ عَلَى نَقْضِ الصَّحِيفَةِ، فَلَبِسُوا السِّلَاحَ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى بَنِي هَاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ فَأَمَرُوهُمْ بِالخُرُوجِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ، فَفَعَلُوا.
وكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ الشِّعْبِ في أَوَّلِ السَّنَةِ العَاشِرَةِ مِنَ البِعْثَةِ (1).
*
آخِرُ مُفَاوَضَاتِ قُريشٍ مَعَ أَبِي طَالِبٍ:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشِّعْبِ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وعَادَتْ قُرَيْشٌ لِشَرِّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشِّدَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصْحَابِهِ، وَظَلَّ أَبُو طَالِبٍ يَحُوطُ ابنَ أخِيهِ، ويَمْنَعُهُ إِلَى أَنْ لَاحَقَهُ المَرَضُ وَاشْتَدَّ بِهِ، وحِينَئِذٍ حَاوَلَ المُشْرِكُونَ مَرَّةً أُخْرَى أَنْ يُفَاوِضُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْ أَبِي طَالِبٍ، لِخَوْفِهِمْ أَنْ تُعَيِّرَهُمُ العَرَبُ إِنْ أتَوْا بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمُنْكَرٍ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، فَيَقُولُونَ: تَرَكُوهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ.
فَلَمَّا اشْتَكَى (2) أَبُو طَالِبٍ وبَلَغَ قُريْشًا ثِقَلُهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: إِنَّ
(1) انظر تفاصيل المقاطعة في:
سيرة ابن هشام (1/ 388) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 100) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 311) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 271) - فتح الباري (7/ 589) - البداية والنهاية (3/ 93) - وروى البخاري في صحيحه - كتاب الأنصار - باب تقاسم المشركين علي النبي صلى الله عليه وسلم رقم الحديث (3882) - مختصرًا جدًّا عن المقاطعة.
(2)
أي مَرِضَ.
حَمْزَةَ وعُمَرَ قَدْ أسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ في قبائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، ولْيُعْطِهِ مِنَّا، وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا (1) أَمْرَنَا.
فَمَشَى إِلَيْهِ أشْرَافُهُمْ، وَكَانُوا خَمْسَةٌ وعِشْرُونَ رَجُلًا، مِنْهُمْ: عُتْبَةُ وشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، وأَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ، وَالعَاصُ بنُ وَائِلٍ، والأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، والأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَقَدَّمُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُمْ عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالُوا: يَا أبَا طَالِبٍ! إِنَّكَ كَبِيرُنَا وسَيِّدُنَا، فَأَنْصِفْنَا مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَمُرْهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا ونَدَعَهُ وإِلَهَهُ -وفِي لفظٍ: قَالُوا يَا أبَا طَالِبٍ! إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، وتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الذِي بَيْنَنَا وبَيْنَ ابْنِ أخِيكَ، فَادْعُهُ، فَخُذْ لَه مِنَّا، وخُذْ لَنَا مِنْهُ، لِيَكُفَّ عَنْهُ، وَنَكُفَّ عَنْهُ، وليَدَعَنَا ودِينَنَا، ونَدَعَهُ ودِينَهُ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ البَيْتَ، وبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِس رَجُلٍ، فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ إِنْ جَلَسَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ في ذَلِكَ المَجْلِسِ، وَلَمْ يَجِدِ
(1) ابتَزَّهُ: أي قَهَرَهُ وغَلَبَهُ. انظر النهاية (1/ 125).
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ فَجَلَسَ عِنْدَ البَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي! هَؤُلَاءِ أشْرَافُ قَوْمِكَ، قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ، لِيُعْطُوكَ وليَأْخُذُوا مِنْكَ، وفِي لفظٍ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ، وَقَدْ سَأَلُوكَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ، ويَدَعُوكَ وإِلَهَكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ فَقَدْ أنْصَفُوكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كلِمَةً إِنْ أَنْتُمْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا العَرَبَ، ودَانَتْ لَكُمْ بِهَا العَجَمُ؟ ".
وفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي! مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُرِيدُ مِنْهُمْ كلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وتُؤَدِّي إلَيْهِمُ العَجَمُ الجِزْيَةَ"، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: كَلِمَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ"، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: نَعَمْ وأَبِيكَ، وعَشْرَ كَلِمَاتٍ.
وفِي رِوَايَةٍ: قَالَ أَبُو جَهْلِ مِنْ بَيْنِ القَوْمِ: إِنَّ هَذِهِ لَكَلِمَةٌ مُرْبِحَةٌ، لَنُعْطيَنَّكَهَا وَعَشرًا مَعَهَا فمَا هِيَ؟ .
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "تَقُوُلونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ".
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ يَا ابْنَ أَخِي مَا رَأَيْتُكَ سَأَلْتَهُمْ شَطَطًا (1).
(1) أي ما ظَلَمْتَهُم بسُؤَالِكَ. انظر النهاية (2/ 425).
الشَّطَطُ: هوَ الجَوْرُ في الحُكْم. انظر لسان العرب (7/ 119).
ومنهُ قوله تَعَالَى في سورة الكهف آية (14): {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوْا فَقَالُوْا رَبُّنَا =
أَمَّا زُعَمَاءُ المُشْرِكِينَ فَصفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُ، ثُمَّ قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ، وَإِلَهَكَ الذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)(1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)(2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ (3) حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ
= رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}.
(1)
قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وإسماعيل بن أبي خالد، وابن عيينه: أي ذِي الشَّأنِ والمَكَانَةِ. انظر تفسير ابن كثير (7/ 51).
(2)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 51): أي إِنَّ في هذا القرآن لَذِكْرًا لمن يتذَكَّر، وعِبْرة لمن يَعْتَبِرَ، وإنما لم يَنتفِعْ بهِ الكافِرُونَ لأنَّهُمْ "في عِزَّةٍ" أي اسْتِكْبَارًا عنهُ وحَمِيَّة، و"شِقَاق" أي: مُخَالفَةٍ له ومُعَانَدَةٍ ومُفَارَقَةٍ.
(3)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 52 - 53): هذه الكلمة وهي "لَاتَ"، هِي:"لا" التِي للنَّفْي، زِيدتْ معها "التَّاءُ"، كما تزادُ في "ثَمَّ"، فيقولون: ثَمَّتَ، و"رُبَّ"، فيقولون: رُبَّتْ، وهي مَفْصُولةٌ، والوَقْفُ عليها.
وأنشدَ بعضُهُم: وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ.
بِخَفْضِ السَّاعة، وأهلُ اللغةِ يَقولونَ: النَّوَصُ: التَّأْخُّرُ، والبَوَصُ: التَقَدُّمُ، ولهذَا قَال تَعَالَى:{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} : أي ليسَ الحِينُ حِينَ فِرَارٍ ولا ذَهَابٍ.
الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ (1) يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (2).
* * *
(1) قال الإمام الطبري في تفسيره (10/ 552): أي: أن هذا القول الذي يقول محمد، ويدعونا إليه، من قول لا إله إلا اللَّه، شيءٌ يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا، وأن نكون له فيه أتباعًا، ولسنا مجيبيه إلى ذلك.
(2)
أخرج هذه القصة: الإمام الترمذي في جامعه - كتاب تفسير القرآن - باب سورة ص - رقم الحديث (3512) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2008) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر الإخبار عن أداء العجم الجزية إلى العرب - رقم الحديث (6686) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 31) - وإسنادها ضعيف - وأخرجها الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب سورة ص - رقم الحديث (3670) - وإسناده حسن.