الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَزَايَا السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ
تَجْمَعُ السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ عِدَّةَ مزَايَا تَجْعَلُ دِرَاسَتَهَا مُتْعَةً رُوحِيَّةً وعَقْلِيَّةً وتَارِيخِيَّةً، كمَا تَجْعَلُ هَذ الدِّرَاسَةَ ضَرُورِيَّةً لِعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، والدُّعَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، والمُهْتَمِّينَ بالإِصْلَاحِ الاجْتِمَاعِيِّ، لِيَضْمَنُوا إبْلَاغَ الشَّرِيعَةِ إلَى النَّاسِ بأُسْلُوب يَجْعَلُهُمْ يَرَوْنَ فِيهَا المَثَلَ الأَعْلَى عِنْدَ اضْطِرَابِ السُّبُلِ واشْتِدَادِ العَوَاصِفِ، ولتَتَفَتَّحَ أمَامَ الدُّعَاةِ قُلُوبَ النَّاسِ وأفْئِدَتَهُمْ، ويَكُونَ الإصْلَاحُ الذِي يَدْعُو إلَيْهِ المُصْلِحُونَ، أقْرَبَ نَجَاحًا وأكْثَرَ سَدَادًا.
*
ونُجْمِلُ فِيمَا يَلِي أبْرَزَ مَزَايَا السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ:
أوَّلًا: إنَّها أصَحُّ سِيرَةٍ لِتَارِيخِ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أوْ عَظِيمٍ مُصْلحٍ فَقَدْ وَصَلَتْ إلَيْنَا سِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أصَحِّ الطُّرُقِ العِلْمِيَّةِ وأقْوَاهَا ثُبُوتًا، مِمَّا لا يَتْرُكُ مَجَالًا لِلشَّكِّ في وَقَائِعِهَا البَارِزَةِ وأحْدَاثِهَا الكُبْرَى، ومِمَّا يُيَسِّرُ لَنَا مَعْرِفَةَ مَا أُضِيفَ إلَيْهَا في العُصُورِ المُتَأَخِّرَةِ مِنْ أحْدَاثٍ أوْ مُعْجِزَاتٍ أوْ وَقَائِعَ أَوْحَى بِهَا العَقْلُ الجَاهِلُ الرَّاغِبُ في زِيَادَةِ إضْفَاءِ الصِّفَةِ المُدْهِشَةِ عَلَى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أكْثَرَ مِمَّا أرَادَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولهِ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ جَلَالِ المَقَامِ وقُدْسِيَّةِ الرِّسَالَةِ، وعَظَمَةِ السِّيرَةِ.
قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: . . . فَبِاللَّهِ عَلَيْكَ، إِذَا كَانَ الإِكْثَارُ مِنَ الحَدِيثِ في دَوْلَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، كَانُوا يُمْنَعُونَ مِنْهُ (1)، مَعَ صِدْقِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَعَدَمِ الأَسَانِيدِ، بَلْ هُوَ غَضٌّ لَمْ يُشَبْ، فَمَا ظَنُّكَ بِالإِكْثَارِ مِنْ رِوَايَةِ الغَرَائِبِ وَالمَنَاكِيرِ فِي زَمَانِنَا مَعَ طُولِ الأَسَانِيدِ، وَكَثْرَةِ الوَهْمْ وَالغَلَطِ، فَبِالحَرِيِّ أَنْ نَزْجُرَ القَوْمَ عَنْهُ، فَيَا لَيْتَهُمْ يَقْتَصِرُونَ عَنْ رِوَايَةِ الغَرِيبِ وَالضَّعِيفِ، بَلْ يَرْوُونَ -وَاللَّهِ- المَوْضُوعَاتِ وَالأَبَاطِيلَ، وَالمُسْتَحِيلَ في الأُصُولِ وَالفُرُوعِ، وَالمَلَاحِمِ وَالزُّهْدِ، نَسْأَلُ اللَّه العَافِيَةَ.
