الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
المطلب الأول: الخصائص والصفات المشتركة بينهم:
مما تمايز به الأنبياء والمرسلون، واختصوا به عن غيرهم من البشر، ما منحهم الله تعالى إياه من كمال الخُلق والخَلْق، وجمال الروح والريح، وما امتازوا به من العزم والحزم في تبليغ دعوة الله جل وعلا. لذلك اشتركوا في خصائص وميزات نجملها في الآتي:
1 ـ أن دينهم واحد، ومصدر دعوتهم، ومنطلق رسالتهم واحدة، وهي الدعوة إلى توحيد الله تعالى، قال تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، أي: ملتكم ودينكم ملة واحدة، ومعنى الآية: أن الملة التي دعوتكم إليها، هي ملة الأنبياء قبلكم، إذ دين الكل واحد، وهذا في التوحيد، وأما في الشرائع فيجوز اختلافها.
(1)
فالأنبياء دعوتهم تعبيد الناس لرب الناس، والقيام بحقوقه، قال تعالى في قصة نوح في دعوته لقومه:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]، يقول السمعاني:" وهذا هو الذي بعث الله لأجله الرسل، فإن الله تعالى ما بعث رسولاً، إلا ليعبدوه، ويتقوه، ويطيعوا رسوله "
(2)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 406
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 6/ 53
ولذا كان من كذب رسولاً واحداً، فقد كذب بجميع الرسل، قال تعالى:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان:37]، يقول السمعاني:" الرُّسُلَ " أي الرسول، جمع بمعنى الواحد، ويُقال: من كذب رسولاً واحداً، فقد كذب جميع الرسل، فلهذا قال:" كَذَّبُوا الرُّسُلَ "
(1)
، ومثله قوله تعال:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء:105]، فإنما ذكر المرسلين؛ لأن من كذب رسولاً، فقد كذب جميع الرسل.
(2)
2 ـ أنهم لا يأخذون جُعلاً على دعوتهم، قال تعالى:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109]، يقول السمعاني:" قال أهل العلم: ولا يجوز للنبي أن يأخذ جُعلاً على النبوة؛ لأنه يُؤدي إلى تنفير الناس عن قبول الإيمان، ويجوز أن يأخذ الهدية؛ لأنه لا يُؤدي إلى التنفير "
(3)
. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية، فلِمَ لم يقبلها سليمان، حين أرسلت بها ملكة سبأ؟ قال أهل العلم: وقد كان الأنبياء لا يقبلون هدايا المشركين، ولذا رُوي أن ملكة سبأ قالت: إن كان ملكاً، فأرضيه بالمال، وإن كان نبياً فلا يرضى بالمال.
(4)
3 ـ أنهم كلهم أولو عزم وحزم، وعقل ورأي، قال تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وقد نقل السمعاني خلاف المفسرين في المراد بأولي العزم على أقوال:
أ ـ أنهم أربعة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام. قال: وعليه أكثر المفسرين.
ب ـ أنهم من صبر: فنوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد الولد، ويوسف صبر على السجن، وأيوب صبر على الضر. ونقله عن مقاتل.
ج ـ وقيل: أولو العزم ثلاثة: نوح، وهود، وإبراهيم.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 20
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 57
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 58
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 96 - 98
د ـ وقيل: كل الأنبياء من أولي العزم، وعليه: فـ (من) في الآية ليست للتبعيض، وإنما للتبيين، وقالوا: ليس في الأنبياء أحد ليس له عزم، ولا حزم، ولا رأي، ولا عقل، بل كانوا جميعاً بهذه الصفات.
هـ ـ وقيل: هم الذين أمروا بالقتال، ومنابذة المشركين، فقاتلوا ونابذوا.
ونقل عن بعضهم: أن آدم ويونس، لم يكونا من أولي العزم
(1)
. واستدل بعض العلماء على هذا، بقوله تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، وقوله الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام، أن يصبر، ونهاه أن يكون كصاحب الحوت، فقال:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فهاتان الآيتان كلتاهما تدلان على أن أولي العزم من الرسل، الذي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كصبرهم، ليسوا جميع الرسل.
(2)
ولعلَّ الأقرب في الآية ـ والعلم عند الله تعالى ـ هو القول بأن (من) بيانية جنسية، تعم جميع الأنبياء، يقول الألوسي بعد أن حكى الخلاف:" ولعل الأولى في الآية القول الأول، وإن صار أولو العزم بعد مختصاً بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الإطلاق؛ لاشتهارهم بذلك، كما في الأعلام الغالبة، فكأنه قيل له: فاصبر على الدعوة إلى الحق، ومكابدة الشدائد مطلقاً، كما جد إخوانك الرسل قبلك "
(3)
، وقال ابن عطية:" ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزماً وصبراً "
(4)
، وقال الثعالبي:" واختلف في تعيين أولى العزم من الرسل، ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزماً وصبراً "
(5)
، وقال الخازن:" وهذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي ".
