الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع ذلك علَّق صاحب التحفة، بعد نقله الموسع عن صاحب فتح البيان قائلاً:" قلت: لو كان حديث سمرة المذكور، صحيحاً ثابتاً صالحاً للاحتجاج، لكان كلام صاحب فتح البيان هذا، حسناً جيداً، ولكنك قد عرفت أنه حديث معلول، لا يصلح للاحتجاج، فلا بُدَّ لرفع الإشكال المذكور، أن يُختار من هذه الأقوال التي ذكروها في تأويل الآية، ما هو الأصح والأقوى، وأصحها عندي هو ما اختاره الرازي وابن جرير وابن كثير "
(1)
قلت: ولعل قوله (وابن جرير) سبق قلم، والله أعلم، لأن ابن جرير ذهب إلى تعيين آدم
وحواء، وثانياً: لم يجر له ذكر في نقولاته.
المسألة الرابعة: توجيه قوله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام)
.
قال الله تعالى عن خليله إبراهيم: " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) "(إبراهيم 35). أورد السمعاني في شرحه لهذه الآية تساؤلاً مفاده: قد كان إبراهيم عليه السلام معصوماً عن عبادة الأصنام، فكيف يستقيم سؤاله لنفسه، وقد عبد كثير من بنيه الأصنام، فأين الإجابة؟!
(2)
وقد أجاب السمعاني عن هذا التساؤل من جهتين فقال:
1 ـ " أما ما يتعلق في حق إبراهيم، فالدعاء لزيادة العصمة والتثبيت، وبهذا فسَّره الزجاج.
2 ـ وأما في حق البنين فيقال: إن الدعاء لبنيه من الصلب، ولم يعبد أحد منهم الصنم، وقيل: إن دعاءه لمن كان مؤمناً من بنيه "
(3)
والذي ذكره السمعاني يخصص ما نُقل عن مجاهد قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده، قال: فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته.
(4)
يقول ابن عطية: " وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه، ومن حصل في رتبته، فكيف يخاف أن يعبد صنماً؟، لكن هذه الآية ينبغي أن يُقتدى بها في الخوف، وطلب الخاتمة "
(5)
(1)
المباركفوري: تحفة الأحوذي: 8/ 367
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 119
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 119، الزجاج: معاني القرآن: 3/ 164
(4)
الطبري: جامع البيان: 17/ 17
(5)
ابن عطية: المحرر الوجيز: 3/ 341
ومع هذا لجواب الذي ذكره السمعاني من فائدة الدعاء من إبراهيم الخليل، إلا أن الرازي، يقول: حتى على هذا التفسير، لا يزال السؤال باقياً، " لما كان من المعلوم أنه تعالى، يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب من عبادة الأصنام، فما الفائدة في هذا السؤال ". ويتابع الرازي حديثه، مبيناً الفائدة من هذا السؤال فيما ظهر له فيقول:" والصحيح عندي في الجواب وجهان: الأول: أنه عليه السلام، وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام، إلا أنه ذكر ذلك هضماً لنفسه، وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب. والثاني: أن الصوفية يقولون: إن الشرك نوعان: شرك جلي، وهو الذي يقول به المشركون، شرك خفي: وهو تعليق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة، والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسائط، ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى، فيحمل أن يكون قوله " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ " المراد منه: أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي، والله أعلم بمراده "
(1)
ويقول التستري: " فهذا كله تبرء من الحول والقوة، بالافتقار إليه "
(2)
وأورد السمعاني احتمالين، لفهم قول إبراهيم الخليل:" وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "(إبراهيم 36)، إذ الشرك غير مغفور؛ فقال السمعاني: يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه قال هذا قبل أن يُعلمه الله، أنه لا يغفر الشرك.
والآخر: أن المراد من العصيان، هو ما دون الشرك.
(3)
ونزع الرازي، إلى أن المقصود من هذه الآية، شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة
(4)
. والجمهور على أن المقصود، بالمعصية هنا، عبادة الأوثان، ولكن على ما يحمل قوله؟ إما على أنه لم يُعلمه الله أنه لا يغفر الشرك، أو أنه عبد الأوثان ثم تاب منها.
