الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الرد على القدرية:
ضَلَّ في باب القدر طوائف، حين لم يسلموا بالنصوص، ولم يجمعوا بينها، وظهر الانحراف في هذا الباب جلياً في اتجاهين:
الأول: عُرف بالقدرية، وهي من أول الفرق التي حدثت في الأمة الإسلامية، في آواخر عصر الصحابة، وكان أول من تكلم به معبد الجهني، وقيل: أخذه من المجوس، من رجل يُقال له: سيسويه، وأخذ غيلان الدمشقي عن معبد الجهني، وسموا قدرية لإنكارهم القدر.
(1)
وهؤلاء غلوا في إثبات القدر، يعني: جعلوا العبد خالقاً لفعله، وأن أفعاله لا تعلق لها بالمشيئة الإلهية، ومَثَّل هذا الاتجاه المعتزلة، فصرحوا في كتبهم بهذه العقيدة المخالفة للنصوص.
والثاني: عُرِفَ بالجبرية: نسبة إلى الجبر، وهو نفي الفعل عن العبد، وإسناده للرب جل وعز، وكان زعيمهم الجهم بن صفوان، والجبرية قسمان، كما أن القدرية قسمان، فالقدرية قدرية خالصة، أنكرت العلم الإلهي، وهذه كفرها السلف، إلا أنها تلاشت، وقدرية متوسطة أثبتوا العلم الإلهي، ولكنهم أنكروا خلقه لأفعال العباد. أما الجبرية فهي جبرية خالصة يمثلهم الجهم يسلبون العبد إرادته التامة، ويقولون: هو مجبور مضطر على فعله، كالريشة في مهب الريح، وجبرية متوسطة أثبتوا للعبد قدرة لكنها قدرة غير مؤثرة، أضحت تعرف عند الأشاعرة بنظرية الكسب في الفعل. وهو في حقيقته مقارب لقول الجهمية الخالصة.
(2)
(1)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 8/ 429 - 430، ابن حجر: فتح الباري: 1/ 145
(2)
انظر: ابن تيمية: درء التعارض: 1/ 63، الشهرستاني: الملل والنِّحل: 1/ 85، العروسي: المسائل المشتركة: دار حافظ، جدة، ط 1، 1410 هـ، (167)
والإمام السمعاني رحمه الله ذكر بعض دلائل القدرية التي يعتمدون عليها، والتي هي على وفاق ـ حسب ظنونهم ـ مع أدلتهم العقلية، التي بها ألبسوا العبد لباس الخالقية لأفعاله، فأشار إليها السمعاني، ورد عليهم هذا المذهب الفاسد بكثير من الدلائل القرآنية التي تُثبت عموم خالقية الله تعالى ومشيئته. العجيب أن المعتزلة القدرية، احتجوا ببعض دلائل الجهمية، فالجهمية قالوا: الأفعال كلها كانت وتكون بخلق الله، ولا مشيئة للعبد فيها، والقدرية قالوا: أفعال العبد كلها كانت وتكون بخلق العبد، ولا مشيئة لله تعالى فيها، وإنما أمكنه الله تعالى من إحداث إرادته، بأن خلقه كذلك. وكلا الطائفتين قَصَّر في جانب، فالجهمية سلبت قدرة العبد، والقدرية المعتزلة سلبت قدرة الرب في هذه المسألة، وأهل السنة أثبتوا للرب كمال القدرة والمشيئة، وأثبتوا للعبد كذلك القدرة الحقيقية المؤثرة في مقدورها، ومشيئته واختياره، إلا أن مشيئته غير مستقلة، بل هي تحت مشيئة الله تعالى
(1)
. وهناك عدة منطلقات، انطلق منها القوم في تبرير وجهاتهم، وتقرير عقائدهم، فيما يتعلق بهذا الباب:
1 ـ الجهمية الجبرية: الذين ينفون الحكمة والتعليل في إفعال الله تعالى، قادهم هذا الاعتقاد إلى الجبر، وهو سلب العباد مشيئتهم، وأنهم غير قادرين على أفعالهم، وإنما تُنسب إليهم مجازاً، والفاعل هو الله تعالى، وإذا قيل مثلاً: كيف يكلف الله، ويعذب من جبرهم على الأعمال أو المعاصي، قالوا: إن الله يفعل ما يشاء، وأفعاله لا تعلل بالحكمة والمصلحة.
