الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والطائفة الثانية: القائلون بأن المسيح له طبيعتان: إلهية وبشرية بلا اختلاط، ولا تحوُّل، ولا انقسام، ولا انفصال. وهؤلاء هم الملكانية، نسبة إلى الملك، وهو الإمبراطور الروماني البيزنطي، وهؤلاء انقسموا لثلاث طوائف كبيرة، هي: الكاثوليك، والأرثوذكس، والبروتستانت.
(1)
3 ـ قول المشركين:
كان المشركون يقولون: إن الملائكة بنات الله، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقد حكى ذلك عنهم في كتابه العزيز فقال سبحانه وتعالى:" فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) "(الصافات 149 - 158): يقول الإمام السمعاني: "وقد كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله. قال أهل التفسير: ولم يكن يزعم هذا جميع قريش، وإنما قال هذا بعض قريش، وقوم من بني كِنانة، وهم بنو مدلج "
(2)
، وقال:" وقوله تعالى: " وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا " الجِنَّة: هاهنا هم الملائكة، وفي قول أكثر المفسرين "
(3)
، وهذا القول مروي عن مجاهد وقتادة، والسُّدي.
(4)
(1)
((الخلف: سعود بن عبدالعزيز: دراسات في الأديان: دار أضواء السلف، الرياض، ط 5، 1427 هـ (256 - 373)
(2)
((ذكر السمعاني خلافاً في هذا: هل كل قريش تقوله أم لا؟. فقيل: كان يقوله بنو عامر وبنو كنانة وحي ثالث. وقيل: كل قريش تقوله، فقيل لهم: من أين تقولون هذا؟ فقالت سمعنا آباءنا يقولون كذلك، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا. تفسير القرآن: 5/ 95
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 418
(4)
((الطبري: جامع البيان: 21/ 121
وقد أشار صاحب الملل والنِّحل إلى ديانات العرب، فقال:" ومن العرب من كان يميل إلى اليهودية، ومنهم من كان يميل إلى النصرانية، ومنهم من كان يصبو إلى الصابئة، ويعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك ولا يسكن، ولا يسافر، ولا يقيم، إلا بنوء من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوء كذا. ومنهم من كان يصبوا إلى الملائكة، بل كانوا يعبدون الجن ، ويعتقدون فيهم أنهم بنات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ".
(1)
وذكر الإمام السمعاني عن المشركين، أنهم كانوا يقولون: اللات والعزى بنات الله.
(2)
وكذا ذكر الإمام الطبري في تفسيره فقال: " سمَّى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره، وتقدست أسماؤه، فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز العُزى، وزعموا أنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون وافتروا ".
(3)
وقد أنكر الله جل وعلا عليهم هذا الافتراء، فقال سبحانه وتعالى منكراً عليهم:"أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) "(الإسراء 40): أي: قولاً فظيعاً كبيراً.
(4)
وقال سبحانه جل في علاه: " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ "(الزمر 32): قال مجاهد وقتادة: كذبهم على الله: زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله. وقال السدي: هو الشرك، وزعم قريش أن الملائكة بنات الله.
(5)
(1)
((الشهرستاني: الملل والنِّحل: 3/ 82
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 302
(3)
((الطبري: جامع البيان: 22/ 522
(4)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 243
(5)
((السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 469
وقال سبحانه وتعالى: " وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) "(الزخرف 19)، قال السمعاني:" سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ " يعنى: أنهم يجازون بشهادتهم الكاذبة، ويسألون عن شهادتهم يوم القيامة "
(1)
، وأتبعه جل وعلا بالإنكار الشديد، فقال:" وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) "(الزخرف 20): قال السمعاني: " أي: مالهم بقولهم: إن الملائكة بنات الله من علم، إن هم إلا يخرصون ".
