الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
أن الآية على العموم، ولا يصيب أحد بلاء ولا شدة إلا بذنب سبق منه، أو تنبيه لئلا يعمل ذنبا، أو ليعتبر به ذو ذنب
(1)
المطلب العاشر: مسألة التحسين والتقبيح العقليين:
هي من المسائل التي جرى فيها نقاش طويل بين العلماء، وعادة ما يشير إليها الأصوليون في مبحث الحاكم، في باب الأحكام الشرعية، وهم متفقون على أن الحاكم هو الله تعالى، وإنما الخلاف فيما يُعرف به حكم الله تعالى؟ وهل العقل يدرك حسن الأشياء والأفعال وقبحها قبل ورود الشرائع أم لا؟ وهل الحسن والقبح في هذه الأشياء ذاتيان، أم ليسا بذاتيين، بل صارا حسنين أو قبيحين بإضافة الشرع لهما صفتا الحسن والقبح؟
اختلف الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط:
الطرف الأول: ذهب إلى أن العقل يدرك حسن الأفعال وقبحها، وأنهما ذاتيان، ويمكن للعقل أن يدرك حكم الله تعالى في أفعال المكلفين من غير وساطة الرسل. وذهب إلى هذا القول المعتزلة؛ فهم يرون أن الحسن والقبح ذاتيان؛ لأن الحسن من الأفعال: ما رآه العقل حسنا، لما فيه من حسن ونفع، والقبيح: ما رآه العقل قبيحا، لما فيه من الضرر، ورتبوا عليه الثواب والعقاب، ولو لم يرد به الشرع.
والطرف الآخر: ذهب إلى أن العقل لا يدرك حسن الأفعال وقبحها، وأن الحسن والقبح في الأفعال ليسا ذاتيين، ولا يمكن للعقل أن يدرك حكم الله تعالى في أفعال المكلفين إلا بواسطة الرسل. وذهب إلى هذا القول الأشاعرة؛ وهم بهذا يرون أن الحسن والقبح ليسا عقليين، وأن الأفعال قبل ورود الشرائع لا حكم لها؛ بناء على أن الحسن: ما ورد الشرع بالثناء عليه، والقبيح: ما ورد الشرع بذمه، ومن الطبيعي ألا يرتبوا الثواب والعقاب على الأفعال إلا بعد ورود الشرائع.
والطرف الوسط: من جمع بين القولين، وأخذ الصحيح من الطرفين، فكل طرف ممن سبق، غلا في جهة وأحسن في أخرى، فأخذ أصحاب هذا القول، بالقول الحسن من كلا الطرفين، وبيانه كالآتي:
(1)
- السمعاني: مرجع سابق: 5/ 77
أن العقل يدرك حسن وقبح بعض الأفعال، فيدرك قبح الظلم، وهتك الأعراض، ويدرك حسن العدل وكمال الأخلاق. ويؤيد ذلك الفطرة السليمة، فالعقل والفِطر السليمة تدركان قبح وحسن الأفعال قبل ورود الشرع؛ وذلك أن القبح والحسن في الأشياء ذاتيان. وهم بهذا يوافقون المعتزلة من هذه الجهة، ويخالفونهم من جهة ترتب الثواب والعقاب على ما يدرك العقل حسنه أو قبحه قبل ورود الشرع.
وأن العقل حين يدرك حسن وقبح الأفعال، فإنه لا يرتب عليها حكما إلا بعد ورود الشرع، وهم بهذا يوافقون الأشاعرة من هذه الجهة، ويخالفونهم من جهة إنكارهم أن تكون الأفعال حسنة أو قبيحة بذاتها قبل ورود الشرع، وهذا القول قال به الماتريدية، وهو القول الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة.
وبعد هذا العرض الموجز لهذه المسألة، نبرز رأي الإمام السمعاني فيها، ومع من يميل؟
فالسمعاني قرر رأيه في هذه المسألة، متماشيا مع تقرير المذهب الأشعري، مع أنه بعيد كل البعد عن المنهج الأشعري في التقعيد والتأصيل، لكن لما كان مناكفا في هذه المسألة للمعتزلة في قولهم: إن العقل يدرك قبح وحسن الأفعال ويرتب عليها العقاب والثواب، ذهب إلى مخالفة قولهم على التمام؛ بأن العقل ليس له حظ من التقبيح والتحسين إلا ما ورد به الشرع، ومن أقواله في هذه المسألة:
-قوله عند تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء 15:هذا دليل على أن ما وجب، وجب بالسمع لا بالعقل؛ فإن الله نص أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث رسولا
(1)
.