(1)
انظر: العروسي: المسائل المشتركة: 168، عبدالرحمن المحمود: القضاء والقدر: دار الوطن، الرياض، ط 2، 1418 هـ (303)
والمعتزلة حين أثبتوا لأفعال الله حكمة منفصلة عن الله، لا ترجع إليه، حصروها في المخلوق، ثم زعموا أن هذه الحكمة لا تتم إلا بأن يكون العباد خالقين لأفعالهم؛ بناء على أصلهم، القول بالعدل، فمتى قيل: بأن الله هو خالق أفعالهم، أثر على هذه الأصل الذي اخترعوه، وهذا بدوره أدى بهم إلى أن أوجبوا على الله تعالى فعل الأصلح، وهي كذلك حلقة من سلسلة حلقات أدت بهم إلى القول: بأن الله لا يخلق أفعال العباد؛ لأنه لو خلقها ثم عاقبهم، لكان ظالماً لهم، وهذا لا يجوز.
2 ـ وكذا حين نفي الجهمية أن تكون للعبد أي استطاعة، لا قبل الفعل ولا معه، قالوا بالجبر، وحين قال الأشاعرة بنفي قدرة العبد قبل الفعل، وأثبتوا القدرة مع الفعل، ونسبوها إلى الله تعالى، وسموها كسباً، قاربوا الجهمية، وحين جعلت المعتزلة الاستطاعة قبل الفعل، وجعلوها للعبد، حيث يقدر على الترك والفعل مطلقاً، قالوا: هو الفاعل لفعله حقيقة، والله لا يخلق فعله.
3 ـ ولما اختلفوا في التحسين والتقبيح، هل هما عقليان أم شرعيان، نشأ عنه القول بالجبر والقدر، بل نشأت عنه مسألة أخرى، اختلفوا في تعريفها وهي مسألة الظلم، وكيف يتنزه الرب تعالى عنه.
(1)
والذي يهمنا في هذا المقام، كيف عالج السمعاني هذه القضية، ورد على المنكرين؟!
أولاً: قرر السمعاني هذه المسألة بناء على المنهج السلفي، وهو أن الله تعالى له الخلق المطلق العام الشامل، وهذا يشمل أفعال الإنسان، واستدل على ذلك بدلائل القرآن الكريم، ومنها:
1 ـ قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:253]، ووجه الدلالة من الآية: يقول السمعاني:" هذا دليل على القدرية؛ حيث أحالوا الاقتتال على المشيئة "
(2)
، والقدرية ينكرون أن تكون لله تعالى مشيئة في فعل العبد.
(1)
استفدت هذه المباحث من: رسالة القضاء والقدر: عبدالرحمن المحمود: 241 ـ 290، العروسي: المسائل المشتركة: 169، عبدالرحمن حبنكة: العقيدة الإسلامية: 637
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 256
وكذلك مما أوقع القدرية والجبرية في الخطأ في هذه المسألة، هو عدم تفريقهم بين الإرادة الكونية المرادفة للمشيئة، وبين الإرادة الشرعية المستلزمة لمحبته ورضاه، ولذا من فرَّق بين النوعين أدرك المسألة.
فالقدرية المعتزلة لم يفرقوا بين الإرادة والرضا فجعلوهما من باب واحد، فقالوا: كل ما أمر الله تعالى به تشريعاً، فقد أراده، بمعنى أحبه وشاءه، إذن: كل مالم يأمر به، فليس من خلقه؛ لأنه لايحبها ولا يرضاها، كالكفر والذنوب والمعاصي، فكيف نقول: إنه خلق أفعال العباد، وفيها الكفر والذنوب والمعاصي.
والجبرية لم يفرقوا بين الإرادة الكونية والرضا، فقالوا: كل ماخلقه الله فقد أحبه ورضيه.
وأهل السنة فرقوا بين الأمرين، " فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية، فتكون هي المشيئة، وإلى إرادة دينية، فتكون هي المحبة "
(1)
، ولذا يقول ابن القيم:" والذي يكشف هذه الغمة، ويبصر من هذه العماية، وينجي من هذه الورطة، إنما هو التفريق بين مافرق الله بينه، وهو المشيئة والمحبة، فإنهما ليسا واحداً، ولا هما متلازمين "
(2)
. وهذا القول هو الذي ذهب إليه الإمام السمعاني، فإنه فرق بين الإرادة وبين الرضا، وقال: إن المعاصي بإرادة الله تعالى، وليست برضاه ومحبته، وقال: هو الأولى، والأقرب بمذهب السلف
(3)
. ومع هذا التفريق يتضح المقام، فلا يكون لقول القدرية المعتزلة وجهاً؛ إذا احترزوا من نسبة القبائح إلى الله تعالى؛ زعماً منهم تنزيه الخالق، فسلبوه صفة كمال، ولا وجه لقول الجبرية؛ إذ احترزوا من نسبة العجز إليه، فجعلوه مريداً لكل شيء مخلوق محباً له، ولو كان مبغوضاً في ذاته، كالكفر، والمعاصي، والذنوب.
2 ـ وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107]، يقول السمعاني:" وهذا دليل على القدرية "
(4)
، فأحال على المشيئة التي ينكرها القدرية.
(1)
ابن القيم: شفاء العليل: 88
(2)
ابن القيم: مدارج السالكين: 2/ 188
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 460
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 134
3 ـ وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، يقول السمعاني:" وفي هذا دليل على القدرية "
(1)
، ووجه الدلالة ما ذكره السمعاني في الآية التالية:
4 ـ وقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:178]، يقول السمعاني:" وهذا دليل على القدرية، حيث نسب الهداية والضلالة إلى فعله من غير سبب ".
(2)
5 ـ وقوله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]، يقول السمعاني:" وفي الآية رد على القدرية، وهو ظاهر ".
(3)
6 ـ وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99]، يقول السمعاني:" في الآية رد على القدرية، فإنه تعالى أخبر أنه لم يشأ إيمان جميع الناس، وعندهم أنه شاء إيمان جميع الناس "
(4)
، ولكن ذنوبهم ومعاصيهم تنسب إليهم؛ لأنهم خلقوها على زعمهم، فالآية رد ظاهر عليهم.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 183
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 234
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 318
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 406
7 ـ وقوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34]، يقول السمعاني:" وفي الآية رد على القدرية "
(1)
، حيث نسبوا الغواية إليه، والغواية هنا بمعنى الإضلال عند أكثر المفسرين، فهو خالق الإنسان وعمله. وسبق أن القدرية المعتزلة حين قالوا بالتقبيح والتحسين العقليين، فقالوا: إن الله لا يفعل القبيح، بل أفعاله كلها حسنة، قادهم هذا إلى نفي خلق أفعال العباد؛ لأنه منها ما هو حسن، ومنها ما هو قبيح، فلو خلقها لكان فاعلاً للقبيح، لأنهم شبهوا الله تعالى بخلقه، فسموا مشبهة الأفعال.
8 ـ وقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11]، يقول السمعاني:" في الآية رد على القدرية صريحاً "
(2)
، إذ هو خالق أعمالهم، فنسب التغيير إليه.
9 ـ وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27]، يقول السمعاني:" ومعناه: ويهدي إليه من يشاء بالإنابة، وفي الآية رد على القدرية ".
(3)
10 ـ وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الحِجر:12]، قال الحسن: كذلك نسلك الشرك في قلوب المجرمين، ونسلك: أي ندخل، وقال مجاهد: نسلك التكذيب، وهو رد على القدرية صريحاً ".
(4)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 426
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 82
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 91
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 131
11 ـ وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9]، يقول السمعاني:" قيل معناه: وعلى الله بيان الهدى من الضلالة، وقيل: بيان الحق بالآيات والبراهين وهذا بحكم الوعد. وقوله " وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ " ظاهر المعنى، وفيه رد على القدرية ".
(1)
12 ـ وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، يقول السمعاني:" والآية صريحة في الرد على القدرية "
(2)
، فهذه الآيات الثلاث الأخيرة، فيها نسبة الهداية والإضلال إلى فعل الله تعالى، " وحقيقة المعنى: إني لا أُسأل عما أفعل من الإضلال الهداية ".
(3)
13 ـ وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء:46]، يقول السمعاني:"وفي الآية رد على القدرية صريحاً "
(4)
؛لأن الله تعالى هو الذي جعل ذلك وخلقه.
14 ـ وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]، يقول السمعاني:" وقوله " وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ " أي: على ما حكم له في علمه السابق، وهو رد على القدرية، وقد أولوا هذا وقالوا: معنى قوله " وَأَضَلَّهُ اللَّهُ " أي: وجده ضالاً، أو سماه ضالاً، وهو تأويل باطل؛ لأن العرب لا تقول: فعل فلان كذا، إذا وجده كذلك ".
(5)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 162
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 198
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 198
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 246
(5)
السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 141
15 ـ وقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، يقول السمعاني: "يعني: لا يُسأل عما يحكم على خلقه، والخلق يُسألون عن أفعالهم وأعمالهم
…
وفي الآية رد على القدرية، وقطع شبهتهم بالكلية ".