(2)
وكذا رد الله تعالى عليهم قولهم الآثم فقال سبحانه: " أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21) "(النجم 21): يقول السمعاني: " وهذا على طريق الإنكار عليهم؛ لأنهم كانوا يقولون: هذه الأصنام على صور الملائكة، والملائكة بنات الله، وهذا قول بعضهم ".
(3)
وأنكر الله جل وعلا على كل الخراصين الأفاكين، فقال:" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) "(الصمد 1 - 4): يقول السمعاني: قوله: " لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ": نفي لقول اليهود والنصارى: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، ونفي لقول المشركين: أن الملائكة بنات الله. وقوله " وَلَمْ يُولَدْ ": فيه نفي لقول النصارى: إن مريم عليها السلام ولدت إلهاً، وهو المسيح "
(4)
وأما نسبة الولد إلى الله تعالى، فقد تتبعها القرآن وفنَّدها، وبين عوارها، وكذب قائليها، وافتراءهم على الله تعالى، ورد عليهم بالدلائل العقلية والنقلية، ومن الردود القرآنية على هذه الفرية، ما يلي:
(1)
((السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 96
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 96
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 295
(4)
((السمعاني: تفسير القرآن: 6/ 304
1 ـ قال جل وعلا: " قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) "(الزخرف 81): وقد ذكر الإمام السمعاني في توجيه هذه الآية أربعة أقوال:
الأول: هو قول مجاهد: ومعناه: قل إن كان للرحمن ولد على زعمكم، فأنا أول العابدين، أنه إله لا ولد له، ولا شريك له، وأن ما قلتموه باطل وكذب. قال السمعاني:" وهذا أحسن الأقاويل ".
(1)
الثاني: أن " إن " هاهنا بمعنى " ما "، ومعناه: قل ما كان للرحمن ولد، وتم الكلام، ثم قال: فأنا أول العابدين. قال: " وأهل النحو يستبعدون هذا ".
(2)
الثالث: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أي: الآنفين.
الرابع: أن هذا على النفي من الجانبين بمعنى: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، وليس له ولد، ولا أنا أول عابد.
(3)
وبذا فنَّد الإمام السمعاني كل ما يمكن أن يتعلق به متعلق، فالآية بكل توجهاتها رد لمثل هذا القول الشنيع.
(4)
2 ـ قال سبحانه وتعالى: " مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) "(مريم 35): يقول الإمام السمعاني: " معناه: ما يصلح لله، وما ينبغي أن يتخذ من ولد. فإن قيل: هلا قال ولداً؟ قلنا: قال من ولد للمبالغة؛ فإن الرجل قد يقول: ما اتخذ فلان فرساً، يريد العدد، وإن كان قد اتخذ واحداً، فإذا قال: ما اتخذ فلان من فرس، يكون ذلك نفياً للواحد والعدد. وقد بيَّنا أن الولد يكون من جنس الوالد، والله لا جنس له ".
(5)
(1)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 316
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 118
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 119
(4)
((السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 295
(5)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 291
3 ـ قال تعالى: " وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) "(مريم 88 - 92): فهؤلاء جاؤوا بقول منكر عظيم، تقرب السماء أن تسقط عليهم، والأرض أن تخسف بهم، والجبال أن تطبق عليهم؛ لقبح ما قالوه، وتفوهوه، ثم قال عز وجل:
" إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) "(مريم 193): وهذا يفيد امتناع ما قالوه؛ لأنه قد " أجمع أهل العلم، أن البنوة مع العبودية لا يجتمعان، ومن اشترى ابنه يعتق عليه؛ لأنه لا يصلح أن يكون ابنا وعبداً ".
(1)
4 ـ ويقول الله جل وعلا: " بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) "(الأنعام 101): يقول السمعاني: "وفيه دليل أيضاً على أن لا ولد له؛ لأنه إذا كان خلق كل شيء، لم يصلح أن يكون له ولد؛ إذ المخلوق لا يصلح ولداً للخالق؛ فإن ولد كل أحد، يكون من جنسه ".