فَمَنْ رَوَى ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلَانِهِ، وَغَرَّ المُؤْمِنِينَ، فَهَذَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، جَانٍ عَلَى السُّنَنِ وَالآثارِ، يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أنابَ وَأَقْصَرَ، وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِقٌ، كَفَى بِهِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمعَ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَعْلَمْ، فَلَيَتَوَرَع، وَلْيَسْتَعِنْ بِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى تَنْقِيَةِ مَرْوِيَّاتِهِ، نَسْأَلُ اللَّه العَافِيَةَ (2).
ثَانِيًا: إنَّ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم واضِحَةٌ كُلَّ الوُضُوحِ في جَمِيعِ مَرَاحِلِهَا، مُنْذُ زَوَاجِ أبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِأُمِّهِ آمِنَةَ إلَى وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، فنَحْنُ نَعْرِفُ الشَّيْءَ الكَثِيرَ عَنْ وِلَادَتِهِ، وطُفُولَتِهِ، وشَبَابِهِ، ومَكْسَبِهِ قَبْلَ النُبوَّةِ، ورَحَلَاتِهِ خَارج مَكَّةَ،
(1) كانوا يمنعون من رواية الحديث في خلافة عمر رضي الله عنه لسببين:
1 -
السبب الأول: اتساع الدولة الإِسلامية في زمن عمر رضي الله عنه، فحتى لا ينشغل أهل البلاد المفتوحة بالحديث دون القرآن.
2 -
السبب الثاني: أنهم كانوا يمنعون من رواية الرقائق والمواعظ، دون أحاديث الأحكام والعبادات.
وأخرج نهي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الإقلال في رواية الحديث: ابن ماجه في سننه -رقم الحديث (28) -والحاكم في المستدرك -رقم الحديث (353) - وإسناده صحيح.
(2)
انظر سير أعلام النبلاء (2/ 601 - 602).
إلَى أنْ بَعَثَهُ اللَّهُ رَسُولًا كَرِيمًا، ثُمَّ نَعْرِفُ بِشَكْلٍ أدَقَّ وَأوْضَحَ وأكْمَلَ كُلَّ أحْوَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةً فَسَنَةً، مِمَّا يَجْعَلُ سِيرَتَهُ صلى الله عليه وسلم وَاضِحَةً وُضُوحَ الشَّمْسِ، كمَا قَالَ بَعْضُ النُّقَّادِ الغَرْبِيِّينِ: إنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم هُوَ الوَحِيدُ الذِي وُلدَ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ.
وهَذَا مَا لَمْ يَتيَسَّرْ مِثْلُهُ ولا قَرِيبٌ مِنْهُ لِرَسُولٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ السَّابِقِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، فَمُوسَى عليه السلام لا نَعْرِفُ شَيْئًا قَطُّ عَنْ طفولَتِهِ وشَبَابِهِ وطُرُقِ مَعِيشَتِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، ونَعْرِفُ الشَّيءَ القَلِيلَ عَنْ حَيَاتِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، مِمَّا لا يُعْطِينَا صُورَةً مُكْتَمِلَةً لِشَخْصِيَّتهِ، ومِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ في عِيسَى عليه السلام، وغَيْرِهِمْ مِنَ الأنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا تَذْكُرُهُ مَصَادِرُ السِّيرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أدَقِّ التَّفَاصِيلِ في حَيَاةِ رَسُولنَا صلى الله عليه وسلم الشَّخْصِيَّةِ، كَأَكْلِهِ (1)، وقِيَامِهِ وقعودِهِ (2)، ولبَاسِهِ (3)، وشكلِهِ (4)، . . .
(1) روى الإِمام مسلم في صحيحه -رقم الحديث (2032) عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يَلْعَقُ -أي يلحسُ- أصابعَهُ الثَّلاث من الطعام.
وروى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (5398) عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لا آكُلُ مُتَّكِئًا".
(2)
روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (475) - ومسلم في صحيحه -رقم الحديث (2100) - عن عبّاد بن تميم، عن عمه: أنه رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِيًا في المسجد وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ على الأخرى.