(5)
(1)
الرازي: مفاتيح الغيب: 19/ 101
(2)
التستري: تفسير التستري: دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1423 هـ، (124)
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 120
(4)
الرازي: مفاتيح الغيب: 19/ 102
(5)
ابن أبي زمنين: تفسير القرآن العزيز
كل ما سبق بيانه، يوضح بجلاء، اهتمام الإمام السمعاني، ببيان عقيدة التوحيد التي جاء بها القرآن، ولما كان مدار التوحيد، على هذا النوع، فقد أولاه السمعاني عناية فائقة، فعَرَّف، وبيَّن، ودَلَّل، ووجَّه، وصَوَّب، وهذا كله واضح فيما سردناه من مسائل متعلقة بهذا النوع من التوحيد. والإمام السمعاني سار في طريقته كما بيَّنا، على طريقة السلف الأوائل، من جهة البيان والاستدلال. ويظهر هذا واضحاً في المباحث التي سُقناها، فقد أشار السمعاني إلى عدة أمور في بيان هذا النوع من التوحيد:
1 ـ جهة الاشتقاق اللفظي، والتصريف اللغوي، لمعنى كلمة الإله. ومن ذلك، بيانه لأصل كلمة (اللهم) فقال:"فأصله: يا الله، فما حذف حرف النداء، زيدت الميم في آخره، قال الفراء: الميم فيه معنى، ومعناه: يا الله، أعنا بالمغفرة، أي اقصدنا "
(1)
وذكر بعض العلماء، فرقاً لطيفاً بين قول (الله)، وقول (إله): فقال: " إن قولنا (الله) اسم لم يسم به غير الله، يُسمى غير الله إلهاً على وجه الخطأ، وهي تسمية العرب الأصنام آلهة، وأما قول الناس: لا معبود إلا الله، فمعناه: أنه لا يستحق العبادة إلا الله تعالى "
(2)
وقال في بيان الفرق بين قول (الله)، وقول (اللهم):" إن قولنا (الله) اسم، واللهم نداء، والمراد به: يا الله، فحذف حرف النداء، وعوض الميم في آخره "
(3)
2 ـ اهتمامه بذكر دلائل هذا النوع من التوحيد، وأن الخلق كلهم مسؤولون عنه، فقد نقل عن أبي العالية قوله:" إن جميع الخلق يسألون عن شيئين: عن التوحيد، وعن إجابة المرسلين "
(4)
، وذلك عند تفسير قوله تعالى:" فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) "(الحجر 92 ـ 93).
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 306
(2)
الحسن العسكري: الفروق اللغوية: دار العلم والثقافة، القاهرة، (185)
(3)
الحسن العسكري: الفروق اللغوية: (186)
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 153
وأن القلوب السليمة عن الشرك، الذي هو مضاد التوحيد، هي القلوب السليمة المستقيمة، التي ينتفع بها صاحبها يوم القيامة، قال تعالى:" يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) "(الشعراء 88 ـ 89)، يقول السمعاني:" قال أكثر أهل العلم: سليم من الشرك، فإن الآدمي لا يخلو من ذنب، وقيل: مخلص، وقيل: ناصح، وقيل: قلب فيه لا إله إلا الله ".
(1)
وبين أن صاحب التوحيد الخالص، أحق بالأمن والاهتداء، قال:" وحجته في ذلك: أن الذي يعبد الله، لا يشرك به شيئاً، أحق بالأمن من الذي يعبد الله ويشرك به "
(2)
3 ـ إسهامه الواسع في تتبع أنواع العبادة، التي هي أساس هذا التوحيد، سواء كانت عبادات قلبية، أو بدنية.
4 ـ التطواف الطويل في ذكر دلائل استحقاق الله جل وعلا للعبودية، وذكر ما يضادها.
5 ـ وأن أكبر مضاد للتوحيد، هو الشرك بالله تعالى، والذي يراد به الشرك في العبادة، ولذا أشار إلى أوجه التنفير منه في كتاب الله جل وعلا؛ ليجتنبه المرء، ويكون عنه في معزل، ويدعو بدعوة أبيه إبراهيم:" وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ "، بمعنى: بعدني وبني من عبادة الأصنام ".
(3)
ونجد اهتمامه واضحاً جلياً، بالتحذير من خطورة الشرك والرد على المخالفين، في ذكر صوره وأنواعه.
6 ـ ولما كان القرآن الكريم كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك، وأهله، وجزائهم
(4)
، أفاض السمعاني في ذكر التوحيد، وفضائله، وذكر ما يضاده، بأبلغ عبارة، وأوجز بيان.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 55
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 122
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 119
(4)
ابن القيم: مدارج السالكين: 3/ 418
7 ـ أزاح الإمام السمعاني بعض ما يُشكل، أو يطرأ على ذهن القارئ، حين قراءته وتدبره لكلام الباري جل وعلا، ولذا نجد أنه يوجه في كثير من المواطن الآيات، بما يتوافق مع المسلَّمات، أو يحل ما يعرض من إشكال أو تعارض، كله يرجع إلى ذهن القارئ، وإلا فالقرآن الكريم لا يمكن أن يحصل فيه تناقض أو تعارض؛ لأنه من عند الله تعالى، والله يقول:" وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا "(النساء 82)، ".
قال ابن عباس: ليس في القرآن تناقض ولا تفاوت، وقال الزجاج: ما أخبر عن الغيب فكله صدق، ليس بعضه صدقاً، وبعضه كذباً، وقيل: معناه: أن كله بليغ فصيح، ليس فيه مرذول ولا فاسد "
(1)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 453
الفصل الأول: الإيمان بالله تعالى
المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات
المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات
المطلب الثاني: منهج السلف في باب الأسماء والصفات
المطلب الثالث: معاني أسماء الله تعالى وصفاته، ومقتضياتها
المطلب الرابع: بعض الصفات الواردة في القرآن
المطلب الخامس: مسائل في توحيد الأسماء والصفات