-وقوله في كتابه الانتصار: اعلم أن مذهب أهل السنة، أن العقل لا يوجب شيئا على أحد، ولا يرفع شيئا عنه، ولا حظ له في تحليل ولا تحريم، ولا تحسين ولا تقبيح، ولو لم يرد السمع، ما وجب على أحد شيء، ولا دخلوا في ثواب ولا عقاب
(2)
.
(1)
- السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 226
(2)
- السمعاني: الانتصار: 75
-وحكى في كتابه القواطع الخلاف في المسألة، ورجح أن العقل بذاته ليس دليلا على تحسين شيء ولا تقبيحه، ولا حظره ولا إباحته، ولا يُعرف حسن الشيء وقبحه، ولا حظره ولا تحريمه حتى يرد السمع بذلك، وإنما العقل آلة يدرك بها الأشياء، فيدرك به ما حسن وقبح، وأبيح وحرم، بعد أن يثبت ذلك بالسمع، ثم قال عن هذا القول: وهو الصحيح، وإياه نختار، ونزعم أنه شعار أهل السنة
(1)
.
وبهذا يظهر أن رأي السمعاني في هذه المسألة موافقا لما ذهبت إليه الأشعرية، والصحيح ما أشرنا إليه من الجمع بين القولين: من أن العقل والفطرة يدركان قبح الأفعال وحسنها قبل ورود الشرع، لكن لا يجعلونه أساسا للتكليف الذي يترتب عليه الثواب والعقاب.
إلا أن موافقة رأي السمعاني للأشاعرة في هذه المسألة، لا يدل على التزامه بكل ما التزمته الأشاعرة من لوازم هذا القول؛ فقد نفت الأشاعرة الحكمة والتعليل عن أفعال الله تعالى، وحسن الأمر والنهي عندهم في التشريعات لا يُدرك إلا بالشرع فقط، وعليه: فلا فرق عندهم بين ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه، إلا أن هذا أمر الله تعالى وهذا نهيه؛ لأنه لا حكمة له كما يزعمون، فلو أمر الله تعالى بالزنا على مذهبهم لكان حسنا، وهذا جائز عندهم، والتزموا لذلك جواز تعذيب الطائعين وإثابة العاصين، وأنه يجوز عليه الأمر بعبادة الأصنام، وأن ذلك يكون حسنا؛ لأن مرجع التحسين إلى الشرع.
(1)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 2/ 45 - 46
بخلاف ما يذهب إليه الإمام السمعاني؛ فهو مُثبت للحكمة والتعليل، وكلامه في هذا مستفيض، وقد ذكرت جملة منه في صفة الحكمة لله تعالى، في مبحث أسماء الله تعالى وصفاته. ومن ذلك أيضا قوله في تفسير قوله تعالى:(لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا) النساء:11، يقول:" أي: لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا. فمنهم من يظن أن الآباء تنفع فتكون الأبناء أنفع، ومنهم من يظن أن الأبناء أنفع، فتكون الأباء أنفع، وأنتم لا تعلمون، وأنا أعلم بمن هو أنفع لكم؛ وقد دبرت أمركم على ما فيه الحكمة والمصلحة، فخذوه، واتبعوه."
(1)
، وقال في تفسير قوله تعالى:(إِن ربكُم الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام) الأعراف:54،:" فإن قيل: وما الحكمة في خلقها في ستة أيام، وكان قادرا على خلقها في طرفة عين؟ قيل: لأن خلقها على التأني أدل على الحكمة، فخلقها على التأني ليكون أدل على حكمته، ولطف تدبيره"
(2)
.
وقرّر السمعاني أن الله تعالى لا يُعاقب من يُعاقب إلا عن استحقاق بالعدل
(3)
، لا كما يقول الأشاعرة من تجويز تعذيب العاصين، فقال:" ويقال: معنى قوله: {وما ربك بظلام للعبيد} أي: لا يعاقب أحدا من غير جرم "
(4)
، وقال:" وقوله: {وما أنا بظلام للعبيد} أي: لا أنقص ثواب المحسنين، ولا أزيد في مجازاة المسيئين."
(5)
، فأفعاله تعالى قائمة على العدل والحكمة، يقول السمعاني:" وقوله: {يدبر الأمر} التدبير من الله تعالى فعل الأشياء على ما يوجب الحكمة"
(6)
، ويقول:"وقوله: {إنه علي حكيم} أي: متعال مما يصفونه (المشركون)، حكيم في جميع ما يفعله"
(7)
.
(1)
- السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 403
(2)
- السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 188
(3)
- السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 348
(4)
- السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 58
(5)
- السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 244
(6)
- السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 76
(7)
- السمعاني: تفسير القرآن: 5/ 88