الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: تفاضل كلام الله تعالى، بعضه على بعض:
التفاضل في كلام الله تعالى، " هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم "
(1)
، ودلائله في القرآن الكريم أكثر من أن تُحصى.
ولما كان المعتزلة يقولون بخلق القرآن، لم يمتنع عندهم أن يتفاضل؛ إذ المخلوقات لا يُنكر تفاضلها. وممن ذهب إلى هذا القول جماعة من العلماء، فقال به: إسحاق بن راهويه، وابن العربي، وابن الحصَّار، والقرطبي، وابن عقيل، وأبو يعلى، والحليمي، والبيهقي، والنووي، وابن تيمية، والزركشي.
(2)
.
واحتجوا بالنصوص الواردة في القرآن والسنة، الدالة على التفاضل:
ـ قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، فالآيات تتماثل تارة، وتتفاضل تارة.
ـ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله معكم أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "، قال: فضرب على صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر ".
(3)
في حين ذهب الأشاعرة، وبعض العلماء من أئمة السنة، إلى أن القرآن لا يتفاضل. قالوا: لأن القول بالتفاضل، يُشعر بنقص المفضول، والقرآن كله كلام الله تعالى.
ويرى الإمام ابن تيمية، أن نشأة القول بإنكار التفاضل، إنما اشتهر بعد المائتين، لما أظهرت الجهمية القول بأن القرآن مخلوق
(4)
. يقول الآمدي عن الآية: " وليس المراد منه أنه يأتي بخير من الآية في نفسها، إذ القرآن كله خير لا تفاضل فيه، وإنما المراد به: ما هو خير بالنسبة إلينا، وذلك هو الأخف والأسهل في الأحكام "
(5)
.
(1)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 17/ 13
(2)
انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 110، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 105، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 17/ 13، المرداوي: التحبير شرح التحرير، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1421 هـ (6/ 3025)، الزركشي: البرهان في علوم القرآن: 1/ 439
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي ح (810)
(4)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 17/ 52
(5)
الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام: المكتب الإسلامي، بيروت: 3/ 139
والراجح ـ والعلم عند الله تعالى ـ هو القول الأول، المأثور عن السلف، إلا أن الزركشي حكى خلافاً عند القائلين بالتفضيل، هل هذا التفضيل عائد إلى ذات اللفظ، وما يحويه من المعاني العجيبة، أو هو عائد إلى مضاعفة الثواب، وعظم الأجر؟ قولان:
ورجح الأول، وذلك: أن ما أخبر الله تعالى به عن نفسه، أعظم مما أخبر به عن خلقه، وما أمر فيه بالإيمان ونهي فيه عن الشرك، أعظم مما أمر فيه بكتابة الدين، ونهى فيه الربا.
(1)
وأما الإمام السمعاني، فهو مع القول بالتفاضل، ولكنه أشار إلى أن وجه التفاضل، قد يظهر من جهة الإعجاز، أو من جهة الثواب، أو من جهة النفع والسهولة. قال:" فإن قيل: إيش معنى: " نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " وآيات القرآن سواء، لا فضل لبعضها على بعض. وإن أراد به الخير والسهولة، فقد نسخ الأسهل بالأشق، مثل الصوم كان على التخيير بينه وبين الفدية، فنسخه بصوم رمضان على الحتم، فما معنى الخيرية؟ قلنا: قد قيل: تقديره: نأت منها بخير، أي نرفع آية، ونأتي بآية، والصحيح: أنه أراد بالخير الأفضل، يعني: في النفع والسهولة، ومعناه " نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " أي: أنفع وأسهل، " أَوْ مِثْلِهَا " في النفع والسهولة.
وأن نسخ الأسهل بالأشق، فمعنى الخير فيه بالثواب، فإن ثواب الأشق أكثر
…
"
(2)
.
ومما يدل على القول بالتفاضل على المعنى السابق عند السمعاني:
1 ـ ما ذكره في كتابه القواطع؛ حيث قال: " أن قوله: " نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا " يقتضي أن الذي يأتي به، خير من الآية المنسوخة على الإطلاق "
(3)
، وفَسَّر الخيرية بما أشرنا إليه.
(1)
غانم الغانم: ترجيحات الزركشي في علوم القرآن: دار كنوز إشبيليا، الرياض، ط 1،1430 هـ (328)
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 124
(3)
السمعاني: قواطع الأدلة في الأصول: دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ، (1/ 453)
2 ـ في تفسيره للآية الكريمة: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحِجر:87]، ذكر خلاف المفسرين في معنى السبع المثاني، ثم قال:" وأما قوله " وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ " المراد منه: سائر القرآن سوى الفاتحة، وفي هذا شرف عظيم للفاتحة؛ لأنه خصها بالذكر والامتنان عليه بها، ثم ذكر سائر القرآن "
(1)
، ويُؤيد هذا مانقله الإمام ابن تيمية عنه من كتابه الاصطلام، في تقرير هذه المسألة، فيقول السمعاني كما نقله عنه ابن تيمية: " وأما قولهم: إن سائر الأحكام المتعلقة بالقرآن لا تختص بالفاتحة، قلت: سائر الأحكام قد تعلقت بالقرآن على العموم، وهذا على الخصوص، بدليل أن عندنا قراءة الفاتحة على التعيين، مشروعة على الوجوب، وعندكم على السنة. وقال: وقد قال أصحابنا: إن قراءة الفاتحة لما وجبت في الصلاة وجب أن تتعين الفاتحة؛ لأن القرآن امتاز عن غيره بالإعجاز، وأقل ما يحصل به الإعجاز سورة، وهذه السورة أشرف السور؛ لأنها السبع المثاني
…
"
(2)
.
3 ـ استدلاله بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في فضل آية الكرسي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: أي آية أعظم في كتاب الله أعظم، فقال:(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، فقال عليه الصلاة والسلام: ليهنك العلم أبا المنذر "
(3)
.
4 ـ وقوله في تفسير الآية الكريمة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]،:"سماها أحسن القصص لزيادة التشريف "
(4)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 150
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 17/ 13
(3)
سبق تخريجه
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 6