الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
ذكر بعض الفضائل المتعلقة ببعضها؛ كما في السجود مثلا.
3 -
إيراد بعض الإشكالات الواردة على بعضها.
وتقرير السمعاني يسير في فلك الجو القرآني، ولذا يُعد تقريره بمثابة التأصيل للمسائل، والرد على المخالف؛ فحين يُثبت ما أثبته القرآن من كون الدعاء عبادة، يردفه ببيان خطورة صرف العبادة لغير الله تعالى؛ لأنها محض حق له جل وعلا، فهو بهذا يرد على الطوائف الغالية في هذا الباب، الذين يصرفون الدعاء وغيره لغير الله تعالى، ويتقربون به لغيره، فهو وإن لم يصرح به، لكن إثبات أصله يُعد ردا ضمنيا على ما خالفه.
ومن العبادات التي أولاها السمعاني اهتمامابالغا: الدعاء، والسجود، والذكر.
1 ـ الدعاء
(1)
:
ناقش السمعاني في الدعاء أربع مسائل:
1 -
كون الدعاء عبادة، وأنه لا يجوز صرفه لغير الله تعالى.
2 -
الإجابة عن تساؤل يعرض للذهن: كيف لا يُستجاب الدعاء، مع وعد الله تعالى بالإجابة؟
3 -
جواب عن استشكال: لو قال قائل في قوله تعالى: (وآتاكم من كل ما سألتموه)، نحن نسأله أشياء ولا يُعطينا؟
4 -
آداب الدعاء.
المسألة الأولى:
دلت الدلائل الشرعية، على كون الدعاء عبادة، بنوعيه، دعاء العبادة، ودعاء المسألة. قال تعالى:" ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) "(الأعراف 55)، قال ابن عطية:" وهذا أمر بالدعاء وتعبد به "
(2)
.
(1)
((يقول الإمام الزجاج: " ومعنى الدعاء لله عز وجل على ثلاثة أضرب: فضرب منها: توحيده والثناء عليه، كقولك: يا الله لا إله إلا أنت، وضرب ثانٍ: هو مسألة الله العفو والرحمة وما يقرب منه، كقولك: الله اغفر لنا، وضرب ثالث: هو مسألته في الدنيا كقولك: اللهم أرزقني مالاً وولداً. وإنما يسمى هذا أجمع دعاء؛ لأن الإنسان يصدر في هذه الأشياء، بقوله: يا الله، ويارب، ويا رحيم، فذكر ذلك سُمي دعاءً " معاني القرآن: 1/ 255
(2)
((ابن عطية: المحرر الوجيز: 2/ 410
وقد استدل السمعاني على ذلك بقوله تعالى: " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) "(غافر 60)، فقال:" قد ثبت برواية نعمان بن بشير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية
(1)
.
وعن ثابت قال: قلت لأنس: الدعاء نصف العبادة، قال: هو كل العبادة.
وقوله: " إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي " أي: عن دعائي، ويُقال: عن توحيدي "
(2)
.
فالدعاء عبادة لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا، ومما يدل على كونه عبادة، أن الله تعالى عاب على الأصنام التي تُعبد من دون الله تعالى، أنها لا تسمع الدعاء، بخلاف الباري جل وعلا، فإنه أثنى على نفسه بقوله:" إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى "(طه 46)، أما الأصنام فقال عنها:" إِن تَدْعُوهُمْ لَايَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) "(فاطر 14)، يقول السمعاني:" يعني: إن تدعوا الأصنام لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم " أي: ما أجابوكم"
(3)
.
وقال تعالى: " وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً "(البقرة 171): يقول السمعاني: " وقيل معناه: مثل الكفار، في دعاء الأصنام "
(4)
.
(1)
((أخرجه أبو داود في سننه؛ باب الدعاء، ح (1479)، المكتبة العصرية، بيروت.