(3)
روى الإِمام أحمد في مسنده -رقم الحديث (7117) - بسند صحيح عن أبي رِمثة قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعليه بُرْدَانِ أخْضَرَانِ.
(4)
روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (3548) - ومسلم في صحيحه -رقم =
وهَيْئَتِهِ، ومَنْطِقِهِ (1) ومُعَامَلَتِهِ لأُسْرَتِهِ (2) ، وتَعَبُّدهِ، وصَلَاتِهِ (3)، ومُعَاشَرَتِهِ لِأَصْحَابِهِ (4)، بَلْ بَلَغَتِ الدِّقَّةُ في رُوَاةِ سِيرَتِهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَذْكُرُوا لنَا عَدَدَ الشَّعَرَاتِ
= الحديث (2347) - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بالطَّوِيلِ البَائِنِ، ولا بالقصيرِ، ولا بالأبيض الأمْهَقِ، ولا بالآدَمِ، ولا بالجَعْدِ القَطَطِ، ولا بالسَّبْطِ.
(1)
المَنْطِقُ: هو الكَلَامُ. انظر لسان العرب (14/ 188).
روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (3568) - ومسلم في صحيحه -رقم الحديث (2493) عن عائشة رضي الله عنها قالت: . . . إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ يَسْرُدُ الحديثَ كَسَرْدِكُمْ.
وروى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (95) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا تَكَلَّمَ بكَلِمَةٍ أعَادَهَا ثلاثًا حتى تُفْهَمَ عَنْهُ.
قال ابن المُنيّر فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (1/ 255): والحقُّ أنَّ هذا يختلِفُ باختِلافِ القَرَائِحِ، فلا عَيْبَ على المُسْتَفِيدِ الذِي لا يَحْفَظُ مِنْ مرَّةٍ إذا اسْتَعَادَ، ولا عُذْرَ للمُفِيدِ إذا لَمْ يُعِدْ بلِ الإعَادَةُ عليه آكَدُ منَ الابْتِدَاءِ؛ لأنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ.
(2)
روى الإِمام أحمد في المسند بسند جيدٍ -رقم الحديث (26277) - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعضِ أسْفَاره وأنا جَاريةٌ لم أحْمِلِ اللَّحْمَ ولم أبْدُنْ، فقال صلى الله عليه وسلم للناس:"تَقَدَّمُوا"، فتقدَّموا، ثم قال لي:"تَعَالَي حتَّى أُسَابِقَكِ". فسَابَقْتُهُ فسَبَقْتُهُ، فسَكَتَ عَنِّي، حتى إذا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وبَدُنْتُ ونَسِيتُ، خرجتُ معهُ في بَعْضِ أسْفَاره، فقال صلى الله عليه وسلم للناسِ:"تقَدَّمُوا" فتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قال:"تَعَاليْ حتى أُسَابِقَكِ"، فسَابَقْتُهُ، فسَبَقَنِي، فجعَلَ يَضْحَكُ، وهُوَ يَقُولُ:"هذِهِ بِتلْكَ".
(3)
روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (1130) - ومسلم في صحيحه -رقم الحديث (2819) - عن المغيرة بن شعبة زقوله قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى حتى انتفَخَتْ قدَمَاهُ، فقِيلَ لهُ: أتكَلَّفُ هذا؟ وقَدْ غفرَ اللَّه لك ما تَقَدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ. قال: "أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا".
(4)
روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (6129) - ومسلم في صحيحه -رقم =
البِيضِ في رَأْسِهِ ولحْيَيهِ (1) صلى الله عليه وسلم.