(6)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 164
(2)
الشنقيطي: أضواء البيان: 7/ 241
(3)
الألوسي: روح المعاني: 13/ 191
(4)
ابن عطية: المحرر الوجيز: 5/ 107
(5)
الثعالبي: الجواهر الحسان: 5/ 225
(6)
الخازن: لباب التأويل: 4/ 138
4 ـ أن رؤياهم وحي، قال تعالى:{قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5]، يقول السمعاني:" قال أهل التفسير: إن رؤيا الأنبياء وحي، فعلم يعقوب أن الإخوة لو سمعوا بهذه الرؤيا، عرفوا أنها حق فيحسدونه، فأمره بالكتمان لهذا المعنى "
(1)
، وقال تعالى عن إبراهيم الخليل:{قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]، " أي: أمرت بذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي "
(2)
، وجاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت:" أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله علي وسلم من الوحي، الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح "
(3)
، ويقول السمعاني:"وجملة الذي وصل إلى الأنبياء من الوحي، على ثلاثة وجوه: وحي إلهام، ورؤيا في المنام، ووحي بتكليم الله تعالى، ووحي بلسان جبريل عليه السلام ".
(4)
5 ـ أن الله جل وعلا يبعثهم برسالته على رأس أربعين سنة، قال تعالى:{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} [طه:40]، أي: على قدر النبوة والرسالة، قال ابن عباس: ولم يبعث الله نبياً إلا على رأس أربعين سنة، وجاء موسى ربه، وهو ابن أربعين سنة، فنبأة الله وأرسله ".
(5)
وقال ابن عباس: بعث نوح وهو ابن أربعين سنة.
(6)
واختلف في يوسف هل نُبئ وهو صغير، وكذا يحيى عليهما السلام؟ أما يوسف فقد قال الباري تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15]، فأكثر أهل التفسير، على أن هذا الوحي إلى يوسف، وبعث الله جبريل يُؤنسه، ويبشره بالخروج.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 8
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 407
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، باب بدء الوحي، ح (3)
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 87
(5)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 331
(6)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 171
وقيل: إن الوحي هاهنا هو الإلهام، وأما إتيان جبريل فكان بعد هذا
(1)
. والذي يدل على أن معنى الوحي في الآية الكريمة هو الإلهام، قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف:22]، فقد فُسِّر الحكم بالنبوة
(2)
، فدل على أن الأول كان إلهاماً.
وأما يحيى عليه السلام، فقد ذهب أكثر المفسرين أنه أوتي النبوة وهو صغير، كما أفاده السمعاني، قال تعالى:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، وقيل: المراد بالحكم هنا: العلم، فقرأ التوراة وهو صغير، وقيل: إن يحيى قيل له وهو صغير: تعال نلعب، فقال: ما للعب خُلقت، فهو معنى قوله تعالى:" وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا "
(3)
. ورجح الرازي حمله على النبوة لوجهين ذكرهما وأشار إليهما
(4)
، ورجح آخرون: أن المقصود بالآية: يعني: هديناه صغيراً، كما قال لإبراهيم:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:51]، قال الفراء: أي أعطيناه هداه
(5)
، وهو أحد القولين اللذين ذكرهما السمعاني، والآخر النبوة
(6)
، والأول أقرب، أي: من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه.
(7)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 14
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 20
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 282
(4)
الرازي: مفاتيح الغيب: 21/ 516
(5)
الثعلبي: الكشف والبيان: 6/ 278 ـ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 11/ 296
(6)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 385
(7)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 5/ 347
وأما عيسى عليه السلام، فقد قيل: إنه أُوتي الإنجيل وهو طفل صغير، وكان يعقل عقل الرجال، وقال الحسن: جُعل نبياً وأوتي الإنجيل وهو في بطن أمه، وهو تأويل قوله تعالى:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]، وقيل المعني: سيؤتيني الكتاب، ويجعلني نبياً إذا صرت رجلاً، قال السمعاني: والصحيح هو الأول
(1)
. وذكر الرازي هذا الخلاف، وأدلته، ثم قال:" وقوله " آتَانِيَ الْكِتَابَ " يدل على كونه نبياً في ذلك الوقت، فوجب إجراؤه على ظاهره، بخلاف ما قاله عكرمة "
(2)
، وقال عكرمة:" آتَانِيَ الْكِتَابَ " أي: قضى أنه يُؤتيني الكتاب فيما قضى.
(3)
6 ـ أن كل رسول أرسل بلسان قومه، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4]، يقول السمعاني:" والحكمة في هذا: هو أنه إذا أرسله بلسان قومه عقلوا قوله، وفهموا عنه. فإن قال قائل: إن الله بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل الخلق على ما قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود "
(4)
، ولم يبعث بلسان كل الخلق؟ والجواب عنه: أن سائر الخلق تبع للعرب في الدعوة، وقد بُعث بلسانهم، ثم إنه بَعَث بالرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله، وترجم لهم قوله "
(5)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 290
(2)
الرازي: مفاتيح الغيب: 21/ 534
(3)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 5/ 229
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، باب قدر ما يستر المصلي، ح (521)
(5)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 103