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 28
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 353
(4)
((السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 168
وقال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) "(الأعراف 194)، يقول السمعاني:" وهذا لبيان عجزهم، ثم أكدَّه فقال: " أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا " (الأعراف 195)، وذلك أن قدرة المخلوقين تكون بتلك الآلات والجوارح، وليست لهم تلك الآلات، بل أنتم أكبر قدرة منهم لوجود هذه الأشياء فيكم "
(1)
وهذا الدعاء لا يجوز بحال، قال تعالى:" وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) "(يونس 106)، يقول السمعاني:" الدعاء يكون بمعنيين: أحدهما: بمعنى النداء، كقولك: يا زيد، يا عمرو، والآخر: بمعنى الطلب "
(2)
.
المسألة الثانية:
قول الله جل وعلا: " أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ "(البقرة 186)، وقوله تعالى " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "(غافر 60)، وقد يُدعى فلا يستجيب، فما وجه هاتين الآيتين؟! قيل: إن جواب القائل: كيف لا يُستجاب الدعاء مع وعد الله بالاستجابة يظهر من عدة أوجه
(3)
:
1 ـ قيل: أن يكون معنى الدعاء الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب، كأنه قال: أُجيب دعوة الداعي بالثواب إذا أطاعني. وهو معنى قول الإمام الطبري، في أحد وجهي إجابته عن هذا التساؤل، فقال:" أن يكون معنياً بالدعوة: العمل بما ندب الله إليه وأمر به، فيكون تأويل الكلام: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ممن أطاعني، وعمل بما أمرته به، أُجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني "
(4)
.
(1)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 241
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 409
(3)
((الثعلبي: الكشف والبيان: 2/ 75، الماوردي: النكت والعيون: 1/ 243،
البغوي: معالم التنزيل: 1/ 226
(4)
((الطبري: جامع البيان: 3/ 385
2 ـ وقيل: معنى الآيتين خاص، وإن كان لفظهما عاماً، تقديرهما: أُجيب دعوة الداعي إن شئت، وأُجيب دعوة الداعي إن وافق القضاء، أو أجيبه إن كانت الإجابة خيراً له، أو أجيبه إن لم يسأل محالاً.
3 ـ وقيل: هو عام، ومعنى قوله: أُجيب، أي: أسمع.
4 ـ وقيل: إن معنى الآية: أنه لا يخيب من دعاه، فإن قُدِّر له ما سأل أعطاه، وإن لم يقدر له، ادخر له الثواب في الآخرة، أو كف عنه به سوءاً في الدنيا.
5 ـ وقيل: إن الله تعالى يُجيب دعاء المؤمن في الوقت، ويُؤخر إعطاء من يُحب مراده؛ ليدعوه فيسمع صوته، ويعجل إعطاء من لا يُحبه؛ لأنه يبغض صوته.
6 ـ وقيل: إن للدعاء آداباً وشرائط، وهي أسباب الإجابة، فمن أستكملها، كان من أهل الإجابة، ومن أخلَّ بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء، فلا يستحق الإجابة.
وقد ذكر الإمام السمعاني في تفسيره ثلاثة أجوبة
(1)
:
1 ـ تعليقه بالمشيئة؛ يعني: تعليق إجابة الدعاء بالمشيئة.
2 ـ بمعنى السماع؛ أراد بالإجابة السماع، أي أسمع دعوة الداعي.
3 ـ هو على حقيقته، وهو الوجه الرابع الذي ذكرناه، أي أنه لا يخيب من دعاه، فإنه إذا دعاه بما قُدر له أعطى، وإن دعاه بما لم يُقدر له، يُدخر له الثواب في الآخرة، فلا يخيب دعاءه.
(1)
((السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 185 - 2/ 103
وقد وردت السنة النبوية المطهرة، مؤيدة القول الثالث الذي ذكره السمعاني، فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة، إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم "
(1)
. وكأن السمعاني يميل ـ والله أعلم ـ إلى القول الأول؛ لأنه قال في موطن آخر: " فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ "(الأنعام 41)، قَيَّد الإجابة بالمشيئة هاهنا، وأطلقها في قوله:" " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "" قال أهل العلم: وذلك مقيد بالمشيئة أيضاً، بدليل هذه الآية "
(2)
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: " وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ "(إبراهيم 34): يقول الإمام السمعاني: " يعني: من كل الذي سألتموه "
(3)
، ولكن إن قال قائل: نحن نسأله أشياء ولا يُعطينا، فما الجواب؟! قيل في الجواب:
1 ـ إما أن يكون في الآية إضمار شيء، فيكون المعنى: آتاكم من كل شيء سألتموه شيئاً، وهذا الإضمار، كقوله تعالى:" وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ"(النمل 23)، أي: أوتيت من كل شيء في زمانها شيئاً.