ثَالِثًا: إنَّ سِيرَةَ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْكِي سِيرَةَ إنْسَانٍ أكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بالرِّسَالَةِ، فَلَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ إنْسَانِيَّتهِ، فَقَدْ تَزَوَّجَ وطَلَّقَ، ورَضِيَ وغَضِبَ، وبَاعَ واشْترَى، هُوَ إنْسَانٌ بِكُلِّ ما في هَذِهِ الكَلِمَةِ مِنْ مَعْنًى يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ أرَادَ ذَلِكَ، ولَمْ تَلْحَقْ حَيَاتَهُ صلى الله عليه وسلم بِالأسَاطِيرِ، ولَمْ تُضِفْ عَليْهِ الألوهِيَّةَ قَلِيلا ولا كَثِيرًا، وإذَا قَارَنَّا هَذَا بِمَا يَرْوِيهِ المَسِيحِيُّونَ عنْ سِيرَةِ عِيسَى عليه السلام، ومَا يَرْوِيهِ البُوذِيُّونَ عَنْ بُوذَا، والوَثَنِيُّونَ عنْ آلِهَتِهِمْ المَعْبُودَةِ، اتَّضَحَ لنَا الفَرْقُ جَلِيًّا بَيْنَ سِيرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وسِيرَةِ هَؤُلَاءِ، ولذَلِكَ أَثَرٌ بَعِيدُ المَدَى في السُّلُوكِ الإنْسَانِيِّ والاجْتِمَاعِيِّ لِأَتباعِهِمْ، فَادِّعَاءُ الألُوهِيَّةِ لِعِيسَى عليه السلام، ولبُوذَا جَعَلَهُمَا أبْعَدَ مَنَالًا مِنْ أنْ يَكُونَا قُدْوَةً نَمُوذَجِيَّةً للإنْسَانِ في حَيَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ والاجْتِمَاعِيَّةِ، بَيْنَمَا ظَلَّ وسَيَظَلُّ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم المَثَلَ النَّمُوذَجِيَّ الإنْسَانِيَّ الكَامِلَ لِكُلِّ مَنْ أرَادَ أنْ يَعِيشَ سَعِيدًا كَرِيمًا في نَفْسِهِ وأُسْرَتِهِ وبِيئَتِهِ، ومِنْ هُنَا يقُولُ اللَّهُ
= الحديث (2150) - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إنْ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حتى يَقُولَ لأَخٍ لي صَغِيرٍ: "يا أبات عُمَيْر ما فَعَل النُّغَيْر".
وروى الإِمام أحمد في المسند -رقم الحديث (8481) - والترمذي في جامعه -رقم الحديث (2108) بسند قوي- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول اللَّه، إنَّك تُدَاعِبُنَا، قال:"إنِّي لا أقُولُ إلَّا حَقًّا".
(1)
روى الإِمام أحمد في المسند -رقم الحديث (12690) - وابن حبان في صحيحه -رقم الحديث (6293) بسند صحيح- عنٍ أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما عَدَدْتُ في رأسِ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولحْيَتهِ، إلَّا أرْبَع عَشْرَةَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ.
تَعَالَى في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1).
رَابِعًا: إنَّ سِيرَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم شَامِلَةٌ لِكُلِّ النَّوَاحِي الإنْسَانِيَّةِ في الإنْسَانِ، فَهِيَ تَحْكِي لنَا سِيرَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الشَّابِّ الأمِينِ المُسْتَقِيمِ قَبْلَ أنْ يُكْرِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّسَالِةِ، كمَا تَحْكِي لَنَا سِيرَةَ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم الدَّاعِيَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى المُتَلَمِّسِ أجْدَى الوَسَائِلِ لِقَبُولِ دَعْوتهِ، البَاذِلِ مُنْتَهَى طَاقَتِهِ وجُهْده في إبْلَاغِ رِسَالَتِهِ، كمَا تَحْكِي لنَا سِيرَتَهُ صلى الله عليه وسلم كَرَئِيسِ دَوْلَةٍ يَضَعُ لِدَوْلَتِهِ أقْوَمَ النُّظُمِ وأصَحَّهَا، ويَحْمِيَهَا بِيَقْظَتِهِ وإخْلَاصِهِ وصِدْقِهِ بمَا يَكْفُلُ لَهَا النَّجَاحَ، كمَا تَحْكِي لنَا سِيرَةَ الرَّسُولِ الزَّوْجِ والأَبِ في حُنُوِّ العَاطِفَةِ، وحُسْنِ المُعَامَلَةِ، والتَّمْيِيزِ الوَاضِحِ بَيْنَ الحُقُوقِ والوَاجِبَاتِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ والأوْلَادِ، كمَا تَحْكِي لَنَا سِيرَةَ الرَّسُولِ المُرَبِّي المُرْشِدِ الذِي يُشْرِفُ عَلَى تَرْبِيَةِ أصْحَابِهِ تَرْبِيَةً مِثَالِيَّةً يَنْقُلُ مِنْ رُوحِهِ إلَى أرْوَاحِهِمْ، ومِنْ نَفْسِهِ إلَى نُفُوسِهِمْ، ما يَجْعَلُهُمْ يُحَاوِلُونَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ في دَقِيقِ الأُمُورِ وكَبِيرِهَا، كمَا تَحْكِي لنَا سِيرَةَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم الصَّدِيقِ الذِي يَقُومُ بِوَاجِبَاتِ الصُّحْبَةِ، ويَفِي بِالْتِزَامَاتِهَا وآدابِهَا، مِمَّا يَجْعَلُ أصْحَابَهُ يُحِبُّونَهُ كَحُبِّهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ (2) وأكْثَرَ مِنْ حُبِّهِمْ لِأَهْلِيهِمْ وأقْرِبَائِهِمْ، وسِيرَتُهُ صلى الله عليه وسلم تَحْكِي لنَا
(1) سورة الأحزاب آية (21).
(2)
روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (6332) - عن عبد اللَّه بن هشام قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، فقال له عُمَرُ رضي الله عنه: يا رسولَ اللَّه لأنْتَ أحَبُّ إليّ منْ كُلِّ شَيءٍ، إلا نَفْسِي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذِي =
سِيرَةَ المُحَارِبِ الشُّجَاعِ، والقَائِدِ المُنْتَصِرِ، والسِّيَاسِيِّ النَّاجِحِ، والجَارِ الأمِينِ، والمُعَاهِدِ الصَّادِقِ.
وخُلَاصَةُ القَوْلِ: إِنَّ سِيرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ النَّوَاحِي الإنْسَانِيَّةِ في المُجْتَمَعِ، مِمَّا يَجْعَلُهُ القُدْوَةَ الصَّالِحَةَ لِكُلِّ دَاعِيَةٍ، وكُلِّ قَائِدٍ، وكُلِّ أبٍ، وكُلِّ زَوْجٍ، وكُلِّ صَدِيقٍ، وكُلِّ مُرَبِّي، وكُلِّ سِيَاسِيٍّ، وكُلِّ رئيسِ دَوْلَةٍ، وهَكَذَا. . .
خَامِسًا: إِنَّ سِيرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُعْطِينَا الدَّلِيلَ الذي لَا رَيْبَ فِيهِ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ ونُبُوَّتِهِ، إنَّهَا سِيرَةُ إنْسَانٍ كَامِل سَارَ بِدَعْوَتِهِ مِنْ نَصْرٍ إلَى نَصْرٍ، لَا عَلَى طَرِيقِ الخَوَارِقِ والمُعْجِزَاتِ، بلْ عَنْ طَرِيقٍ طَبِيعِيٍّ بَحْتٍ، فَلَقَدْ دَعَا فَأُوذِيَ، وبَلَّغَ فَأَصْبَحَ لَهُ الأنْصَارُ، واضْطر إلَى الحَرْبِ فَحَارَبَ، وكَانَ حَكِيمًا، مُوَفَّقًا في قِيَادَتِهِ، فَمَا أزِفَتْ سَاعَةُ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، إلَّا كَانَتْ دَعْوَتُهُ تَلُفُّ الجَزِيرَةَ العَرَبِيَّةَ كُلَّهَا عَنْ طَرِيقِ الإِيمَانِ، لا عَنْ طَرِيقِ القَهْرِ والغَلَبَةِ، ومَنْ عَرَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ العَرَبُ مِنْ عَادَاتٍ وعَقَائِدَ ومَا قَاوَمُوا بِهِ دَعْوَتَهُ مِنْ شَتَّى أنْوَاعِ المُقَاوَمَةِ حَتَّى تَدْبِيرِ اغْتِيَالِهِ، ومَنْ عَرَفَ عَدَمَ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُحَارِبِيهِ في كُلِّ مَعْرَكَةٍ انْتَصَرَ فِيهَا، ومَنْ عَرَفَ قِصَرَ المُدَّةِ التِي اسْتَغْرَقتهَا رِسَالتهُ حتَّى وَفَاتِهِ، وهِيَ ثَلَاثٌ وعِشْرُونَ سَنَةً، أيْقَنَ أنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وأنَّ ما كَانَ يَمْنَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى
= نَفْسِي بِيَدِهِ حتَّى أكُونَ أحبُّ إليكَ مِنْ نَفْسِكَ"، فقال عمر رضي الله عنه: فأنَّه الآنَ واللَّهِ لَأَنْتَ أحَبُّ إليّ مِنْ نَفْسِي، فقال لهُ النبي صلى الله عليه وسلم: "الآنَ يا عُمَرُ".
