الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: مسائل في عالم الجن والشياطين:
المسألة الأولى: هل إبليس من الملائكة
؟!
ذكر السمعاني خلاف العلماء في هذه المسألة، وأن الذي عليه أكثر المفسرين، أن إبليس كان من الملائكة، ونسبه لابن عباس.
والقول الآخر: أنه كان من الجن، لقوله تعالى:{كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]؛ ولأنه خُلق من النار، والملائكة خلقوا من النور، ولأنه له ذرية، ولا ذرية للملائكة.
ورجح السمعاني القول الأول، وهو أن إبليس كان من الملائكة؛ لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، وقال: ولهذا تناوله الأمر بالسجود، ولو يكن من الملائكة لم يتناوله الأمر بالسجود
(1)
ثم رد السمعاني عما استدل به أصحاب القول الثاني، فقال:
أما قوله: " كَانَ مِنَ الْجِنِّ " قيل: إن فرقة من الملائكة سموا جناً، خلقهم الله تعالى من النار، وعليه دَلَّ قوله تعالى:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158]، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، فسماهم جِنَّة، وإنما سموا جناً؛ لاستتارهم عن الأعين، وإبليس كان من ذلك القبيل. وإنما كان له ذرية؛ لأنه أخرجه من الملائكة، ثم جعل له ذرية
(2)
، وقال في مقام آخر، في معرض رده على أصحاب القول الثاني: جميع ما نقلوه هو على طريق المجاز، والكلام في الحقيقة
(3)
وهذه المسألة ـ كما أشار السمعاني ـ إلى أنها محل خِلاف عند العلماء، وأن الأقوال فيها متباينة، ولكن هنا يُشار إلى أمور:
1 ـ أن النقل عن ابن عباس، وابن مسعود، مروي في القولين، فقد نسب العلماء القولين لهما.
(4)
2 ـ أن كثيراً مما نُقل في هذا الباب، وهذه المسألة بخصوصها، وعن إبليس أنه كان خازن الجنة، ونحو ذلك من الأقوال، هي من قبيل الإسرائيليات التي لا يعول عليها، كما نبه على ذلك الحافظ ابن كثير
(5)
، ويقول الشنقيطي:" وما ذكر عن إبليس من الإسرائيليات لا يعول عليها "
(6)
.
(1)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 214
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 67 - 68 - 3/ 139 - 4/ 454 - قواطع الأدلة:1/ 214 - 303
(3)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 214
(4)
الطبري: جامع البيان: 1/ 503، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 194، أبو حيان: البحر المحيط: 1/ 248
(5)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 5/ 168
(6)
الشنقيطي: أضواء البيان: 3/ 291
3 ـ أن بعض المفسرين حاول الجمع بين القولين، حتى قال الراغب الأصفهاني:" فصار يصدق عليه القولان، ويجوز أن يكون عنى أنه كان من الجن فعلاً، ومن الملائكة نوعاً "
(1)
. يعني: أن الملائكة حين حاربت الجن، وسبت إبليس، صار بالحكم من الملائكة، فمولى القوم منهم، وبالنسبة من الجن. وقيل: كان ملكاً قبل أن يعصي الله تعالى، فلما عصاه مسخه شيطاناً.
ونقل النسفي في تفسيره عن الجاحظ: أن الجن والملائكة جنس واحد، فمن طهر فهو ملك، ومن خبث فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جن.
(2)
وما نُقل عن المعتزلة، أن قولهم يوافق قول من قال: إنه ليس من الملائكة، لا يخرج المسألة عن كونها اجتهادية، خاضعة للنص، فليس قول من قال بأحد القولين يعتبر بدعة؛ لأن كل صاحب قول يستدل بالقرآن على قوله. فمن قال إنه من الملائكة، استدل بعموم قوله:" وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ "، ومن قال إنه ليس منهم، استدل بقوله تعالى:" كَانَ مِنَ الْجِنِّ "، وكُلُّ صاحبِ قول، وَجَّه أدلة القول الآخر. فمن قال بأنه من الملائكة، حمل قوله تعالى:" كَانَ مِنَ الْجِنِّ " على عدة محامل:
1 ـ أي كان ضالاً، كما أن الجن كانوا ضالين، فجُعل منهم، ذكره الزجاج.
(3)
2 ـ أن الملائكة قد تسمى جناً؛ لاستتارها.
3 ـ أو أن يكون نسبهم إلى الجنة، لما كان خازناً لها، ذكرهما ابن عطية.
(4)
ومن قال أنه من الجن، حمل الاستثناء في الآية " إلا إبليس " على أنه استثناء منقطع.
ولكن يبقى الإشكال: إن قيل إن إبليس من الجن، من جهتين:
الأول: من أين تناوله الأمر، وهو للملائكة خاصة؟ قيل: إنه كان في صحبتهم، وكان يعبد الله تعالى مثل عبادتهم.
(1)
الراغب: تفسير الراغب: 1/ 151، وانظر: البيضاوي: أنوار التنزيل: 1/ 71
(2)
النسفي: مدارك التنزيل: 1/ 80
(3)
الزجاج: معاني القرآن: 1/ 114
(4)
ابن عطية: المحرر الوجيز: 1/ 125
الثانية: كيف صح استثناؤه، وهو جني من الملائكة؟ قيل: عمل على حكم التغليب، في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلا فلانة، لامرأة بين الرجال.
(1)
4 ـ حكى الرازي في تفسيره الخلاف، وبيَّن الأدلة، ورجح أن إبليس ليس من الملائكة
(2)
، وهذا القول هو الراجح ـ والعلم عند الله تعالى ـ، وهو المروي عن الحسن والزهري، وابن زيد، ورجحه الزجاج
(3)
، وابن حزم، وقال:" وقد ادعى قوم أن إبليس كان ملكاً فعصى، حاشا لله من هذا؛ لأن الله قد كذب هذا القول بقول تعالى {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50]، وبقوله:" أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي " وبإخباره أنه خلق إبليس من نار السموم، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خلقت الملائكة من نور"
(4)
، والنور غير النار بلا شك، فصح أن الجن غير الملائكة، والملائكة كلهم خيار مكرمون بنص القرآن، والجن والإنس فيهما مذموم ومحمود "
(5)
.
(1)
الزمخشري: الكشاف: 3/ 91
(2)
الرازي: مفاتيح الغيب: 2/ 248
(3)
الزجاج: معاني القرآن: 1/ 114
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، باب في أحاديث متفرقة، ح (2996)
(5)
ابن حزم: الفِصل: 4/ 28