2 ـ وقيل: هو محمول على التكثير، كقولك: هو يعلم كل شيء، وأتاه كل الناس، وهو يعني بعضهم.
3 ـ وقيل: محمول على سؤال الجميع، بمعنى:" ليس من شيء إلا وقد سأله بعض الناس، فقال: " وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ "، أي: من كل ماسألتموه، قد آتي بعضكم منه شيئاً، وآتي آخر شيئاً مما قد سأل "
(4)
.
4 ـ وقيل: إن (ما) نافية، وهذا على قراءة الحسن بتنوين (كلٍ)، فيكون المعنى: من كل ما لم تسألوه، يعني: أعطاكم أشياء ما طلبتموها، ولا سألتموها.
(1)
((أخرجه الترمذي في جامعه، أبواب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، ح (3381)، شركة مكتبة ومطبعة البابي، مصر، ط 2، 1395 هـ، (5/ 462)
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 103
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 118
(4)
((الأخفش: معاني القرآن، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1، 1411 هـ، (2/ 408)
5 ـ وقيل: إن المعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه، ولو سألتموه، وهو مروي عن الفراء
(1)
.
وأما الإمام السمعاني فقد أجاب بجوابين:
(2)
الأول: أن جنسه يُعطى الآدميين، وإن لم يُعطه على التعيين، فاستقام الكلام بهذا.
الثاني: قيل معناه: من كل ماسألتموه، ولم تسألوه.
ثم أشار إلى قراءة التنوين، حيث تكون (ما) نافية، فقال:" وأما القراءة الثانية، فمعنى (ما) هو النفي، ومعناه: أعطاكم أشياء لم تسألوها، فإن الله تعالى أعطانا الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم والرياح، وما أشبه ذلك، ولم نسأله شيئاً منها ".
(3)
وقد رد الطبري هذه القراءة، ورجح الجواب الأول فقال:" والصواب من القول في ذلك عندنا: القراءة التي عليها قراء الأمصار، وذلك إضافة (كل) إلى (ما)، معنى: وآتاكم من سؤلكم شيئاً، على ما بينا من قبل؛ لإجماع الحجة من القراء عليها، ورفض القراءة الأخرى"
(4)
.
المسألة الرابعة:
قال الله تعالى: " ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) "(الأعراف 55): تضمنت هذه الآية شيئين:
أحدهما: محبوب للرب تبارك وتعالى، مرضي له، وهو الدعاء تضرعاً وخفية.
والثاني: مكروه له، مبغوض، مسخوط، وهو الاعتداء، فأمر الله بما يحبه، وندب إليه، وحذر مما يبغضه وزجر عنه، بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير، وهو أنه لا يحب فاعله، ومن لم يحبه الله فأي خير يناله.
(5)
ففي الآية الكريمة أدبين من آداب الذكر والدعاء:
(1)
((ابن الجوزي: زاد المسير: 2/ 514
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 118
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 119
(4)
((الطبري: جامع البيان: 17/ 16
(5)
((ابن القيم: تفسير القرآن الكريم: دار الهلال، بيروت، ط 1، 1410 هـ (263)
الأدب الأول: أن يكون الدعاء ممزوجا بالتضرع، والتذلل والخضوع لله جل وعلا، يقول السمعاني: أي: ضارعين متذللين خاشعين، وخفية أي سرا
(1)
، وقد بيَّن السمعاني المعنى ووضحه عند تفسير قوله تعالى:(قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية) فقال: أي: علانية وسرا، وقيل: أن يكون السر مع الجهر في الدعاء، بحيث يدعو باللسان وسره معه
(2)
ويكون في حال السر، فخير الدعاء الخفي. وهنا سؤالان:
الأول: لِمَ كان الإخفاء معتبرا في الدعاء؟
الثاني: ما السِّر في إخفاء زكريا عليه السلام دعاءه، كما في قوله تعالى:" إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا "(مريم 3)؟
والجواب عن الأول يُقال: إن الإخفاء معتبر في الدعاء لأمور:
1 ـ الأمر به في هذه الآية الكريمة، والأمر دائر بين الوجوب والاستحباب، فَدَّل على اعتباره.
