الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسَالِيبُ قُرَيْشٍ في مُحَارَبَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ودَعْوَتِهِ
لَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَمِرٌّ فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ، لا يَصْرِفُهُ عَنْ دَعْوَتهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ، فَكَّرُوا مَرَّةً أخْرَى، واخْتَارُوا لِقَمْعِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ أسَالِيبَ مِنْهَا:
1 -
إثَارَةُ الشُّبُهَاتِ حَوْلَ مَصْدَرِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وبَثُّ الدِّعَاياتِ الكاذِبَةِ، ونَشْرُ الإيرَاداتِ الوَاهِيَةِ حَوْلَ تَعَالِيمِهِ، وحَوْلَ شَخْصِيَّتهِ صلى الله عليه وسلم، والإكثارُ مِنْ ذَلِكَ بِحَيثُ لا يَبْقَى لِلْعَامَّةِ مَجَالٌ في تَدَبُّرِ دَعْوَتِهِ، فكانُوا يَقُولُونَ {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} (1)، وكانُوا يَقُولُونَ عنِ القُرْآن:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2)، {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (3)، وكانُوا يَقُولُونَ عَنْ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (4).
قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: كَانَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنِي- كَثِيرًا ما يَجْلِسُ عِنْدَ
(1) سورة النحل آية (103).
(2)
سورة الفرقان آية (5).
(3)
سورة الفرقان آية (4).
(4)
سورة الفرقان آية (7).
المَرْوَةِ إلى مَبْيَعَةِ غُلامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقالُ لهُ: جَبْرٌ، عَبْدٌ لابنِ الحَضْرَمِيِّ، فكانُوا يقُولُونَ: واللَّهِ ما يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مما يأتِي بهِ إلا جَبْرٌ النَّصْرَانِيُّ، غُلامُ ابنِ الحَضْرَمِيِّ، فأنزلَ اللَّهُ في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمْ:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (1).
قَالَ ابنُ هِشَامٍ: يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ: أي يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، والإلْحَادُ: المَيْلُ عَنِ الحَقِّ (2).
2 -
من أسَالِيبِهِمْ أَيْضًا: مُعَارَضَةُ القُرْآنِ بأسَاطِيرِ الأوَّلينَ لإِشْغَالِ النَّاسِ بها عَنْهُ، فقدْ ذُكِرَ أَنَّ النَّضْرَ بنَ الحَارِثِ (3) وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيشٍ، ومِمَّنْ يُؤْذِي رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويَنْصُبُ لهُ العَدَاوَةَ، كَانَ قَدِمَ الحِيرَةَ (4)، وتَعَلَّمَ بها أحادِيثَ مُلُوكِ الفُرْسِ، وأحَادِيثَ رُسْتُمٍ، فَكَانَ إِذَا جَلَسَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا
(1) سورة النحل آية (103) - والخبر في سيرة ابن هشام (6/ 2) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة النحل - رقم الحديث (3414) عن ابن عباس رضي الله عنه وإسناده صحيح.
(2)
انظر سيرة ابن هشام (2/ 7).
(3)
هذا الرَّجلُ مِنْ أشَدِّ مَنْ عَانَدَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أُسِر في غَزْوَةِ بدرٍ الكبرى، فَقُتِلَ كافرًا، قتَلَهُ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ رضي الله عنه بأمْرٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(4)
الحِيرَةُ: بكسر الحاء، مدِينةٌ على ثَلاثةِ أمْيَالٍ منَ الكُوفَةِ على مَوْضِعٍ يُقَالُ لهُ النَّجَفُ، كانتْ مَسْكَنَ مُلُوكِ العَرَبِ في الجاهليةِ من زَمَنِ نَضْرٍ ثم لَخْمِ النُّعمانِ وآبائِهِ، وقيل: إنَّما سُمِّيت الحِيرة لأنَّ تُبَّعًا لمَّا أقبلَ بجيوشه فَبَلغَ موضِعَ الحِيرَةِ ضَلَّ دليلُهُ، وتحيَّر فسُمِّيت الحِيرَة. انظر معجم البلدان (3/ 201).
فَذَكَّرَ فيهِ باللَّهِ، وحَذَّرَ قَوْمَهُ ما أصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الأمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، خَلفَهُ في مَجْلِسِهِ إِذَا قَامَ، ثُمَّ قَالَ: أنَا وَاللَّهِ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، وما حَدِيثُهُ إِلَّا أسَاطِيرُ الأوَّلينَ اكْتَتَبَهَا، فَهَلُمَّ إلَيَّ، فأَنَا أُحَدِّثُكُمْ أحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ ورُسْتُمٍ، ثُمَّ يَقُولُ: بِمَاذَا مُحَمَّدٌ أحْسَنُ حَدِيثًا مِنِّي؟ .
قَالَ ابنُ هِشَامٍ: وهُوَ الذِي قَالَ -فِيمَا بَلَغَنِي-: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللَّهُ (1).
