الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: أدلة إثبات استحقاق الألوهية لله تعالى:
القرآن الكريم مليء بالدلالات والشواهد، التي تدل على استحقاق الباري جل وعلا للعبادة، وانتفائها عمن سواه، يقول التفتازاني
(1)
: " وبالجملة فنفي الشركة عن الألوهية، ثابت عقلاً وشرعاً، وفي استحقاق العبادة شرعاً، " وَمَا أُمِرُوا إِلَّالِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا
لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " (التوبة 11)
(2)
، ويقول المقريزي:" وأعلم أن من خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده، عقلاً، وشرعاً، وفطرة، فمن جعل ذلك لغيره، فقد شبَّه الغير بمن لا شبيه له، ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم، أخبر من كتب على نفسه الرحمة، أنه لا يغفره أبداً ".
(3)
(1)
التفتازاني: مسعود بن عمر، (712 هـ ـ ت 793 هـ)، من أئمة العربية، والبيان، والمنطق، له مصنفات عدة منها: تهذيب المنطق، وشرح العقائد النسفية. الزركلي: الأعلام: (7/ 219).
(2)
التفتازاني: شرح المقاصد في علم الكلام، دار المعارف النعمانية، باكستان، ط 1، 1401 هـ، (2/ 65).
(3)
المقريزي: تجريد التوحيد المفيد: 27.
وسبق أن أشرنا إلى أن استحقاق الألوهية هي من لوازم الإقرار بالربوبية، وأن توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية
(1)
، يقول الشيخ علي القاري
(2)
: " ثم المقصود من كلمة التوحيد، نفي كون الشيء يستحق العبودية، وإثبات الربوبية لمن له استحقاق الألوهية، وإلا فالكفار كانوا عارفين للوجود، ومغايرته لما سواه "
(3)
، وهي من الأدلة التي استدل بها السمعاني لإثبات الألوهية، وقد عرض الإمام السمعاني لهذه المسألة، وظهر صنيعه في تقريرها من عدة جهات:
الجهة الأولى: إثبات وحدانية الرب جلّ وعلا، وانفراده بمقام الإلهية الحقة:
وقد أظهر السمعاني هذا المعنى جليا من خلال تتبعه لنصوص القرآن، الدالة على استحقاق الرب للإلهية، وإنفراده بها، ومن تلك النصوص:
1/ يقول الله تعالى:" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّاهُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(آل عمران 18)؛ يقول السمعاني:" شَهِدَ اللَّهُ" أي: بين وأعلم، وكل شاهد مبين ومعلم،" أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ"لنفسه بالوحدانية، وذلك أن وفد نجران قد أنكروا وحدانيته،" وَالْمَلَائِكَةُ"أي: وشهدت الملائكة،" وَأُوْلُوا الْعِلْمِ": قيل هم علماء بني إسرائيل، وقيل عنهم المهاجرون والأنصار، وقيل: هم جميع علماء الأمة "
(4)
.
(1)
ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1، 1426 هـ، (4/ 533).
(2)
القاري: علي بن سلطان، فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره، ولد في هراة، وسكن مكة، وتوفي بها سنة 1014 هـ، صنف كتبا كثيرة منها: تفسير القرآن، وشرح مشكاة المصابيح، الزركلي: الأعلام: 5/ 12.
(3)
القاري: الرد على القائلين بوحدة الوجود، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1، 1415 هـ (14).
(4)
السمعاني: تفسير القرآن:1/ 302.
وقص الله تعالى ماجرى لنبيه وخليله إبراهيم عليه السلام في دعوة قومه، ومحاربته للوثنية وعبادة الأصنام، وذكر الرب جل وعز حكاية إبراهيم وشهادته له وشهادته باستحقاق العبودية لله وحده دونما سواه، قال تعالى:" قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ"(الأنبياء 55 - 56)، يقول السمعاني: وقوله:" وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ"أي: على أنه الإله الذي لايستحق العبادة غيره، وأن الأصنام ليست بآلهة "
(1)
، ونقل السمعاني عن بعض المفسرين أن معنى اسم الله المؤمن أنه شهد لنفسه بالوحدانية
(2)
.
2/ وقوله تعالى:" وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"(الأعراف 54)، يقول السمعاني:" أي تعالى بالوحدانية "
(3)
.
3/ ولما حكى الله جل وعلا، ما اختلق المشركون له من البنين والبنات، نزه الرب بعدها نفسه، وأكد ذلك بنعت الوحدانية في الذات والصفات والأفعال، واستحقاق العبادة وحده دونما سواه، فقال جلّ شأنه:" ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ"(الأنعام 102)، ويقول السمعاني:" وأكد ماسبق ذكره من نعوت الوحدانية،" فاعبدوه" أي: فأطيعوه "
(4)
.
4/وأكد الله جل وعز: معنى الوحدانية والأحدية وعدم جواز الشركة في استحقاق العبودية، في أكثر من مقام، فيقول جل وعلا:" وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ"(البقرة 163)، يقول السمعاني:" وحقيقة الواحد: هو المنفرد الذي لانظير له ولاشريك "
(5)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 386.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:5/ 409.
