الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: المنهج الاستدلالي لدراسة مسائل العقيدة:
السمعاني من أهل النظر والاجتهاد، وهو من أهل المعرفة بالدلائل وطرق الاستدلال، وممن له معرفة ودراية فائقة بأصول الاستنباط، يَعرف هذا كل من نظر في تصانيفه ومؤلفاته، ولذا كان المنهج الاستدلالي عند السمعاني منهجا متميزا، يقوم على فهم دقيق، ونظر ثاقب، فهو من أهل هذا الفن وأساطينه، ولما كان السمعاني قد حاز قصب السبق في زمنه في علم أصول الفقه - يشهد له كتابه القواطع - الذي يُعد علما تأصيليا لأصول الاستدلال وطرق الاستنباط، فقد كان لهذا العلم أثر بارز في تشكيل الفهم الصحيح، والاستدلال الواضح القريب للإمام السمعاني، والإمام السمعاني قد أبان عن أصول الأدلة التي يُعتمد عليها في الاستدلال، فقال:" عامة الفقهاء الأصول أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، ومعقول الأصل وهو القياس"
(1)
، وصحح هذا القول؛ لأنه أشار إلى أن بعضهم ضم إلى هذه الأصول الأربعة بعض الأصول الأخرى؛ كالعقل، والحس، واللغة، ورد على من جعلها أصولا للأدلة.
فمنهج الإمام السمعاني الاستدلالي يقوم على عدة مرتكزات:
أولا: الاهتمام بنقل الإجماعات في المسائل التي يقررها ويُؤصل لها: وقد استدل له بقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى)(النساء 115): واستدل أهل العلم بهذه الآية على أن الإجماع حجة
(2)
، وقال: الإجماع حجة من حجج الشرع، ودليل من دلائل الله تعالى على الأحكام، وهو حجة مقطوع بها
(3)
، ومرة يذكر إجماع أهل السنة، ومرة أخرى يذكر إجماع المفسرين، ومن المواطن التي حكى فيها الإجماع في هذا الباب بنوعيه قوله:
- والقرآن كلام الله غير مخلوق، وعليه إجماع أهل السنة
(4)
.
- والأخبار في الشفاعة كثيرة، وأول من أنكرها عمرو بن عبيد، وهو ضال مبتدع بإجماع أهل السنة
(5)
.
(1)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 22
(2)
- السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 479
(3)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 462
(4)
- السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 90
(5)
- السمعاني: مرجع سابق:3/ 270
- (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)(الإسراء 79):أجمع المفسرون أن هذا مقام الشفاعة
(1)
.
فالسمعاني يحتج بالإجماعات في أبواب العقائد، ومن ذلك قوله: وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم، على رواية الأحاديث في صفات الله عز وجل، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصل الإيمان، والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وفي فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، مناقب أصحابه، وأخبار الأنبياء المتقدمين عليه، وكذلك أخبار الرقائق والعظات، وما أشبه ذلك مما يكثر عده وذكره
(2)
.
ثانيا: استدلاله بالمحكمات البينات الواضحات: وهذا بين في استدلالاته على المسائل الكبرى، ومن أمثلة ذلك: استدلاله على ثبوت الصفات الإلهية لله تعالى بأدلة واضحة بينة، بعيدا عن تحريفات المتأولين، الذين يتعلقون ببعض المتشابهات التي يردون بها الحق الواضح البين، ويعلقون عليها آراءهم.
ثالثا: استدلاله بأقوال الصحابة والتابعين، وقول أئمة اللغة والقراءات: وهذا مبثوث في كلامه.
رابعا: اهتمامه بالتعليل: خاصة أن السمعاني يُورد بعض التساؤلات التي تحتاج لجواب مُعَلل، وهذا موجود بكثرة في تفسيره، وذكر السمعاني أن الصحابة كانوا يُعللون؛ ونقل عن علي رضي الله عنه قوله في حد الخمر: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون، فقد ذكر تعليلا، وقالت الصحابة لأبي بكر رضي الله عنهم: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فرضيناك لدنيانا
(3)
، ومن نماذج التعليل التي ذكرها السمعاني:
(1)
- السمعاني: مرجع سابق: 3/ 269
(2)
- السمعاني: الانتصار:36
(3)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 2/ 141
- قال في تفسير قوله تعالى: (وإياك نستعين)(الفاتحة 5): إنما كرره
…
ليعلم أنه المعبود، وأنه المستعان، وعلى أن العرب قد تتكلم بمثل هذا، قد يدخل الكلام تجريدا أو تفخيما وتعظيما، ولا يُعد ذلك عيبا؛ كما تقول العرب: هذا المال بين زيد وبين عمرو، وإن كان يفيد قولهم: المال بين زيد وعمرو، ما يفيد الأول، ولا يُعد ذلك عيبا، بل عُدَّ تفخيما وتجزيلا للكلام
(1)
.
