الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: العصمة:
يظهر من كلام السمعاني رحمه الله أن العصمة لازمة للأنبياء عليهم السلام، ولذلك لا يمكن أن يقع منهم ما يخل بالرسالة. فأشار إلى أوجه العصمة عند الأنبياء:
1 ـ العصمة من الوقوع في الكفر والشرك، وقد نُقل الإجماع على ذلك
(1)
، وقد أورد السمعاني أمثلة على ذلك، منها قوله:" فإن قال قائل: كيف يقول " جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ " وآدم كان معصوماً عن الإشراك بالله؟ "
(2)
.
ولذا قال السمعاني: " أنا نعتقد أن الرسول معصوم من الشرك والكبائر "
(3)
، وحمل قوله تعالى:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14]، بعد إثبات عصمته صلى الله عليه وسلم عن الشرك، على الأمر بالثبات على الإيمان
(4)
، وقال:" والله تعالى قد عصم الأنبياء عن الكفر والكبائر "
(5)
.
2 ـ العصمة عن الوقوع في الكبائر، من الكذب ونحوه: وفي هذا يقول صاحب كتاب المواقف: " إن أهل الملل والشرائع، قد أجمعوا على عصمة الأنبياء عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة، وما يبلغونه عن الله تعالى "
(6)
،ويقول ابن تيمية:" فإن أهل السنة متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى، وهذا هو مقصود الرسالة ".
(7)
وقد حُكي إجماع الأمة قاطبة على عصمة الأنبياء من الكبائر
(8)
.
(1)
القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى: دار الفيحاء، عمان، (2/ 327)
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 239
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 265
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 92
(5)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 80
(6)
الإيجي: المواقف: 3/ 415
(7)
ابن تيمية: منهاج السنة: 1/ 470
(8)
أبو الحسن الأشعري: تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء: دار الفكر المعاصر، لبنان، ط 1، 1417 هـ، (32)
وفي هذا يقول السمعاني: " واعلم أن الأنبياء معصومون من الكبائر "
(1)
، وقال: وأما الأنبياء عليهم السلام، فلا يصح منهم وقوع الكبائر؛ لعصمة الله إياهم عن ذلك
(2)
، وقال عن لوط عليه السلام حين قال لقومه:{هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، " ومنهم من قال: إنما قال هذا على طريق الدفع، لا على طريق التحقيق، ولم يرضوا هذا لقول؛ لأنه كان معصوماً من الكذب "
(3)
. ومن الأمثلة التي ذكرها السمعاني أيضاً: ما حكاه بعض المفسرين في نبي من الأنبياء، بعثه الله تعالى إلى قومه، فرشاه قومه، قال السمعاني:" وهذا أضعف الأقوال؛ لأن الله تعالى يعصم أنبياءه عن مثل ذلك ".
(4)
فالعصمة من الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف، حكاه الإمام ابن تيمية
(5)
. ومسأل العصمة من الصغائر، هي موطن نزاع، لكن حكى شيخ الإسلام، كما أشرنا، إلى أنه هو القول المعروف عن أكثر علماء الإسلام، وهو الذي رجحه السمعاني فقال:" واعلم أن الأنبياء معصومون من الكبائر، فأما الخطايا والصغائر تجوز عليهم "
(6)
، وقال: الأصح أن ذلك يصح وقوعه منهم، ويتداركون ذلك إبان موته قبل اخترام المنية، وأما الخطأ والسهو فيجوز ذلك من الأنبياء
(7)
، وقال الشوكاني: وجماعة من الفقهاء والمحدثين، قالوا: ولا بُدَّ من تنبيههم عليه"
(8)
، ولكنه عقد فصلاً في الرد على من جَوَّز عليهم الصغائر.
وقد حمل السمعاني ما ورد عن إبراهيم عليه السلام، من قوله:" إِنِّي سَقِيمٌ "، " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "، وقوله عن سارة (هذه أختي)، على أحد معنيين:
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 54
(2)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 303
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 447
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 232
(5)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 319
(6)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 54
(7)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 303
(8)
الشوكاني: إرشاد الفحول: دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1419، (1/ 99)
الأول: أن الله تعالى أذن له قول ذلك؛ لقصد الصلاح، قال: وهو قول أهل السنة.
الثاني: أن هذا قول يُخالف لفظه معناه، ولكل قول تأويله. أما قوله:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ " أي: على زعمكم واعتقادكم، وهو على وجه إلزام الحجة، وقال بعضهم معناه:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ "، قاله على سبيل الشرط، قال النحاس: وفي هذا التأويل بعد، وهو مخالف للأخبار الثابتة، وأما قوله:" إِنِّي سَقِيمٌ " أي: سأسقم، وقيل: معناه: سقيم، أي: مغتم بضلالتكم، فكأنه سقيم القلب بذلك، وأما قوله لسارة (هذه أختي) أي: أختي في الدين
(1)
. فكلها من معاريض الكلام، ولم يكن كذباً صريحاً.
(2)
وأورد السمعاني في قصة نوح سؤالاً، مفاده: فإن قيل: كيف يجوز أن يسخر نبي من الأنبياء من قومه؟ الجواب: أن هذا من ازدواج الكلام، ومعناه: إن تستجهلوني فإني استجهلكم إذا نزل العذاب، ومثله (إن تسخروا مني فسترون عاقبة سخريتكم).