(3)
السمعاني: تفسير القرآن:2/ 189.
(4)
السمعاني: تفسير القرآن:2/ 132.
(5)
السمعاني: تفسير القرآن:1/ 161.
ويقول الطبري: " فمعنى قوله:" وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" والذي يستحق عليكم أيها الناس الطاعة له، ويستوجب منكم العبادة، معبود واحد، ورب واحد، فلا تعبدوا غيره، ولا تشركوا معه سواه، فإن من تشركون معه في عبادتكم إياه، هو خَلْقٌ من خَلْقِ إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد لامثيل له ولا نظير "
(1)
.
5/ وقد حكى الله جل وعز احتجاج يوسف عليه السلام للرجلين بوحدانية الله وعلى بطلان الأرباب المتفرقة فقال سبحانه:" يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ"(يوسف 39 - 40)، فهنا بين يوسف عليه السلام أحقية الواحد الغالب على كل شيء، ونفي الخيرية عما سواه مطلقا، يقول السمعاني:" خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ"الواحد: الغالب على كل شيء، والمراد نفي الخيرية منهم أصلا "
(2)
.
ويقول الطبري في معنى هذه الآية: " أعبادة أرباب شتى متفرقين، وآلهة لاتنفع ولا تضر، خير أم عبادة المعبود الواحد، الذي لاثاني له في قدرته وسلطانه، الذي قهر كل شيء، فذَلَّلَه وسخره، فأطاعه طوعا وكرها "
(3)
، وقوله تعالى:" أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" هي الدلالة على استحقاقه جل وعز على العبودية على خلقه أجمعين، يقول الطبري: " وهو الذي أمر ألا تعبدوا أنتم وجميع خلقه، إلا الله الذي له الألوهة والعبادة خالصة دون كل ماسواه من الأشياء
…
عن أبي العالية قال: أسَّسَ الدين على الإخلاص لله وحده لاشريك
(4)
.
6/قوله تعالى:" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ"(الأنبياء 22).
(1)
الطبري: جامع البيان:3/ 265.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 31.
(3)
الطبري: جامع البيان:16/ 104.
(4)
الطبري: جامع البيان:16/ 106.
اختلف المفسرون في هذه الآية من جهتين:
الأولى: في معنى قوله:" إِلَّا اللَّهُ"،والثانية: هل هذه الآية دلالتها على توحيد الربوبية أم توحيد الألوهية؟!
فأما المسألة الأولى: فقد بين السمعاني الخلاف في معنى قوله::" إِلَّا اللَّهُ"
(1)
، وذكر أن أكثر أهل التفسير على أن "إلا" هنا بمعنى غير كما قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه
…
لعمرو أبيك إلا الفرقدان
يعني غير الفرقدين، وهذا على ما اعتقدوه من دوام السماء والأرض.
وذهب بعضهم إلى أن معنى" إِلَّا اللَّهُ"، أن"إلا" هنا بمعنى "الواو" ومعناه: لو كان فيهما آلهة والله أيضا لفسدتا، وهذا المقصود منه إثبات وحدانية الله تعالى، على أن يكون له شريك يعارضه في ملكه.
وذهب الفراء إلى أن"إلا" بمعنى سوى، ويكون المقصود منه، إبطال عبادة غيره لعجزه عن أن يكون له إلها؛ لعجزه عن قدرة الله.
فالنحويون كلهم قالوا:"إلا" هنا ليست باستثناء، ولكنه على ما بعده صفة للآلهة في معنى (غير)
(2)
.
وأما المسألة الثانية: فإن العلماء مختلفون في دلالة هذه الآية الكريمة، على الوحدانية أم على الإلهية؟ قولان:
الأول: أنها دالة على الوحدانية، وهو الذي ذهب إليه عامة المتكلمين، ولذلك ساقوا في هذا المقام دليل التمانع، وجعلوه كالتفسير للآية؛ لأن خلاصة دليل التمانع إثبات وحدانية الله في الخلق والإيجاد، فهذا الدليل قرروا به توحيد الربوبية؛ لأنه مُعَلَّقٌ بالقدرة على الفعل أوالعجز، وجعلوا الآية الكريمة دليلا على ماساقوه من هذا الدليل.
مع أن هذا الدليل في ذاته مستقيم، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ورد على من خالفه
(3)
، إلا أنه ناقش في دلالته على الربوبية
(4)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 374
(2)
الواحدي: التفسير الوسيط:3/ 233.
(3)
ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل:9/ 354.
(4)
ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم:2/ 846.
وكذا ذهب إلى هذا المعنى بعض المفسرين، وجعلوا المراد من الفساد: اختلال نظام المخلوقات، ومن ذهب لهذا، الإمام السمعاني، فقد قال: ومعنى الفساد في السماء والأرض، إذا كان الإله اثنين، هو فساد التدبير، وعدم انتظام الأمر، بوقوع المنازعة والمضادة، وهو أيضا معنى قوله تعالى:" وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ "(المؤمنون 91)
(1)
.