2 ـ أن الله تعالى أثني على زكريا عليه السلام فقال: " إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا "(مريم 3)، أي: أخفاه عن العباد، وأخلصه لله تعالى، وانقطع به إليه.
3 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالتكبير:" أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً "
(3)
4 ـ أن النفس شديدة الميل، عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة، فإذا رفع صوته في الدعاء، امتزج الرياء بذلك الدعاء، فلا يبقى فيه فائدة البتة، فكان الأولى إخفاء الدعاء؛ ليكون مصونا عن الرياء.
(4)
5 ـ وأن ذلك أدعى لإجابة الدعاء.
(5)
6 ـ وأنه أعظم إيماناً؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى، يسمع دعاءه الخفي.
7 ـ وأنه أعظم في الأدب والتعظيم.
8 ـ وهو أبلغ في التضرع والخشوع، الذي هو روح الدعاء، ولبه، ومقصوده.
(1)
- السمعاني: مرجع سابق: 2/ 189
(2)
- السمعاني: مرجع سابق: 2/ 113
(3)
((أخرجه البخاري في صحيحه، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ح (2992)
(4)
((الرازي: مفاتيح الغيب 14/ 281
(5)
((أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 68
9 ـ وهو أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته.
(1)
10 ـ أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يكل لسانه، وتضعف بعض قواه.
11 ـ أن إخفاء الدعاء، أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات.
(2)
12 ـ " وحسبك في تعيّن الإسرار في الدعاء، اقترانه بالتضرع في الآية، فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه، ولا خُشوع فيه لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه "
(3)
.
13 ـ ويقول الحسن: إن الله يعلم القلب التقي، والدعاء الخفي
(4)
.
وقد أجاب السمعاني على التساؤل الآخر بما يلي:
(5)
1 ـ إنما أخفى زكريا عليه السلام دعاءه؛ لأنه أفضل، كما بُيَّن في الجواب السابق.
2 ـ قيل: لأنه استحيا من الناس، أن يدعو جهراً، فيقولون: انظروا إلى هذا الشيخ يسأل على كبره الولد.
3 ـ ويُقال: إنه أخفى؛ لأنه دعاء في جوف الليل، وهو ساجد.
الأدب الثاني: عدم الاعتداء في الدعاء:
قال تعالى: " ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) "(الأعراف 55): هنا ذكر السمعاني، بعض الأخبار التي فيها النهي عن الاعتداء في الدعاء، وبعض أوجه هذا التعدي.
إلا أن المفسرين اختلفوا في المراد بهذا الاعتداء في الآية على قولين:
الأول: أن المراد به: الاعتداء في الدعاء، وإن كان اللفظ عاما
(6)
.
الثاني: أن المراد به: المجاوزون ما أمر الله تعالى به، ذكره الزجاج
(7)
.
(1)
((ابن القيم: تفسير القرآن: 254
(2)
((ابن القيم: تفسير القرآن: 257
(3)
((ابن المنير: الانتصاف فيما تضمنه الكشاف: 2/ 110، مطبوع ضمن تفسير الزمخشري.
(4)
((الزمخشري: الكشاف: 2/ 110، وقد ذكر الخازن في تفسيره (لباب التأويل 2/ 210) خلاف العلماء في المفاضلة بين الإظهار والإخفاء.