(1)
وقد استدل بها السلف على ذلك: " روى أبو الأسود الدؤلي عن عمران بن حُصين قال له: أرأيت ما يسعى فيه الناس ويكدحون، أهو أمر قُضي عليهم، أو شيء يستأنفونه؟ فقلت: لا، بل أمر قُضي عليهم، قال: أفلا يكون ظلماً؟ قلت: سبحان الله " لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ "، فقال لي: أصبت يا أبا الأسود، وقد أجزت عقلك ".
(2)
16 ـ وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41]، يقول السمعاني:" وفيه دليل على من يُنكر القدر "
(3)
، فنسب الإضلال والتطهير إليه سبحانه.
17 ـ وقوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]، يقول السمعاني:" وفي الآية دليل واضح على أهل القدر "
(4)
؛ لأنه جعل إيمانهم بمشيئته.
فهذه الدلائل القرآنية وغيرها الدامغة لمذهب أهل القدر، تدل دلالة واضحة، على اهتمام السلف ببيان العقائد الصحيحة، والرد على أهل البدع، والكشف عن عقائدهم الفاسدة، ولا أدلَّ على ذلك، من التصانيف الخاصة والعامة في هذه المسألة. فالإمام السمعاني ممن ساهم في إيضاح عقائد السلف في هذا الباب، ثم نُبيِّن جهوده في رد شبهاتهم التي تمسكوا بها، وجعلوها ستاراً على ضلالاتهم.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 374
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 374
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 39
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 137
ثانياً: بعد أن بيَّن السمعاني المنهج الحق في هذه المسألة، وقرر عقيدة السلف فيها بالأدلة، شرع في بيان ما احتجوا به، ونقضه، وبيان تهافته، وأن هذه الدلائل حق في نفسها، تدل على خلاف ما ذهبوا إليه، ومن تلك الأدلة، ما يلي:
1 ـ احتجت القدرية بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل:35]، وقد بيَّن السمعاني وجه احتجاجهم بها فقال:" ووجه احتجاجهم: أن المشركين قالوا: " لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ "، ثم إن الله تعالى قال في آخر الآية: " كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ "؛ رداً وإنكاراً عليهم، فدل على أن الله تعالى لا يشاء الكفر، وأنهم فعلوا ما فعلوا بغير مشيئة الله "
(1)
، ثم رد السمعاني عليهم هذه الشبهة، فقال: " والجواب عنه: ذكر الزجاج وغيره، أنهم قالوا هذا القول على طريق الاستهزاء، لا على طريق التحقيق، ولو قالوا على طريق التحقيق، لكان قولهم موافقاً لقول المؤمنين.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 171
وهذا مثل قوله تعالى في قصة شعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، فإنهم قالوا هذا على طريق الاستهزاء، لا على طريق التحقيق، وكذلك قوله تعالى في سورة يس:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47]، وهذا إنما قالوه على طريق الاستهزاء؛ لأنه في نفسه قول حق، يوافق قول المؤمنين، كذلك هاهنا قالوا ما قالوا على طريق الاستهزاء، فلهذا أنكر الله تعالى عليهم، ورد قولهم، والدليل على أن المراد من هذا ما ذُكر من بعد وسنبين "
(1)
، وبيانه قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل:36]، يقول السمعاني:" معناه: فمنهم من هداه الله للإيمان، ومنهم من وجبت عليه الضلالة، وتركه في الكفر بالقضاء السابق، فهذه الآية تُبيِّن أن من آمن بمشيئة الله، وأن من كفر، كفر بمشيئة الله ".
(2)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 171
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 172
2 ـ وتعلقت القدرية بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزُّخرُف:20]، وبيَّن السمعاني وجه تعلقهم بالآية، فقال:" وقالوا: حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: " لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ " ثم عقبه بالإنكار والتهديد، فقال: " مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ " إي: يكذبون، وعندكم أن الأمر على ماقالوا "
(1)
. ثم رد السمعاني عليهم هذا التعلق من وجهين، فقال:" والجواب من وجهين: أحدهما: أن معنى قوله تعالى: " مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ " أي: ما لهم بقولهم إن الملائكة بنات الله من علم، إن هم إلا يخرصون، يعني: في هذا القول، وقد تم الكلام على هذا عند قوله: " لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ "، والإنكار غير راجع إليهم، ويجوز أن يحكي من الكفار ما هو حق، مثل قوله: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ "، وهذا القول حق وصدق.