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ في النَّضْرِ بنِ الحَارِثِ ثَمَانُ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ: قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (2)، وكُلُّ ما ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الأسَاطِيرِ (3) مِنَ القُرْآنِ (4).
ونَزَلَ في النَّضْرِ بنِ الحَارِثِ -قبَّحَهُ اللَّهُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (5).
(1) سورة الأنعام آية (93) - والخبَرُ في سيرة ابن هشام (1/ 337).
اختُلِفَ فيمن نَزَلت فيهِ هذه الآية، فقِيل: في مُسَيْلَمَةَ الكذَّاب، وقيل: عبدِ اللَّه بن سَعْدِ بنِ أَبِي السَّرْحِ، وقيل: النَّضْرِ بنِ الحَارث، واللَّهُ أعلم.
وانظر تفسير ابن كثير (3/ 302) - تفسير القرطبي (8/ 457).
(2)
سورة القلم آية (15).
(3)
قال الإمام السُّهيلي في الرَّوْض الأُنُف (2/ 53): واحدُ الأسَاطِيرِ أُسْطُورَةٌ كأُحْدُوثَة وأحَادِيث، وهو ما سَطَرَهُ الأوَّلُونَ.
(4)
انظر سيرة ابن هشام (1/ 337).
(5)
سورة الجاثية آية (7 - 8).
3 -
ومِنْ أسَالِيبِهِمْ: السُّخْرِيةُ والاسْتِهْزَاءُ والتَّكْذِيبُ، وقدْ لَجَأَتْ قُرَيْشٌ إلى هَذَا الأُسْلُوبِ لِتَخْذِيلِ المُسْلِمِينَ، وتَوْهِينِ قُوَاهُمُ المَعْنَوِيَّةَ، فَرَمَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بالجُنُونِ:{وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (1).
ووَصَمُوهُ (2) بالسِّحْرِ والكَذِبِ وقَوْلِ الشِّعْرِ: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (3)، {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} (4).
قال ابنُ إسحاقَ: وَكَانَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا تَلا عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، ودَعَاهُمْ إلى اللَّهِ تَعَالَى، قالُوا يَهْزَؤُونَ بِهِ:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ (5) مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ (6) وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (7)، فانزلَ اللَّهُ تَعَالَى عَليهِ في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمْ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا
(1) سورة الحجر (6).
(2)
وصم الشيء: عابه. انظر لسان العرب (15/ 320).
(3)
سورة ص آية (4).
(4)
سورة الأنبياء آية (5).
(5)
قَالَ الرَّاغِبُ الأصفَهَانيُّ في مُفْرَداتِ القرآن ص 444: الكِنَانُ: الغِطَاءُ الذي يُكَنُّ فيه الشَّيْءُ، والجَمْعُ أكِنَّةٌ نحوُ غِطَاءٌ وأغْطِيَةٌ، قال اللَّه تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} قِيلَ مَعْنَاهُ في غِطَاءٍ عَنْ تَفَهُّمِ مَا تُورِدُهُ عَلَيْنَا. . .
(6)
قال الراغِبُ الأصْفَهاني في مُفردات القرآن ص 544: الوَقْر: الثِّقَلُ في السَّمْعِ.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 161): أي آذاننا صَمَمٌ عمَّا جِئْتَنَا به.
(7)
سورة فصلت آية (5).
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}.
أيْ كَيْفَ فَهِمُوا تَوْحِيدَكَ ربَّكَ إِنْ كُنْتَ جَعَلْتَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، وفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وبَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ حِجَابًا بِزَعْمِهِمْ، أي: إنِّي لَمْ أفْعَلْ ذَلِكَ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أي ذَلِكَ ما تَوَاصَوْا بِهِ مِنْ تَرْكِ ما بَعَثْتُكَ بهِ إِلَيْهِمْ {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أيْ أَخْطَؤُوا المَثَلَ الذِي ضَرَبُوا لكَ، فَلا يُصِيبُونَ بهِ هُدًى، ولا يَعْتَدِلُ لَهُمْ فيهِ قَوْلٌ:{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي: قَدْ جِئْتَ تُخْبِرُنَا أنَّا سَنُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِنَا إِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا، وذَلِكَ ما لا يَكُونُ {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (1) أيْ: الذِي خَلَقَكُمْ مِمَّا تَعْرِفُونَ، فَلَيْسَ خَلْقُكُمْ مِنْ تُرَابٍ بِأَعَزَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ (2).
4 -
مُسَاوَمَاتٌ حَاوَلُوا بِهَا أَنْ يَلْتَقِي الإسْلامُ والجَاهِلِيَّةُ في مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ بأنْ يَتْرُكَ المُشْرِكُونَ بَعْضَ ما هُمْ عَلَيْهِ، ويَتْرُكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضُ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ (3) فَيُدْهِنُونَ} (4).
