الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وأجَابُوهُ إِلَى ما دَعاهُمْ إِلَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَمِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ في ذَلِكَ قَصِيدَةً يَمْدَحُهُمْ، ويُحَرِّضُهُمْ عَلَى مَا وافَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الحَدْبِ (1) عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والنُّصْرَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مِنْهَا:
إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ
…
فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّها، وصَمِيمُهَا
وَإِنْ حُصِّلَتْ أشْرافُ عَبْدِ مَنَافِهَا
…
فَفِي هَاشِمٍ أشْرافُهَا، وقَدِيمُهَا
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا
…
هُوَ المُصْطَفَى مِنْ سِرِّهَا وكَرِيمِهَا
تَداعَتْ قُرَيْشٌ غَثُّهَا وسَمِينُهَا
…
عَلَيْنا فَلَمْ تَظْفَرْ، وَطَاشَ حُلُومُهَا (2)
*
مُحَاوَلَةُ الطُّغَاةِ اغْتِيَالَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم
-:
وبَعْدَ فَشَلِ مُفَاوَضَاتِ قُرَيْشٍ مَعَ أَبِي طَالِبٍ، اشْتَدَّ مَكْرُ زُعَمَائِهَا، وأجْمَعُوا عَلَى قتلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ مَساءُ اللَّيْلَةِ التِي عَرَضُوا فِيهَا عُمارَةَ بنَ الوَليدِ عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فُقِدَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم، وجاءَ أَبُو طَالِبٍ وعُمُومَتُهُ إِلَى مَنْزِلهِ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ فِتْيانًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وبَنِي المُطَّلِبِ ثُمَّ قَالَ: لِيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ حَدِيدَةً صَارِمَةً، ثُمَّ لِيَتْبَعْنِي إِذَا دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ كُلُّ فَتًى مِنْكُمْ فَلْيَجْلِسْ إِلَى عَظِيمٍ مِنْ عُظَمائِهِمْ فِيهِمْ ابنُ الحَنْظَلِيَّةِ، يَعْنِي أبا جَهْلٍ، فَإِنَّهُ
(1) الحَدْبُ: العَطْفُ. انظر النهاية (1/ 337).
(2)
انظر سيرة ابن هشام (1/ 306).
لَمْ يَغِبْ عَنْ شَرٍّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ.
فَقَالَ الفِتْيانُ: نَفْعَلُ، فَجاءَ زَيْدُ بنُ حارِثَةَ رضي الله عنه فَوَجَدَ أبَا طَالِبٍ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، فَقَالَ: يا زَيْدُ: أحْسَسْتَ ابنَ أخِي؟ قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ مَعَهُ آنِفًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: لا أدْخُلُ بَيْتيَ أبَدًا حَتَّى أراهُ، فَخَرَجَ زَيْدٌ سَرِيعًا حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهُوَ فِي دَارِ الأَرْقَمِ، ومَعَهُ أصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ، فأخْبَرَهُ الخَبَرَ، فَجاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: يا ابْنَ أخِي أيْنَ كُنْتَ؟ أَكُنْتَ في خَيْرٍ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قَالَ: ادْخُلْ بَيْتَكَ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أصْبَحَ أَبُو طَالِبٍ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَوَقَفَ بِهِ عَلَى أنْدِيَةِ قُرَيْشٍ، ومَعَهُ الفِتْيانُ الهَاشِمِيُّونَ والمُطَّلِبِيُّونَ، فَقَالَ: يا مَعْشَرَ قُريْشٍ هَلْ تَدْرُونَ ما هَمَمْتُ بِهِ؟ قَالُوا: لا، فَأَخْبَرَهُمُ الخَبَرَ، وَقَالَ لِلْفِتْيَانِ: اكْشِفُوا عَمَّا في أيْدِيكُمْ، فكشَفُوا، فإذا كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَعَهُ حَدِيدَةٌ صَارِمَةٌ، فَقَالَ: واللَّهِ لَوْ قَتَلْتُمُوهُ ما بَقيت مِنْكُمْ أحَدًا حَتَّى نَتَفَانَى نَحْنُ وأنْتُمْ، فانْكَسَرَ القَوْمُ، وَكَانَ أشَدُّهُمُ انْكِسارًا أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى (1).