(2)
، وكذا لا يكون الولد إلا من الصاحبة، وهي منفية عن الباري جل وعلا.
وإذا لم يجز لله أن يتخذ ولداً، فكذلك لا يجوز عليه التبني، يقول السمعاني:" وأعلم أن الله تعالى، كما لا يجوز له أن يتخذ ولداً، لا يجوز له التبني؛ فإن التبني إنما يكون حيث يكون به الولد، فإذاً لم يتصور لله ولد، ولم يجز عليه التبني ".
(3)
(1)
((السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 295
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 131
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 506
5 ـ ويقول جل في علاه عن قول هذه الطوائف الآثمة: " ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) "(التوبة 30)، يقول السمعاني:"معناه: أنهم قالوا هذا القول بلا حجة، ولا بيان، ولا برهان، ولا إنما كان مجرد قول بلا أصل ".
(1)
6 ـ ويقول سبحانه وتعالى: " مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْأيَاتِ
ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)" (المائدة 75): يقول السمعاني: " وقوله " كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ": أي يتغذيان بالطعام، ومعناه: أن من يتغذي بالطعام لا يكون إلهاً يعبد "
(2)
. وهذا فيه تكذيب صريح لهذه الطوائف التي ادعت في المسيح عليه السلام، أنه الله، أو ابن الله، وأن من كان ما كان محتاجاً إلى ما يغذوه، وبه يقيم بدنه من المطاعم والمشارب، لا يصلح أن يكون إلهاً؛ لأن قوامه بغيره، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليل واضح على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوباً لا رباً ".
(3)
وبهذا يظهر جهاد الإمام السمعاني بالقرآن، كما قال تعالى:" وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) "(الفرقان 52)، للذوذ عن هذه الأصول، والذب عنها، وبيان الحق فيها، والكشف عن كل الشبهات، وتتبعها، وإظهار عوارها وزيفها.
(1)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 302
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 56
(3)
((الطبري: جامع البيان: 10/ 485
وفي هذا المقام لم يُغفل السمعاني الرد على الطبائعيين، الذين يسندون أمر هذا الكون إلى الطبيعة أو الصدفة. وهذا أمر عجيب، وشأن غريب؛ لأنهم لو أمعنوا النظر، وتأملوا قليلاً بالفكر، لتوصلوا إلى النتيجة التي توصل إليها العامة، وعرفها الخاصة، إن هذا الكون بيد الله جل وعلا، ولكن من لم يجعل الله له نوراً فماله من نور. وهنا نتساءل: هل في إمكان الطبيعة التمييز بين خلق الضار والنافع، وهل باستطاعتها التفريق في الأشكال والألوان والأصوات في الأجناس، فضلاً عن الجنس الواحد، وهل في مقدرتها خرق العادة، وإبطال الأسباب.
وهذا الإحكام المتقن، والخلق المبدع، والتدبير الكامل، والتصرف الشامل، هل يمكن أن يكون مثله في وسع الطبيعة. كيف يتجمع المطر، وكيف ينزل؟ ولم ينزل بهذا القدر في مكان دون آخر؟
تأمل في نفسك، وتفكر في مراحل نموك:
أين الطبيعة عند كونك نطفة
…
في البطن إذ مشجت به الماءان
أين الطبيعة حين عدت عليقة
…
في أربعين وأربعين ثواني
أين الطبيعة عند كونك نطفة
…
في أربعين وقد مضى العددان
أترى الطبيعة صورتك مصوراً
…
مسامع ونواظر وبنان
أترى الطبيعة أخرجتك منكساً
…
من بطن أمك واهي الأركان
أم فجرت لك باللبان ثديها
…
فرضعتها حتى مضى حولان
أم صَيَّرت في والديك محبة
…
فهما بما يرضيك مغتبطان
يا فيلسوف لقد شغلت عن الهدى
…
بالمنطق الرومي واليوناني
(1)
(1)
((القحطاني: محمد بن صالح: القصيدة النونية، دار الذكرى، ط 1، (33)
وقد رد العلماء قديماً وحديثاً على هذا المذهب الفاسد من كل جهة، حين قالوا: إن هذه المخلوقات البديعة الخلق، والعجيبة الفرق، من فعل الطبيعة، وبذا ناقضوا الفطرة، وخالفوا العلم، وناكفوا العقل، ولذا يقول الشيخ الشنقيطي:" أن اختلاف ألوان الآدميين، واختلاف ألوان الجبال، والثمار، والدواب، والأنعام، كل ذلك من آياته الدالة على كمال قدرته، واستحقاقه للعبادة وحده، قال تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ " (فاطر 27 - 28)، واختلاف الألوان المذكورة، من غرائب صنعه تعالى وعجائبه، ومن البراهين القاطعة، على أنه هو المؤثر جل وعلا، وأن إسناد التأثير للطبيعة من أعظم الكفر والضلال ".