مِنْ ثَبَاتٍ وَقُوَّةٍ وتَأْثِيم ونَصْرٍ لَيْسَ إلَّا لأنَّهُ نَبِيٌّ حَقًّا، ومَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أنْ يُؤَيِّدَ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ هذَا التَّأيِيدَ الفَرِيدَ في التَّارِيخِ، فَسِيرَةُ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُثْبِتُ لَنَا صِدْقَ رِسَالَتِهِ عنْ طَرِيقٍ عَقْلِيٍّ بَحْتٍ، وما وَقَعَ لَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ المُعْجِزَاتِ لمْ يَكُنْ الأسَاسَ الأوَّلَ في إيمَانِ العَرَبِ بِدَعْوَتِهِ، بلْ إنَّا لا نَجِدُ لهُ مُعْجِزَةً آمَنَ مَعَهَا الكُفَّارُ المُعَانِدُونَ، عَلَى أنَّ المُعْجِزَاتِ المَادِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ شَاهَدَهَا، ومِنَ المُؤَكَّدِ أنَّ المُسْلِمِينَ الذِينَ لَمْ يَرَوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، ولَمْ يُشَاهِدُوا مُعْجِزَاتِهِ، إنَّمَا آمَنُوا بِصِدْقِ رِسَالَتهِ لِلْأَدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ القَاطِعَةِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ، ومِنْ هَذِهِ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ: القُرْآنُ الكَرِيمُ، فإنَّهُ مُعْجِزَةٌ عَقْلِيَّةٌ، تُلْزِمُ كُلَّ عَاقِلٍ مُنْصِفٍ أنْ يُؤْمِنَ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في دَعْوَى الرِّسَالَةِ. . .
ومِنْ هُنَا نرى هَذِهِ المِيزَةَ الوَاضِحَةَ في سِيرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ مَا آمَنَ بِهِ واحِدٌ عنْ طَرِيقِ مُشَاهَدَتِهِ لِمُعْجِزَةٍ خَارِقَةٍ، بَلْ عَنِ اقْتِنَاع عَقْلِيِّ وُجْدَانِيٍّ، وإذَا كانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أكْرَمَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِالمُعْجِزَاتِ الخَارِقَةِ، فمَا ذَلِكَ إلَّا إكْرَامٌ له صلى الله عليه وسلم وإفْحَامٌ لِمُعَانِدِيهِ المُكَابِرِينَ، ومَنْ تتبَّعَ القُرْآنَ الكَرِيمَ وجَدَ أنَّهُ اعْتَمَدَ في الإِقْنَاعِ عَلَى المُحَاكَمَةِ العَقْلِيَّةِ، والمُشَاهَدَةِ المَحْسُوسَةِ لِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى، والمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمِّيَّةٍ تَجْعَلُ إتْيَانَهُ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم (1).
* * *
(1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة دروس وعبر للدكتور مصطفى السباعي ص 15 - 23.