ورَوى البَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ تَوَاصَوْا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَقْتُلُوهُ، مِنْهُمْ: أَبُو جَهْلٍ، والوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ، وَنفَرٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا سَمِعُوا قِراءَتَهُ أرْسَلُوا الوَليدَ لِيَقْتُلَهُ، فانْطَلَقَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى المَكَانِ الذِي كَانَ يُصَلِّي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، فَجَعَلَ يَسْمَعُ قِراءتَهُ وَلَا يَراهُ، فانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، فأَتَاهُ أَبُو
(1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لأبي سعد (1/ 97).
جَهْلٍ، والْوَلِيدُ، ونَفَرٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى المَكَانِ الذِي هُوَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي سَمِعُوا قِراءَتَهُ، فَيَذْهَبُونَ إِلَى الصَّوْتِ فَإِذا الصَّوْتُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَيَنتهُونَ إِلَيْهِ فَيَسْمَعُونَ أَيْضًا مِنْ خَلْفِهِمْ، فانْصَرَفُوا وَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَذَلِكَ قَوْلهُ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (1).
وَلَمْ تَزَلْ فِكْرَةُ اغْتِيالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَزْدادُ في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، رَوَى ابْنُ إسْحَاقَ وغَيْرُهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَبَى إِلَّا ما تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وشَتْمِ آبَائِنَا، وتَسْفِيهِ أحْلامِنَا، وشَتْمِ آلِهَتِنَا، وإنِّي أُعاهِدُ اللَّه لَأَجْلِسَنَّ لَهُ غَدًا بِحَجَرٍ ما أُطِيقُ حَمْلَهُ، فَإِذا سَجَدَ فِي صَلاتِهِ فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ، فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوِ امْنَعُونِي، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنافٍ مَا بَدَا لَهُمْ، فَقَالُوا: واللَّهِ ما نُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أبَدًا، فامْضِ لِمَا تُرِيدُ.
فَلَمَّا أصبَحَ أَبُو جَهْلٍ أخَذَ حَجَرًا كَمَا وَصَفَ، ثُمَّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنتظِرُهُ، وَغَدا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا كَانَ يَغْدُو، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ وَقِبْلَتُهُ إِلَى الشَّامِ، فَكَان إِذَا صَلَّى صَلَّى بَيْنَ الرّكْنِ اليَمانِيِّ والحَجَرِ الأَسْوَدِ، وجَعَلَ الكَعْبَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّامِ، فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ فَجَلَسُوا في أنْدِيَتهِمْ يَنتظِرُونَ ما أَبُو جَهْلٍ فَاعِلٌ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَمَلَ
(1) سورة يس آية (9)، والخبر في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 196).
أَبُو جَهْلٍ الحَجَرَ، ثُمَّ أقبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَقِعًا (1) لَوْنُهُ مَرْعُوبًا، قَدْ يَبِسَتْ يَداهُ عَلَى حَجَرِهِ، حَتَّى قَذَفَ الحَجَرَ مِنْ يَدِهِ، وقَامَتْ إِلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: مالَكَ يَا أبَا الحَكَمِ؟ قَالَ: قُمْتُ إِلَيْهِ لِأَفْعَلَ بِهِ ما قُلْتُ لَكُمُ البَارِحَةَ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنَ الإِبِلِ، لا واللَّهِ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هامَتِهِ (2) وَلَا مِثْلَ قَصَرَتِهِ (3) وَلَا أَنْيابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي.
قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ذَلِكَ جِبْرِيلُ عليه السلام لَوْ دَنَا لَأَخَذَهُ"(4).
* * *
(1) مُنْتَقِع: متغير. انظر لسان العرب (14/ 267).
(2)
الهَامَةُ: الرَّأسُ. انظر لسان العرب (15/ 162).
(3)
القَصَرَةُ: أصلُ العُنُقِ. انظر لسان العرب (11/ 189).
(4)
انظر سيرة ابن هشام (1/ 335) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 206) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 190).