الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
بادئ ذي بدء، فإن الإمام السمعاني يقرر حقيقة ناصعة، وهو أن أمر التوحيد قد بُين ووضح على أتم وجه وأكمل بيان، يقول السمعاني في كتابه الانتصار:"وكان مما أُنزل إليه وأُمر بتبليغه أمر التوحيد وبيانه بطريقته، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يُؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه"
(1)
.
وقرر الإمام السمعاني في تفسيره، أن لفظ الإيمان إذا أُطلق، فَيُراد به الإيمان بالله تعالى
(2)
، والإيمان بالله تعالى هو أشرف أقسام الإيمان وأنواعه، وأعظم درجاته، وأعلى مقاماته، وهو "رئيس أعمال القلوب" (
(3)
. و" الإيمان بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، هو أساس الدين، وخلاصة دعوة المرسلين، وهو أوجب ما اكتسبته القلوب، وأدركته العقول"
(4)
ولذا كان أعظم ما يستبصر به القلب الإيمان بالله تعالى، فنور الإيمان من أعظم منن الله عز وجل وكراماته.
(5)
(1)
- السمعاني: الانتصار: 70
(2)
((السمعاني: منصور بن محمد: تفسير القرآن، مدار الوطن للنشر: ط 2،1432 هـ، ت: أبي تميم ياسر بن ابراهيم، (3/ 187)
(3)
((الرازي: محمد بن عمر: التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3 - 1420 (13/ 26)
(4)
العثيمين: محمد بن صالح، فتح رب البرية بتلخيص الحموية، دار الوطن للنشر، الرياض، (10)
(5)
التستري: سهل بن عبدالله: تفسير التستري، دار الكتب العلمية- بيروت، ط 1 - ،1423 هـ، (1/ 50)
وأُثر عن عمر بن عبدالعزيز أنه كتب كتابًا ضمنه قوله: (فإن عز الدين، وقوام الإسلام، الإيمان بالله
…
)
(1)
والإيمان بالله تعالى، هو محل إجماع الأمم كلها، "فالنبوات كلها مجمعة على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته"
(2)
"والمسلمون سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان بالله"
(3)
وهذا القول مما اتفقت عليه أقوال الأمة، وتطابقت عليه أراؤهم.
(4)
وإنما كان الإيمان بالله تعالى مقدما على غيره؛ لأنه أصل الإيمان بالشرائع، فمن لايعرف الله تعالى، استحال أن يعرف نبياً أو كتاباً
(5)
.
والإيمان بالله تعالى هو الغيب المطلق، وقد نقل السمعاني في تفسيره أن المراد بالغيب في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة 3). هو الله تعالى
(6)
. وهو الذي تفاضلت به الأنبياء على غيرهم، وهم إنما تفاضلوا فيما بينهم بالعلم به لابغيره من الأعمال.
(7)
وقد فسر العلماء الإيمان بالله تعالى، بأنه علم ومعرفة وإقرار وعمل
(8)
، وأنه يدخل فيه الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، وهذه كلها من لوازم الإيمان بالله تعالى
(9)
.
(1)
ابن أبي شيبة: عبدالله بن محمد، الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1409 هـ (1/ 280)
(2)
ابن عطية: عبد الحق بن غالب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 - 1422 هـ (3/ 82)
(3)
ابن تيمية: أحمد بن عبدالحليم: الإيمان، المكتب الإسلامي، الأردن، ط 5، 1416 هـ (281)
(4)
المقدسي: عبدالغني بن عبد الواحد، الاقتصاد في الاعتقاد، مكتبة العلوم والحكمة، المدينة المنورة، ط 1، 1414 هـ (78)
(5)
((الرازي: التفسير الكبير: 4/ 72
(6)
((السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 43
(7)
((المناوي: عبدالرؤوف بن علي: فيض القدير شرح الجامع الصغير: المكتبة التجارية، مصر، ط 1، 1356 هـ (2/ 26)
(8)
((ابن منده: محمد بن اسحاق: الإيمان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2،1406 هـ (257)
ابن ابي يعلى: محمد بن محمد: الاعتقاد، دار أطلس الخضراء، ط 1،1423 هـ (23)
(9)
((الرازي: التفسير الكبير:29/ 519، ابن تيمية: الإيمان:132
وهذا الركن العظيم يشتمل على عدة أشياء، عبَّر عنها العلماء بتعابير مختلفة ومؤداها واحد.
فقال بعضهم:" يشتمل على خمسة أقسام: معرفة الذات، والصفات، والأفعال، والأحكام، والأسماء"
(1)
.
وقال بعضهم: "فإن قيل: فما العمل الحاصل بالاعتقاد والإقرار؟ قيل: مجموع عدة أشياء:
أحدها: إثبات الباري عز وجل؛ ليقع به مفارقة التعطيل.
والثاني: إثبات وحدانيته؛ ليقع به البراءة من الشرك.
والثالث: إثبات أن وجود كل ماسواه، كان من قبل إبداعه واختراعه إياه؛ ليقع به البراءة من قول من يقول بالعلة والمعلول.
والرابع: إثبات أنه مدبر ماأبدع، ومصرفه على ماشاء؛ ليقع به البراءة من قول القائلين بالطبائع، أو تدبير الكواكب، أو تدبير الملائكة "
(2)
.
وقال بعضهم: "وأصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده، في إثبات الإيمان به، ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعتقد العبد آنيَّته؛ ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل، الذين لا يثبتون صانعاً.
