الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ إنَّهُمَا حَضَرَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، وقَدَّمَا لَهُ الهَدَايَا، وكَانَ فِيهَا أُدْمٌ كَثِيرٌ وفَرَسٌ، وَجُبَّةُ دِيبَاجٍ، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالَا لَهُ: أيُّهَا المَلِكُ! إِنَّهُ قَدْ ضَوَى إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وجَاؤُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وأعْمَامِهِمْ وعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأْعَلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وعَاتَبُوهُمْ فِيهِ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقَا أيُّهَا المَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وقَوْمِهِمْ.
فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ كَلَامَهُمْ، وَحَلَفَ ألَّا يُسَلِّمَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ وإِلَى بِلَادِهِ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ، فَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أمْرِهِمْ.
*
إِحْضَارُ النَّجَاشِيِّ لِلْمُسْلِمِينَ وسُؤَالُهُمْ:
ثُمَّ أرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى أصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ودَعَاهُمْ، فَحَضَرُوا، وكَانُوا قَدْ أجْمَعُوا عَلَى صِدْقِهِ (1) فِيمَا سَاءَهُ، وسَرَّهُ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ.
(1) قال الحافظ ابن كثير فِي تفسيره (4/ 233) فِي قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (سورة التوبة آية 119)، قال: أي اصدُقُوا والْزَمُوا الصِّدق تكُونوا معَ أهلهِ، وتَنْجوا من المَهَالك، ويجعل لكم فَرَجًا من أمُوركُمْ، ومَخْرجًا.
وروى الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (6094) - والإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2607) - عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بالصِّدْق، فإن الصدق يَهْدِي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يَهدِي إلى الجنةِ، وما يزال الرَّجلُ يَصدقُ ويتحرى الصدق حتَّى يُكتبَ عِندَ اللَّه صِدِّيقًا"
فَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: مَا هَذَا الدِّينُ الذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي، وَلَا دِينِ أَحَدٍ مِنَ المِلَلِ؟
فتَوَلَّى الكَلَامَ عَنِ الصَّحَابَةِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه (1)، فَقَالَ لَهُ: أيُّهَا المَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأصْنَامَ، ونَأْكُلُ المَيْتَةَ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ، ونَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الجِوَارَ، ويَأْكُلُ القَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ.
فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولَا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وصِدْقَهُ، وأمَانَتَهُ وعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ، لِنوحِّدَهُ ونَعْبُدَهُ، ونَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ والأَوْثَانِ، وأمَرَنَا بِصِدْقِ الحَدِيثِ، وأدَاءِ الأمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وحُسْنِ الجِوَارِ، والكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ والدِّمَاءِ، ونَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ، وقَوْلِ الزُّورِ، وأَكْلِ مَالِ اليَتِيمِ، وقَذْفِ المُحْصَنَاتِ (2)، وأمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّه وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ (3)، والزَّكَاةِ (4) وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، واتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ، فَعَبَدْنَا اللَّه
(1) قال أبو نعيم فِي الحلية (1/ 160): ومنهم الخَطِيبُ المِقْدَامُ، السَّخِيُّ المِطْعَامُ، خَطِيبُ العارفينَ، ومُضِيفُ المَسَاكِين، ومُهَاجرُ الهجرتينِ، ومُصَلِّي القبلتين، البَطَلُ الشُّجَاعُ الجَوَادُ الشَّعْشَاعُ، جَعْفَرُ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه فَارِقُ الخَلْقِ، ورَامِقُ الحَقِّ.
(2)
المحصنات: العفائف من النساء. انظر لسان العرب (3/ 209).
(3)
قولُ جعفرَ للنَّجاشِيِّ رضي الله عنهما: وأمَرَنا بالصلاةِ، أي الصَّلاة التي كانت قَبْلَ فَرْضِ الصلوات الخمسِ في الإسراءِ والمِعْراج، وقد بَيَّنْتُ ذلكَ فِي بِدَايةِ أمْرِ البِعْثَةِ، فراجِعْهُ.
(4)
وقوله رضي الله عنه: الزَّكَاةُ، أَرادَ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ؛ لأنَّ زكاةَ المَالِ إِنَّمَا فُرِضَتْ بالمدِينَةِ.
وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شيْئًا، وَحَرَّمْنا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وأحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُونَا وفتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لَيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ، واخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، ورَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، ورَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أيُّهَا المَلِكُ (1).
فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ رضي الله عنه: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ، فَبَكَى النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضلَّتْ (2) لِحْيَتُهُ، وبَكَتْ أسَاقِفَتُهُ (3)، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ جَعْفَرُ رضي الله عنه، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ رضي الله عنه: إِنَّ هَذَا
(1) قال الشيخُ أَبُو الحسنِ النَّدْوي فِي كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة، ص 134: إِنَّ كلامَ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمامَ مَلِك الحَبَشَةِ، وتصوِيرَهُ للإسْلام، كلامُ حَكِيمٍ قد جَاءَ فِي أوَانِهِ ومَكانِهِ، وقدْ دَلَّ على بلاغةِ صَاحبِهِ العَقْلِيَّةِ، قبلْ أن يدُلَّ على بلاغَتِهِ العَرَبِيَّةِ البَيَانِيَّةِ، ولا يعَلَّلُ ذلكَ إِلَّا بالإلهَامِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وتأيِيدِ هذَا الدِّينِ الذي أَرادَ اللَّه أَنْ يُتِمَّ نُوره، وأن يُظْهِره على كُل دِين، ويدلُّ كذلك على سَلامةِ الفِطْرَةِ، ورَجَاحَةِ العقلِ، اللَّتَيْنِ فَاقَ فيهما بنو هاشم قريشًا، وفاقت فيهما قريش العرب كلهم، فقد فضّل جعفر رضي الله عنه أن يكون جوابه حِكايةَ حَالٍ لِمَا كان عليهِ أهلُ الجاهليةِ فِي الجزيرةِ العَرَبيةِ، ولمَا آلَ إليه أمرُهُم بعدما أرسل اللَّه تَعَالَى رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم، ودعا إلى اللَّه تَعَالَى وإلى الدِّين الحنيفِ السَّمْحِ، ومكارِمِ الأخلاقِ، وآمَنُوا بهِ واتَّبَعُوهُ، وحِكايةُ الحَالِ -خُصُوصًا إذا لم يُجَانِبْ فيه صاحِبُهَا الصَّوَابَ- أبعدُ شيءٍ عنِ المُنَاقشةِ والمُنَاظرَةِ، وأقدرُ شَيْءٍ على غَرْسِ المعاني المَقْصُودةِ، وتحقيقِ الأهداف المَنْشُودة، والتَّهَيُّؤِ للتأمُّلِ والإنصَافِ وحُسْنِ الاستِمَاعِ.
(2)
اخضَلَّتْ: أي ابْتَلَّتْ. انظر النهاية (2/ 42).
(3)
الأسَاقِفَةُ: جمعُ أُسُقُفٍ بِضمِّ الهمزةِ وهُم علماءُ النصارى. انظر النهاية (2/ 341).