الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَصَائِصَ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ
قَبْلَ أَنْ نَدخُلَ فِي أَمرِ الهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، نتكَلَّمُ عَنْ خَصَائِصِ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ أَوَّلًا.
كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اخْتِيَارِ المَدِينَةِ دَارًا لِلْهِجْرَةِ، وَمَرْكَزًا لِلدَّعوَةِ، عَدَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِكْرَامِ أَهْلها، وَأَسْرَار لَا يَعلَمُها إِلَّا اللَّهُ أُمُورٌ، مِنْهَا:
1 -
أَنَّهَا امْتَازَتْ بِتَحَصُّنٍ طَبِيعِيٍّ حَربِيٍّ، لَا تُزَاحِمُها فِي ذَلِكَ مَدِينَةٌ قَرِيبَةٌ فِي الجَزِيرَةِ، فكَانَتْ حَرَّةُ (1) الوَبْرَةِ مُطْبِقَةً عَلَى المَدِينَةِ مِنَ النَّاحِيَةِ الغَرْبِيَّةِ، وَحَرُّة وَاقِمٍ مُطْبِقَةً عَلَى المَدِينَةِ مَنَ النَّاحِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَكَانَتِ المَنْطِقَةُ الشَّمَالِيَّةُ مِنَ المَدِينَةِ، هِيَ النَّاحِيَةَ الوَحِيدَةُ المَكْشُوفَةُ (2).
2 -
كَانَتِ الجِهاتُ الأُخْرَى مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ مُحَاطَةً بِأَشْجَارِ النَّخِيلِ، وَالزُّرُوعِ الكَثِيفَةِ، لَا يَمُرُّ مِنْهَا الجَيْشُ إِلَّا فِي طُرُقٍ ضَيِّقَةٍ، لَا يَتَّفِقُ فِيهَا النِّظَامُ
(1) الحَرَّةُ: هي الأرضُ ذاتُ الحِجَارة السُّود، يمتنع فيها المَشْي بالأقدام، ومشي الإبل والخيل، فضلًا عن مُرُور الجيش. انظر النهاية (1/ 351).
(2)
وهي التي حَصَّنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالخندَق سنة خمس من الهجرة في غزوة الخندق، كما سيأتي عند الحديث عن غزوة الخندق.
العَسْكَرِيُّ وَتَرْتِيبُ الصُّفُوفِ.
3 -
كَانَتْ خَفَارَاتٌ عَسْكَرِيَّةٌ صَغِيرَةٌ، كَافِيَةً لإِفْسَادِ النِّظَامِ العَسْكَرِيِّ، وَمَنْعِهِ مِنَ التَّقَدُّمِ، يَقُولُ ابنُ إِسْحَاقَ: كَانَ أَحَدُ جَانِبَيِ المَدِينَةِ عَوْرَةً وَسَائِرُ جَوَانِبِهَا مُشَكَّكَةً بِالبُنْيَانِ وَالنَّخِيلِ، لَا يَتَمَكَّنُ العَدُوُّ مِنْهَا.
وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الحِكْمَةِ الإِلهِيَّةِ في اخْتِيَارِ المَدِينَةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ قَبْلَ الهِجْرَةِ: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابتَيْنِ (1) " -وَهُمَا الحَرَّتَانِ- فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَل المَدِينَةِ.
4 -
كَانَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ أَصْحَابَ نَخْوَةٍ (2) وَإِبَاءٍ (3) وَفُرُوسِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ، وَشَكِيمَةٍ (4)، ألِفوا الحُرِّيَّةَ، وَلمْ يَخْضَعُوا لِأَحَدٍ، وَلمْ يَدْفعُوا إِلَى قَبِيلَةٍ أَوْ حُكُومَةٍ إِتَاوَةً (5) أَوْ جِبَايَةً (6)، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا في الكَلِمَةِ التِي قَالَهَا سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه سَيِّدُ الْأَوْسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ: قَدْ
(1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الكفالة - باب جوار أبي بكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعقده - رقم الحديث (2297) - وكتاب المناقب - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905).
(2)
يُقال: رجل فيه نَخْوَة: أي أنَفَة وحَمِيَّة وكِبْرٌ. انظر النهاية (5/ 29).
(3)
الإبَاء: هو أشدُّ الامتناع. انظر النهاية (1/ 24).
(4)
يُقال: فلان شديد الشَّكِيمَةِ إذا كان عزِيزَ النفس أبِيًّا قَوِيًّا. انظر النهاية (2/ 444).
(5)
الإتَاوَةُ: الرشوَةُ والخَرَاج. انظر لسان العرب (1/ 67).
(6)
الجِبَايَةُ: هي استخراجُ الأموالِ من مَظَانِّها. انظر لسان العرب (2/ 174).
كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ القَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَمْرَةً إِلَّا قِرًى (1) أَوْ بَيْعًا (2).
وَجَاءَ في العِقْدِ الفَرِيدِ: وَمِنَ الأَزْدِ الأَنْصَارُ، وَهُمُ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ، وَهُمَا ابْنَا حَارِثَةَ بنِ عَمْرِو بنِ عَامِرٍ، وَهُمْ أَعزُّ النَّاسِ أَنْفُسًا، وَأَشْرَفُهُمْ هِمَمًا، وَلَمْ يُؤَدُّوا إِتَاوَةً قَطُّ إِلَى أَحَدِ المُلُوكِ (3).
فكَانَتِ المَدِينَةُ -لِكُلِّ ذَلِكَ- أَصْلَحَ مَكَانٍ لهِجْرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَاتِّخَاذِهِمْ لَهَا دَارًا وَقَرَارًا، حَتَّى يَقْوَى الإِسْلَامُ، وَيَشُقَّ طَرِيقَهُ إِلَى الأَمَامِ، وَيَفْتَحَ الجَزِيرَةَ، ثُمَّ يَفْتَحَ العَالَق المُتَمَدِّنَ (4).
* * *
(1) القِرَى: ما يُصنع للضيْفِ من الطعام. انظر لسان العرب (11/ 149).
(2)
انظر سيرة ابن هشام (3/ 246).
(3)
انظر العقد الفريد (3/ 297).
(4)
انظر السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي رحمه اللَّه تعالى ص 158.