- وقال في تفسير قوله تعالى: (بديع السموات والأرض)(الأنعام 117): أي مبدعها، قال ابن عباس: هو الخالق لا على مثال سبق، ومنه المبتدع؛ لأنه أحدث ما لم يسبق إليه
(2)
.
- وقال في تفسير قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم)(البقرة 120): قيل: إنه خطاب للنبي، والمراد به الأمة؛ لأنه كان معصوما من اتباع الأهواء
(3)
.
خامسا: جمعه بين النصوص والتأليف بينها: ومن النماذج التي أبرزها السمعاني في هذا الباب، ما يتعلق بمسألة الرؤية، فقد ذكر أن مذهب أهل السنة: أن الرؤية حق، ورد بها القرآن والسنة، واحتج لها بالنصوص الواردة في ذلك، وأورد على هذه النصوص المثبتة، قوله تعالى:(لا تدركه الأبصار)(الأنعام 103)، وبين أنه لا تعارض بينها، وقد ذكر في وجه الجمع بينها طريقين:
1 -
قوله: فالإدراك غير الرؤية؛ لأن الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء وحقيقته، والرؤية هي المعاينة، وقد تكون بلا إدراك، قال الله تعالى في قصة موسى:(فلما ترآء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا) فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، وإذا كان الإدراك غير الرؤية، فالله تعالى يجوز أن يُرى، ولكن لا يُدرك كنهه؛ إذ لا كنه له حتى يُدرك، وهذا كما أنه يعلم ويعرف ولا يُحاط به، كما قال:(ولا يحيطون به علما) فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم.
(1)
- السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 37
(2)
- السمعاني: مرجع سابق: 1/ 130
(3)
- السمعاني: مرجع سابق: 1/ 133
2 -
قوله: وقال ابن عباس: معنى قوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: في الدنيا، وهو يرى الخلق، ولا يراه الخلق في الدنيا؛ بدليل قوله تعالى:(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) فكما أثبتت الرؤية بتلك الآية في الآخرة، دل أن المراد بهذه الآية الإدراك في الدنيا؛ ليكون جمعا بين الآيتين
(1)
.
سادسا: الاستنباط الدقيق من الأدلة، وتوسيع دائرة الدليل؛ ليحوي أوجها متعددة.
سابعا: تكرار الأدلة المتنوعة على المسألة الواحدة، وحشدها في مكان واحد أو أمكنة متعددة؛ حتى تصير المسألة المستدل لها من أوضح الواضحات، فتتوارد الأدلة على معنى واحد؛ لتثبته في القلوب، وتطبعه في النفوس.
ثامنا: الاستدلال على المخالف بالحجج الإقناعية، والبراعة في قلب الأدلة على المخالفين، والإلزام بما ينقض قول المخالف.
تاسعا: إعمال القواعد الأصولية المتفق عليها عند أهل هذا الفن، وهو من أهله، وأحد أساطينه.
(1)
- اسمعاني: مرجع سابق: 2/ 133
- وهنا أُشير إلى مسألة مهمة، تتعلق بالاجتهاد في العقائد: فبعضهم يرى أن العقائد لا يجري فيها باب الاجتهاد؛ لأن العقائد المطلوب فيها الجزم واليقين، وهذا هو الصحيح، لكن هذا يُحمل على غالب أمرها، خاصة في المسائل الكبرى والأصول العظمى؛ لأنه قد يأتي نص مُشكل في ظاهره، فتختلف فيه أنظار العلماء، فيجري الاجتهاد في هذا النص وأمثاله، ولذا فالاجتهاد كما هو حاصل في المسائل العملية، كذلك هو حاصل في المسائل العلمية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كما قد بُسط في غير موضع؛ كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويُبين المراد ولم يعرفه "
(1)
، ويقول:" وإني أُقرر أن الله غفر لهذه لأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العلمية"
(2)
، لكن قيّد شيخ الإسلام في موطن آخر الاجتهاد في العقائد فقال:" وقد يغفر لأجل تأويل إذا كان مجتهدا، الاجتهاد الذي يُعفى معه عن المخطئ"
(3)
، ويُفهم من كلامه: أن ما لا يُعفى معه عن المخطئ، فيعاقب ولا يُعذر
(4)
.