(1) سورة الإسراء آية (45 - 51).
(2)
انظر سيرة ابن هشام (1/ 353).
(3)
قال الإمام القرطبي في تفسيره (21/ 147): الإدِّهَانُ: هُوَ اللِّين والمُصَانَعَةُ.
(4)
سورة القلم آية (9).
قَالَ الإِمَامُ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ: وَدَّ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ لَوْ تَلِينُ لَهُمْ في دِينِكَ بِإِجَابَتِكَ إيَّاهُمْ إِلَى الرُّكُونِ إِلَى آلِهَتِهِمْ، فَيَلِينُونَ لَكَ في عِبَادَتِكَ إِلَهَكَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثنَاؤُهُ:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّهْنِ شَبَّهَ التَّلْيِينَ في القَوْلِ بِتَلْيِينِ الدُّهْنِ (1).
قَالَ ابنُ إسْحَاقٍ: اعْترَضَ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهُوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ -فِيمَا بَلَغَنِي- الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ أسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى، والوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ، وأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، والعَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وكانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ (2) في قَوْمِهِمْ، فقَالُوا: يا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وتَعْبُدُ ما نَعْبُدُ، فنَشْتَرِكَ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ، كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيرًا مِمَّا تَعْبُدُ، كُنْتَ قَدْ أخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (3).
أيْ: إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، إِلَّا أَنْ أعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ، فَلا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ مِنْكُمْ، لَكُمْ دِينُكُمْ جَمِيعًا وَليَ دِينِ (4).
(1) انظر تفسير ابن جرير الطبري (12/ 182).
(2)
ذَوِي الأسْنَانِ: هُمُ الأكَابِرُ والأشْرَافُ. انظر النهاية (2/ 371).
(3)
سورة الكافرون بكاملها.
(4)
انظر سيرة ابن هشام (1/ 400).
وحَسَمَ اللَّهُ مُفَاوَضَاتهمُ المُضْحِكَةَ بِهَذِهِ المُفَاصَلَةِ الجَازِمَةِ (1)
. . . لَعَلَّ اخْتِلاطَ تَصَوُّرَاتِهِمْ، واعْتِرَافِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى مَعَهُ. . . لَعَلَّ هَذَا كَانَ يُشْعِرُهُمْ أَنَّ المَسَافَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَرِيبَةٌ، يُمْكِنُ التَّفاهُمُ عَلَيْهَا، بِقِسْمَةِ البَلَدِ بَلَدَيْنِ، والِالْتِقَاءِ في مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ، مَعَ بَعْضِ التَّرْضِيَاتِ الشَّخْصِيَّةِ! .
ولِحَسْمِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى المُحَاوَلَةِ، والمُفَاصَلَةِ الحَاسِمَةِ بينَ عِبَادَةٍ وعِبَادَةٍ، ومَنْهَجٍ ومَنْهَجٍ، وتَصَوُّرٍ وتَصَوُّرٍ، وطَرِيقٍ وطَرِيقٍ. . نَزَلَتْ هذِهِ السُّورَةُ (2)، بِهَذا الجَزْمِ، وبِهَذَا التَّوْكِيدِ. وبِهَذَا التَّكْرَارِ. لِتُنْهِيَ كُلَّ قَوْلٍ، وتَقْطَعَ كُلَّ مُسَاوَمَةٍ، وتُفَرِّقَ نِهَائِيًّا بَيْنَ التَّوْحِيدِ والشِّرْكِ، وتُقِيمَ المَعَالِمَ وَاضِحَةً، لا تَقْبَلُ المُسَاوَمَةَ والجَدَلَ في قَلِيلٍ ولا كَثِيرٍ (3).
قال ابنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ في المَسْجِدِ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ المُسْتَضعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ: خَبَّابٌ، وَعَمَّارٌ، وأَبُو فكَيْهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ، وصُهَيْبٌ، وأشْبَاهُهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، هَزَأَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ، فقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَؤُلَاءِ أَصْحَاُبهُ كَمَا تَرَوْنَ، أهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالهُدَى الحَقِّ؟ لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا ما سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ، ومَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بهِ
(1) انظر الرحيق المختوم ص 85.
(2)
سورة الكافرون بكاملها.
(3)
انظر في ظلال القرآن (6/ 3991).
دُونَنَا، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إِلَى قَوْلهِ تَعَالَى: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
ورَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا معَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ هَؤُلَاءَ لَا يَجْتَرِؤُنَ عَلَيْنَا، قَالَ: وكُنْتُ أَنَا، وابْنُ مَسْعُودٍ، ورَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وبِلَالٌ، ورَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ في نَفْسِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ما شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (2).
* * *
(1) سورة الأنعام آية (52 - 54) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 6).
(2)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه رقم الحديث (2413)(46) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر سُؤالِ المُشركين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طرْدَ الفُقَراءِ عنه - رقم الحديث (6573).