(3)
وكذا ما ورد عن يوسف عليه السلام، حين قال:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] إذ كيف استجاز أن ينسبهم إلى السرقة ولم يسرقوا؟!. ذكر السمعاني أوجها في الجواب، ثم قال: والقول الأول أجود الأقاويل، وهو إنكم لسارقوا يوسف من أبيه، وعملتم كما يعمل السُرَّاق. ثم قال: ويُقال: إنه كان وَاضَعَ مع بنيامين، وقال ما قاله بالمواضعة.
(4)
وقد أحسن السمعاني في توجيه ابتلاء داود في موطن دون آخر. ففي الموطن الأول في سورة (ص)، ذكر أقوال بعض أهل التفسير في سبب ابتلاء داود عليه السلام، وذكر أقوالاً، لا تليق بنبي الله داود عليه السلام، وذلك أنه فتن بامرأة أوريا.
(5)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 389
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 405
(3)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 428
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 49
(5)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 432
ولذلك نص العلماء على أن هذه القصة من المختلقات على نبي الله داود عليه السلام
(1)
، قال ابن عطية:" وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق، وقد حَدَّث بها قصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام، جلدته حدين، لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله "
(2)
، وقال الرازي:" والذي أدين به، وأذهب إليه، أن ذلك باطل "
(3)
.
وفي الموطن الثاني: في السورة نفسها، حَكى السمعاني خلاف المفسرين في السبب الذي لأجله ابتلى الله سليمان عليه السلام، ثم قال:" والله أعلم بما كان، ولا شك أن الآية تدل على أن الله تعالى، قد أقعد على كرسيه غيره، وسلبه شيئاً كان له "
(4)
، وغالب ما يُذكر متلقى عن بني إسرائيل.
(5)
وأورد السمعاني تساؤلاً في هذا الباب، عند تفسير قوله تعالى:{لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه:94]، قال:" فإن قال قائل: هذا تهاون نبي من أنبياء الله، فتكون كبيرة من الكبائر، فكيف وجه فعل هذا من موسى؟ والجواب عنه: أنه يحتمل أنه لم يكن مثل هذا الفعل تهاوناً في عاداتهم، فكان الأخذ باللحي، شبه الأخذ بالكف عندهم. وقال بعضهم: أنه أخذ بلحيته كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه عند الغضب، فجعله كنفسه، وأولى الأجوبة: أن هذا فعل الإنسان بمثله وشكله عند الغضب، فتكون صغيرة لا كبيرة، والصغائر جائزة على الأنبياء".
(6)
(1)
أبو الحسن الأشعري: تنزيه الأنبياء: 27
(2)
ابن عطية: المحرر الوجيز: 4/ 499
(3)
الرازي: مفاتيح الغيب: 26/ 377
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 444
(5)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 7/ 69
(6)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 351
وكذا حمل السمعاني ما ورد عن نبينا الأكرم عليه الصلاة والسلام، ففي قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، قال:" فإن قيل: كيف أمره بالاستغفار، وكان معصوماً من الذنوب؟. والجواب: أنه كان لا يخلو من الخطأ والزلل، وبعض الذنوب التي هي من الصغائر، فأمره الله بالاستغفار منها "
(1)
، ومثله في قوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، قال السمعاني:" فإن قال قائل: فأي ذنب كان له؟ قلنا: الصغائر، وكان معصوماً من الكبائر "
(2)
، وبمثل هذه الآيات تمسك من جَوَّز الصغائر على الأنبياء، فأمرهم بالاستغفار عن الصغائر، ومن لم يُجوِّز الصغائر عليهم، قال: إنه أمر بالاستغفار تعبداً؛ لينال بذلك رضي الله تعالى، ويقتدي به ما يأتي من بعده. والصحيح: ما رجحه السمعاني، وهو ما عليه الجماهير.
فالعصمة إذن: " حفظ الله تعالى ظواهر الرسل وبواطنهم، مما تستقبحه الفِطر السليمة، قبل النبوة، وحفظهم من الكبيرة، وصغائر الخِسة بعدها، وتوفيقهم للتوبة والاستغفار من الصغائر، وعدم إقرارهم عليها "
(3)
، ولذا قال السمعاني في وصف الله تعالى ليحيى " وَحَصُورًا "، بأنه الممتنع من الوطء مع القدرة عليه. قال واختاروا هذا القول لوجهين:
1 ـ أنه يكون أقرب إلى استحقاق الثناء.
2 ـ أنه يكون أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء، لبعدهم عن الآفات.
(4)
وأما وقوع الخطأ والسهو منهم عليهم الصلاة والسلام، فهو واقع لبشريتهم، يقول السمعاني: وأما الخطأ والسهو، فيجوز وقوع ذلك من الأنبياء
(5)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 178
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 190
(3)
أحمد عبداللطيف: عصمة الأنبياء بين المسلمين وأهل الكتاب: رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 1402 هـ، مخطوط لم يطبع بعد، (24)، وقد رجح السمعاني في تفسير قوله تعالى:" وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ " ما يوافق العصمة: 4/ 287.
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 316
(5)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 303