الثاني: أن يعتقد وحدانيته؛ ليكون مبايناً بذلك لمذاهب أهل الشرك، الذين أقروا بالصانع، وأشركوا معه في العبادة غيره.
الثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات، التي لايجوز إلا أن يكون موصوفاً بها، من العلم، والقدرة، والحكمة، وسائر ما وصف به نفسه في كتابه"
(3)
وبهذه النقول عن العلماء في بيان هذا الركن العظيم، تبيِّن عدة أمور:
1 ـ أن الإيمان بالله تعالى، شامل لكل ما يستحقه الباري جل وعلا من الكمالات.
2 ـ أنه يدخل فيه: الإيمان بذاته، وصفاته، وتوحيده بأن ليس كمثله شيء
(4)
.
(1)
((الرازي: التفسير الكبير:26/ 442، 7/ 108، 3/ 537
(2)
((الحليمي: مختصر كتاب المنهاج في شعب الإيمان، دار البشائر للطباعة والنشر، دمشق، ط 6، 1422 هـ، (32)
(3)
((ابن بطة: عبيدالله بن محمد: الإبانة الكبرى: دار الراية للنشر، الرياض، ط 1، 1415 هـ، (6/ 149)
(4)
((العيني: محمود بن أحمد: عمدة القاري شرح صحيح البخاري: دار إحياء التراث العربي- بيروت: (1/ 28)
3 ـ أن هذا التقسيم للتوحيد، ليس تقسيماً حادثاً، بل هو مستفاد من استقراء النصوص الشرعية، كقوله تعالى:" رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا "(مريم 65)، وهو منقول عن بعض الأكابر من العلماء تنصيصاً عليه، وإلا فهو مضمن في كلام غالب علماء السلف.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
(1)
: " وقد دَلَّ استقراء القرآن العظيم، على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توحيده في ربوبيته
…
الثاني: توحيده جَلَّ وعلا في عبادته
…
النوع الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته "
(2)
.
4 ـ أن الإيمان بالله مقدم على بقية الأركان؛ لأنه الأصل، فإذا أطلق الإيمان بالله تعالى، دخل فيه الإيمان بتوابعه.
ولذا لما ذكر الله تعالى خصال البر في كتابه خصَّ ابتداء أركان الإيمان، فقدمها على أفعال الجوارح؛ تنبيها لشرفها عند الله جل وعلا، ولما ابتدأ بالأركان قدم الإيمان به سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
…
} (البقرة 177)
(1)
((محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، مفسّر، مدرس من علماء شنقيط (موريتانيا)،ولد وتعلم بها، ولد عام 1325 هـ، وتوفي سنة 1393 هـ، من مؤلفاته: أضواء البيان، وآداب البحث والمناظرة.
ينظر: الزركلي: خير الدين بن محمود: الأعلام: دار العلم للملايين، ط 15، 2002 م (6/ 45)
(2)
((الشنقيطي: محمد الأمين: أضواء البيان، دار الفكر للطباعة، بيروت،1415 هـ، (3/ 17)
وانظر: الخلف: سعود بن عبد العزيز: أصول مسائل العقيدة: 1420 هـ، (1/ 89)
والسر في تخصيص هذه الأركان الخمسة؛ أنه يدخل تحتها كل مايجب الإيمان به، " فقد دخل تحت الإيمان بالله: معرفته بتوحيده، وعدله، وحكمته، ودخل تحت الإيمان باليوم الآخر: المعرفة بمايلزم من أحكام الثواب والعقاب والمعاد، إلى سائر مايتصل بذلك، ودخل تحت الملائكة: مايتصل بآدائهم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤديها إلينا، إلى غير ذلك مما يجب أن يُعلم من أحوال الملائكة، ودخل تحت الكتاب: القرآن، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه، ودخل تحت النبيين الإيمان بنبوتهم وصحة شرائعهم، فثبت أنه لم يبق شيء مما يجب الإيمان به، إلا دخل تحت هذه الآية"
(1)
5 ـ إن الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، قال رجل للإمام الشافعي: أي الأعمال عند الله أفضل؟ قال: مالا يُقبل عمل إلا به، قال: وما ذاك؟ قال: الإيمان بالله، هو أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حظاً.
(2)
.
وقد ظهر اهتمام السمعاني بهذا الركن العظيم من عدة أمور:
أولا: إبراز مكانة هذا الركن العظيم، وبيان أن تحقيقه مفتقر إلى بيان أركانه وحقائقه ولوازمه.
ثانيا: أن تقرير السمعاني لمسائل هذا الركن يُعد ردا ضمنيا على المخالفين في هذا الباب، فقد جهد السمعاني للانتصار لمذهب السلف في هذا الباب وغيره، وهذا يتضح من جهة تقريره عدة مسائل مبنية على استقصاء النصوص، واتباع منهج السلف، وستظهر مفصلة في ثنايا هذا البحث، وهي:
- إثبات أن التوحيد أول واجب على المكلف.
- إثبات فطرية المعرفة.
- إثبات وجود الله تعالى بالطرق القرآنية المشتملة على الدلائل العقلية وغيرها.
(1)
((الرازي: التفسير الكبير: 5/ 215
(2)
((انظر ابن القيم: محمد بن أبي بكر: تهذيب سنن أبي داود، مطبوع ضمن عون المعبود، دار الكتب العلمية، ط 2، 1415 هـ، (12/ 293)