والاجتهاد كذلك يكون في النوازل المستجدة التي تحدث في الأمة في باب العقائد، يقول الشاطبي بعد أن سرد الآثار عن السلف الذامة للرأي:" ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي، لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الاجتهاد على الأصول في نازلة، لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع، ممن يعرف الأشباه والنظائر، ويفهم معني الأحكام، فيقيس قياس تشبيه وتعليل، قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه، فهذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس، وإنما القياس الهادم ما عارض الكتاب والسنة، أو ما عليه سلف الأمة، أو معانيها المعتبرة"
(5)
.
(1)
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 20/ 33
(2)
- ابن تيمية: مرجع سابق: 3/ 229
(3)
- ابن تيمية: مرجع سابق: 4/ 195
(4)
- عبد اللطيف آل الشيخ: منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس، دار الهداية للطبع والنشر، (273).
(5)
- الشاطبي: الاعتصام: 796
وقد ورد عن الإمام السمعاني نصا يمنع ظاهره الاجتهاد في العقائد، يقول فيه:" أن الحوادث للناس والفتاوى في المعاملات ليس لها حصر ولا نهاية، وبالناس إليها حاجة عامة، فلو لم يجز الاجتهاد في الفروع، وطلب الأشبه بالنظر والاعتبار، ورد المسكوت عنه إلى المنصوص عليه بالأقيسة، لتعطلت الأحكام، وفسدت على الناس أمورهم، والتبس أمر المعاملات على الناس. ولا بد للعامي من مفت، فإذا لم يجد حكم الحادثة في الكتاب والسنة، فلا بد من الرجوع إلى المستنبطات منهما، فوسع الله هذا الأمر على هذه الأمة، وجوز الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول لهذا النوع من الضرورة، ومثل هذا لا يوجد في المعتقدات؛ لأنها محصورة محدودة، قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة، فإن الله تعالى أمر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم باعتقاد أشياء معلومة لا مزيد عليها ولا نقصان عنها، وقد أكملها بقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) فإذا كان قد أكمله وأتمه، وهذا المسلم قد اعتقده وسكن إليه، ووجد قرار القلب عليه، فبماذا يحتاج إلى الرجوع إلى دلائل العقل وقضاياه، والله أغناه عنه بفضله، وجعل له المندوحة عنه .. "
(1)
. بتحليل كلام السمعاني ينتج عنه التالي:
- أن الأحكام بحاجة إلى الاجتهاد؛ حتى لا تتعطل الأحكام، وتفسد أمور الناس.
- أن مسائل العقائد ليست بحاجة إلى الاجتهاد، كما هو الحال في مسائل الأحكام، الذي عبَّر عنها السمعاني برد الفروع إلى الأصول؛ لأن مسائل المعتقد محصورة محدودة، والواجب فيها التسليم والاتباع.
(1)
- السمعاني: الانتصار: 32
وبالتأمل في كلام السمعاني يُلحظ أنه لم ينص على أن الاجتهاد ممنوع مطلقا في مسائل المعتقد؛ فإن كلامه السابق يمكن أن يُحمل على أصول المعتقد وما لا خلاف فيه؛ لأنه قال: "فإن الله تعالى أمر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم باعتقاد أشياء معلومة، لا مزيد عليها ولا نقصان، وقد أكملها "، وهي الأصول الكبرى، وكلامه أيضا فيه احتراز عن المسائل المحتملة، لاختلاف الأدلة من جهة الثبوت والدلالة؛ لأنه قال: أشياء معلومة لا مزيد عليها ولا نقصان، وهذه تصدق على الأصول الكبرى، بدليل أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل مستجدة تُعد من فروع العقائد: كاختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعيني رأسه، ومسألة عذاب القبر ونعيمه على الروح أم على الجسد أم عليهما؟ ومسألة تعليق التمائم من القرآن، ومسألة طاعون عمواس، وغيرها من المسائل المشهورة في المصنفات والمسانيد، فلا يمكن للسمعاني أن يغلق بابا فتحه الصحابة واجتهدوا فيه ومارسوه عمليا، ومما يدل لذلك: أن السمعاني نفسه بحث جملة من المسائل الفرعية التي هي محل نظر واجتهاد، ولا تُعد من المسائل الكبرى التي أغلق الشارع الخوض فيها؛ كمسألة خلو النار من المعذبين، وما الذي يوزن في الميزان؟ ومسألة وقوع الأنبياء في الصغائر، وغيرها من المسائل التي لا تعود على الأصول الكبرى بالنقض أبدا. فالسمعاني كغيره من العلماء، الذين يتعاطون مع المسائل المستجدة بالبيان والتوضيح، فلا يدل نص السمعاني السابق على غلق باب الاجتهاد في العقائد، بل ينبغي ان يُحمل كما أشرت إلى المسائل الكبرى والأصول العظمى وما لا اختلاف فيه؛ تماشيا مع واقعه العملي.