(5)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 277
(6)
((ابن عطية: المحرر الوجيز: 2/ 410
(7)
((الزجاج: معاني القرآن: 2:344، وبه فسرها الرازي، مفاتيح الغيب: 14/ 282
وقد فسّرها الإمام السمعاني بالدعاء
(1)
، لكن بعض العلماء قالوا: هو أوسع من ذلك وأشمل، يقول الرازي:" اعلم أن كل من خالف أمر الله تعالى ونهيه، فقد اعتدى وتعدى، فيدخل تحت قوله: " إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ "
(2)
.
وقال ابن القيم بعد أن ذكر الخلاف في الاعتداء: " فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان الاعتداء في الدعاء مراداً بها، فهو من جملة المراد، والله لا يحب المعتدين في كل شيء، دعاء كان أو غيره "
(3)
، ولذا قال ابن عطية:" المعتدي هو: مجاوز الحد، ومرتكب الخطر "
(4)
.
وقد ذكر الإمام السمعاني أن الاعتداء في الدعاء يكمن في عدة صور، منها:
1 -
الجهر بالدعاء، وذكر عن ابن جريج قوله: الجهر بالدعاء عدوان.
2 -
أن يسأل لنفسه درجة ليس من أهلها، بأن يسأل درجة الأنبياء، وليس بنبي، ودرجة الشهداء، وليس بشهيد
(5)
.
وذكر المفسرون صورًا أخرى للتعدي في الدعاء منها
(6)
.
3 -
أن يدعو باللعنة والهلاك على من لا يستحق.
4 -
ونُقل عن ابن جريج: أن الصياح في الدعاء مكروه وبدعة.
5 -
الإسهاب في الدعاء.
6 -
أن يدعو طالباً معصية وغير ذلك.
7 -
أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظا مفقرة، وكلمات مُسجَّعة، قد وجدها في كراريس لا أصل لها، ولا معوّل عليها، فيجعلها شعاره، ويترك مادعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره القرطبي في تفسيره
(7)
.
(1)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 189
(2)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 14/ 282
(3)
((ابن القيم: تفسير القرآن: 262
(4)
((ابن عطية: المحرر الوجيز: 2/ 410
(5)
((السمعاني: تفسير القرآن:2/ 189
(6)
((الماوردي: النكت والعيون:2/ 231، الزمخشري: الكشاف:2/ 111، ابن عطية: المحرر الوجيز:2/ 410
(7)
((القرطبي: الجامع لأحكام القرآن:7/ 226
8 -
قال ابن القيم: " فالاعتداء في الدعاء، تارة: بأن يسأل ما لايجوز له سؤاله، من الإعانة على المحرمات، وتارة بأن يسأل ما لايفعله الله، مثل: يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء ".
ثم ذكر ابن القيم ضابطا للاعتداء في الدعاء فقال: " فكل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، فهو اعتداء لايحبه الله "
(1)
.
وقد ذكر الشيخ العثيمين ضابطا آخر للاعتداء في الدعاء، فقال:" ومن الموانع الاعتداء في الدعاء، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، ومنها: أن يدعو بما لايمكن شرعاً وقدراً، فشرعا كأن يقول: اللهم اجعلني نبيا، وقدرا، بأن يدعو الله بأن يجمع بين النقيضين، وهذا أمر لايمكن، فالاعتداء في الدعاء، مانع من إجابته، وهو محرم، لقوله تعالى:" ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (الأعراف 55)، وهو أشبه مايكون بالاستهزاء بالله سبحانه "
(2)
.
وخلاصة هذه العبادة العظيمة، عبادة الدعاء:
1 -
أنها عبادة بدلالة الشرع، وهو مابينه السمعاني، ومما استدل به غير ماسبق.
قوله تعالى:" وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسَى أَلَّا
أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا" (مريم 48)، يقول السمعاني: وقوله:"وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه"، أي: تعبدون من دون الله، وقوله:" وَأَدْعُوا رَبِّي ": أي أعبد ربي، وقوله:"عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا"عسى من الله واجب، والدعاء: بمعنى العبادة، والشقاوة: الخيبة من الرحمة
(3)
.
(1)
((ابن القيم: تفسير القرآن:261
(2)
((العثيمين: مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد العثيمين، دار الوطن، دار الثريا، 1413 هـ، (10/ 918)
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن:3/ 296