والوجة الثاني: أن معنى قوله: " مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ "، أي: ما لهم في هذا القول من عذر، وقوله " إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ "، أي: يطلبون ما لا يكون من طلب العذر بهذا الكلام، حكاه النحاس، والأول ذكره الفراء، والزجاج، وغيرهما ".
(2)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 96
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 97
3 ـ تمسك القدرية بقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، يقول السمعاني:" واعلم أن ليس في الآية متعلق لأهل القدر أصلاً؛ فإن الآية فيما يصيب الناس من النعم والمحن، لا في الطاعات والمعاصي، إذ لو كان المراد ما توهموا، لقال: ما أصبت من حسنة فمن الله وما أصبت من سيئة، فلما قال: ما أصابك من حسنة، وما أصابك من سيئة، دَلَّ أنه أراد: ما يصيب العباد من النعم والمحن، لا في الطاعات والمعاصي، وحكى عبدالوهاب بن مجاهد، عن مجاهد، أن ابن عباس قرأ: " وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك "، وكذا حُكي عن ابن مسعود أنه قرأ كذلك، وهو معروف عن ابن عباس، وهو يُؤيد قولنا: إن المراد: بذنب نفسك "، أي في معنى قوله:" وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ " أي: ما أصابك من سيئة من الله، فذنب نفسك، عقوبة لك.
(1)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 451
4 ـ واستدل القدرية بقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام:148]، وقد بيَّن السمعاني وجه استدلالهم، فقال:" استدل أهل القدر بهذه الآية، فإنهم لما قالوا: " لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا " كذبهم الله تعالى، ورد قولهم، فقال: " كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " "
(1)
، ورد عليهم السمعاني استدلالهم بقوله:" قيل: معنى الآية: أنهم كانوا يقولون الحق، إلا أنهم كانوا يعدون ذلك عذراً لهم، ويجعلونه حجة لأنفسهم في ترك الإيمان، فالرد عليهم كان في هذا، بدليل قوله تعالى بعده {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149]، أي: الحجة بالأمر والنهي باقيه له عليهم، وإن شاء أن يشركوا " فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ " ولو لم يحمل على هذا، لكان هذا مناقضة للأول. وقيل: إنهم كانوا يقولون: إن الله أمرنا بالشرك، كما قال في الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28]، وكأن قوله " لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا " أي: هو الرب أمرنا بالشرك، فالرد في هذا، لا في حصول الشرك بمشيئته، فإنه حق وصدق، وبه يقول أهل السنة ".
(2)
5 ـ ومن العجيب من ذكره السمعاني، أن القدرية صحفوا قوله تعالى:{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} [الأعراف:156]، إلى قوله:(أصيب به من أساء) من الإساءة، قال السمعاني:" وليس بشيء".
(3)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 154
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 154
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 221
ونُشير أخيراً إلى تحكم وتناقض القدرية المعتزلة في تعاملهم مع النصوص، فهم لم يمتنعوا من إعمال العموم المستفاد من كلمة (كل) في قوله تعالى:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]، المفيد عموم علمه ولكنهم امتنعوا من إعماله في النصوص المفيدة عموم خلقه، كقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَر:62]، مع أن صيغة العموم في الموضعين واحدة، ولذا ألزمهم الإمام الأشعري بالعموم فيما اختلفوا فيه، قياساً على ما اتفقوا عليه.
(1)
ومشكلة المتكلمين عموماً، ما يقعدونه من قواعد، ينتج عنها تأويل النصوص عما أراد الله تعالى، ولذا فإن من القواعد التي وضعها المتكلمون؛ ليمايزوا على أساسها بين ما هو نص في مضمونه العقدي، وبين ما هو ظاهر يجب تأويله، فالمتكلمون يرون أن كل آية يقول الدليل العقلي على استحالة القول بمعناه المتبادر منه، لا تعتبر نصاً في ذلك المعنى، بل هي من قبيل الظواهر في الدلالة عليه. فالمعتزلة في هذا الباب، ينفون القدر، لاعتقادهم أن ذلك يتعارض مع العدل الإلهي، فيعتبرون الآيات المثبتة للقدر من قبيل الظواهر القابلة للتأويل، وغفلوا أن في مثل هذا نقص في ربوبية الله تعالى.
(2)
(1)
انظر: أحمد عبداللطيف: منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة: مكتبة الشنقيطي، جدة، ط 2، 1434 هـ، (187)
(2)
أحمد عبداللطيف: منهج إمام الحرمين: 209