الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَدْءُ إِسْلامِ الأَنْصَارِ
(1)
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هذِهِ القَبَائِلِ التِي عَرَضَ عَلَيْهَا نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ قَلْبًا مَفْتُوحًا، وَلَا صَدرًا مَشْرُوحًا، بَلْ كَانَ الرَّاحِلُونَ وَالمُقِيمُونَ يَتَوَاصَوْنَ بِالبُعدِ عَنْهُ، وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالأصَابعِ.
(1) قال الحافظ في الفتح (1/ 91) - (7/ 484): الأنصارُ: جمعُ نَاصر كأصحَابٍ وصاحِبٍ، أو جمعُ نَصِيرٍ كأشرافٍ وشريفٍ، واللامُ فيه للعهدِ أي أنصارُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمرادُ الأوسُ والخزرَجُ، والأوسُ يُنسبُون إلى أوْسِ بنِ حَارِثَةَ، والخَزْرَجُ يُنسبونَ إلى الخَزْرَجِ بنِ حَارِثَةَ، وكانوا قَبْل ذلك يُعرفون بِبَنِي قَيْلَةَ -بقاف مفتوحة-، وهي الأمُّ التي تَجْمَعُ القَبِيلَتَيْنِ، فسمَّاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الأنصار، أخرج البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3776) - عن غَيْلان بن جَرير قال: قلتُ لأنسٍ: أرأيتَ اسمَ الأنصارِ كُنتم تُسَمَّون به، أم سَمَّاكم اللَّهُ؟ قال: بل سَمَّانا اللَّهُ. فصارَ ذلك عَلمًا عليهم، وأُطْلِق أيضًا على أولادهم وحُلفائهم ومَوَاليهم، وخُصُّوا بهذه المَنْقَبَة العُظمى لما فَازُوا به دون غيرهم من والقبائل من إيوَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم هو ومَنْ مَعَهُ، والقيامِ بأمرهم، ومُوَاسَاتهم بأنفسِهم وأموالِهِم وإيثَارِهِمْ إياهُم في كثيرٍ من الأمُورِ على أنفسهم، فكان صَنِيعُهُم لذلكَ مُوجِبًا لمُعَادَاتهم جَمِيعَ الفِرَقِ المَوْجُودِينَ من عَرَبٍ وعَجَبم، والعَدَاوة تَجُرُّ البُغْضَ، ثم كان ما اختُصُّوا به مما ذُكِرَ مُوجِبًا للحَسَدِ، والحَسَدُ يَجُرُّ البُغْضَ، فلهذا جاء التَّحْذِيرُ من بُعْضِهم، والتَّرغِيب في حبّهم حتى جُعِلَ ذلك آية الإيمان والنِّفاق، تَنْويها بِعَظِيم فَضْلِهم، وتَنْبيهًا على كَريم فِعلهم.
روى الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (17) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (74) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه عن: "آيةُ الأيمانِ حُبُّ الأنصَارِ، وآيةُ النفَاقِ بُغْضُ الأنصَارِ".
وَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ مِنَ الآفَاقِ البَعِيدَةِ فيزَوِّدُهُ قَوْمُهُ بِهذِهِ الوَصَاةِ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ (1).
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي هذَا الجَوِّ القَابِضِ، لَمْ يُخَامِر (2) اليَأْسُ قَلْبَهُ، وَاسْتَمَرَّ مُثَابِرًا فِي جِهادِ الدَّعوَةِ حَتَّى تَأَذَّنَ الحَقُّ أَخِيرًا بِالفَرَجِ (3).
دَخَلَت السَّنَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ البِعثَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ بِالدَّعوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفْتُرُ عَنْ ذَلِكَ رغْمَ ازْدِيَادِ تَضْيِيقِ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ، وَإِثَارَتِهِمْ حَوْلَهُ الشَّائِعَاتِ، وَالأَكَاذِيبِ لِيَصُدُّوا النَّاسَ عَن الِاسْتِجَابَةِ لَهُ، فَلَمَّا اقْترَبَ مَوْسِمُ الحَجِّ مِنْ هذِهِ السَّنَةِ رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِدُّ لِدَعْوَةِ الوُفُودِ وَالقَبَائِلِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ.
فَلَمَّا كَانَ مَوْسِمُ حَجِّ السَّنَةِ الحَادِيَةِ عَشْرَةَ مِنَ البعثَةِ، وَأَرَادَ اللَّه عَزَّ رَجَلَّ إِظْهار دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ العَقَبَةِ (4) لَقِيَ رَهْطًا (5) مِنْ الخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا، فَقَالَ
(1) هذا جُزءٌ من حَديثٍ أخرجه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح على شرط مسلم - رقم الحديث (14456) - وقد مَرَّ قبلَ قَلِيلٍ.
(2)
التَّخْمِيرُ: التَّغْطِيَةُ. انظر لسان العرب (4/ 211).
(3)
انظر فِقة السيرة للشيخ محمد الغزالي رحمه اللَّه تعالى ص 140.
(4)
العَقَبَةُ: الجَبَلُ الطَّويل -يعرض للطريق فيأخذ فيهِ- وهو طَوِيلٌ صعْبٌ شَدِيد. انظر لسان العرب (9/ 306).
(5)
الرَّهْطُ: ما دُونَ العشرة. انظر لسان العرب (5/ 343).
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ هو: "مَنْ أَنْتُمْ؟ ".
قَالُوا: نَفَرٌ مِنْ الخَزْرَجِ.
قَالَ: "أَمِنْ مَوَالِي (1) اليَهُودِ؟ ".
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟ ".
قَالُوا: بَلَى، فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُم إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَعَرَضَ عَلَيْهِم الإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِم القُرآنَ.
وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّه لَهُمْ بِهِ فِي الإِسْلَامِ، أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهم فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُم -أَيْ الأوْسُ وَالخَزْرَجُ- أَهْلَ شِركٍ وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ عَزُّوهُمْ (2) ببلَادِهِمْ، فكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُم شَيْءٌ، قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوث الآنَ، قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَتَّبِعُهُ فنَقْتُلُكُم مَعَهُ قتلَ عَادٍ (3) وإِرَمٍ (4).
(1) قال الإمام السهيلي في الروض الأنف (2/ 246): أي مِنْ حُلفَائِهِم.
(2)
عَزُّوهُم: أي غَلَبُوهُم. انظر لسان العرب (9/ 187).
(3)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 394): عادٌ قومٌ كانوا مُمَرِّدِينَ عُتَاةً جَبَّارِين، وهم الذين بَعَثَ اللَّه فيهم رسوله هُودًا عليه السلام، فكذبُوه وخَالفُوه، فأنجَاهُ اللَّه من بين أظهُرِهم، ومن آمن معه منهم، وأهلكَهُم اللَّه تعالى بِرِيحٍ صَرصَرٍ عَاتِيَة.
(4)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 395): إرَمٌ هي قبيلةٌ وأمةٌ منَ الأمم، لم يُخْلَق مثل تلك القَبِيلة في البلادِ، يعني في زَمَانِهِم.
يقول اللَّه تعالى عن اليهُودِ وهم يُهدِّدُونَ الأوسَ والخزْرَجَ بخُرُوج الرسول صلى الله عليه وسلم: =