(1)
وقد ساهم الإمام السمعاني في رد هذا الهراء، وكشف هذا الافتراء، فقال في تفسير قوله تعالى:" وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) "(الرعد 4): " وقوله " يسقى بماء واحد "
…
وفي الآية رد على أصحاب الطبيعة، فإن الماء واحد، والهواء واحد، والتراب واحد، والحرارة واحدة، والثمار مختلفة في اللون والطعم، وقلة الرَّيع، وكثرة الرَّيع، والطبيعة واحدة يستحيل أن توجب شيئين مختلفين؛ فدل هذا أن الجميع من الله تعالى ".
(2)
وقد رد الإمام الرازي على هذا المذهب في تفسيره، من جهات متعددة، فرده من جهة:
ـ حدوث التغيُّرات والتبدلات، وأنها لا بُدَّ لها من سبب.
(3)
(1)
((الشنقيطي: أضواء البيان: 6/ 173
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 77
(3)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 13/ 87
ـ حركة الريح، وأنه هواء متحرك، وكونه متحركاً ليس لذاته، ولا للوازم ذاته، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته، فلا بُدَّ وأن يكون لتحريك الفاعل المختار، وهو الله جل جلاله
(1)
ـ الاستدلال بوجود الجبال، على وجود الصانع القدير الحكيم، وذلك: أن طبيعة الأرض طبيعة واحدة، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض، لا بُدَّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم.
(2)
ـ الاستدلال بالنبات، وأفاض في ذكر دلالته على المدبِّر الحكيم جل في علاه.
(3)
ـ الاستدلال بالبرق، والسحاب، والرعد، والصواعق، على تخصيص الفاعل المختار، دون العلة والطبيعة.
(4)
ـ الاستدلال بتعاقب الليل والنهار على الدوام، فإن كل منهما مضاد للآخر، مغاير له، مع كونهما متعاقبين على الدوام، من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين لذاتهما، بل لا بُدَّ لهما من فاعل يدبرهما، ويقدرهما بالمقادير المخصوصة.
(5)
ومن جميل ما استدل به الإمام الرازي، على كمال قدرة الله وحكمته، ورد به على القائلين بالطبع:" وأعلم أن في ذكر الطَّري مزيد فائدة، وذلك لأنه لو كان السمك كله مالحاً، لما عُرف به من قدرة الله تعالى ما يُعرف بالطري، فإنه مما خرج من البحر الزعاق، الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة، عُلِمَ أنه إنما حدث لا بحسب الطبيعة، بل بقدرة الله وحكمته، حيث أظهر الضد من الضد ".
(6)
وبهذا البيان الناصع، المستقى من النصوص، والمُؤيد بالعقول السليمة والفِطر المستقيمة، يأتي السمعاني على بُنيان القوم، فينقضه حجرا حجرا؛ لأنه في أصله ضعيف متهالك.
(1)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 14/ 288
(2)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 19/ 6
(3)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 19/ 6 - 7 - 8
(4)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 19/ 21 - 23
(5)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 20/ 306
(6)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 20/ 188