ومما يدل على اختياره هذا، هو أن هذه الآية مسوقة لبيان وحدانية الله تعالى، هو تفسيره لقوله جل وعلا:" قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا"(الإسراء 42)، فقد نقل فيها قولان، ثم قال:" والآخر وهو الأصح: إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا بالمفازة والمغالبة وطلب الملك، وهذا مثل قوله تعالى:" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا " "
(2)
.
الثاني: أن الآية دالة على توحيد العبادة أصالة، وإنما تدل على الربوبية من جهة التضمن، وبهذا المعنى فسر الآية الإمام الطبري فقال:" لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لهم العبادة سوى الله، الذي هو خالق الأشياء، وله العبادة والألوهية التي لا تصلح إلا له، لفسدتا، يقول: لفسد أهل السماوات والأرض "
(3)
،وإلى هذا ذهب الإمام ابن تيمية، وفيها يقول:" في هذه الآية بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشيء عن عبادة ماسوى الله تعالى؛ لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته، من جهة غاية أفعالهم، ونهاية حركاتهم، وما سوى الله لا يصلح، فلو كان فيهما معبود غيره، لفسدتا من هذه الجهة "
(4)
.
واستدل هؤلاء كما يقول شارح الطحاوية، بأن الله جل وعلا، أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل أرباباً
(5)
، فدل على الفرق لتباين المقصود، والمراد من اللفظين المدلولين. والفرق بين القولين:
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 374.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 243.
(3)
الطبري: جامع البيان:18/ 425 ..
(4)
ابن تيمية: منهاج السنة النبوية:3/ 334.
(5)
ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية، وزارة الشؤون الإسلامية، ط 1، 1418 هـ.
أن أصحاب القول الأول جعلوا الآية إنما سيقت أصالة في إثبات وحدانية الرب وتفرده بالربوبية والتدبير، ثم هي تدل بدلالة اللزوم على استحقاق الرب جل وعلا للعبادة وحده دونما سواه.
وأن أصحاب القول الثاني: فقد جعلوا الآية سيقت أصالة في إثبات توحيد العبادة، ثم هي تدل بدلالة التضمن على وحدانية الرب جل وعلا.
وترتب عليه الفرق في معنى الفساد:
فعلى القول الأول: يصير معنى الفساد المذكور في الآية هو اختلال النظام بوقوع المنازعة والمضادة.
وعلى القول الثاني: يصير معنى الفساد هو الفساد المعنوي المناقض للصلاح، المتعلق بأفعال العباد وأحوالهم، ولا صلاح لنظام الكون إلا بالحق والعدل والتوحيد، فلو كانت هناك آلهة تعبد بحق؛ لأصبح الشرك عدلاً، والكفر صلاحاً، وهذا من أعظم الفساد
(1)
.
والخلاف في هذه الآية كالخلاف في آيةالإسراء (42):" قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا"فقد ذكر السمعاني في معناها قولبن:
أحدهما: إذن لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا بالتقرب إليه، والآخر: إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا بالمفازة والمغالبة وطلب الملك، وقال السمعاني:" وهو الأصح "
(2)
.
وقد ذهب إلى القول الأول: الذي يدل على أن المقصود من الآية، الدلالة على توحيد الإلهية، الإمام الطبري
(3)
، ورجحه الإمام ابن تيمية
(4)
.
في حين ذهب أكثر المفسرين إلى القول الثاني: القاضي بأن الآية سيقت لاستحقاق
الوحدانية، وهذا المنقول عن جماعة من السلف
(5)
،، ولعل الأقرب والله أعلم هو أن سياق الآيتين ومقصودهما الأساس في توحيد العبادة مع تضمنهما لتوحيد الربوبية لما سبق ذكره.
الجهة الثانية: الاستدلال بنقص الآلهة الباطلة وعجزها عن استحقاق الألوهية:
وهذه الدلالة جاءت على عدة صور:
الأولى: نقصها من جهة الكمال الذي يتصف به الإله:
(1)
ينظر: عبدالله القرني: المعرفة في الإسلام 533 - 539، السلمي: حقيقة التوحيد:218 - 225 - 232.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 243.
(3)
الطبري: جامع البيان:17/ 454.
(4)
ابن تيمية: منهاج السنة النبوية:3/ 304 - 334.
(5)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن:10/ 265.
ولذا فإن القرآن أبان عوار هذه المعبودات، وسقوطها عن درجة الحق فضلا عن الاستحقاق للعبودية، وجاء هذا بينا في هذه النصوص الشريفة:
يقول الله تعالى: حاكيا قصة عبادة بني اسرائيل للعجل:" أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَايُكَلِّمُهُمْ
وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا " (طه 148)، يقول السمعاني: " وهذا دليل على أن الله متكلم، لم يزل ولا يزال؛ لأنه استدل بعدم الكلام من العجل على نفي الإلهية." وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا " أي: طريقا،" اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ" بوضع الإلهية في غير موضعها "
(1)
.
وفي قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه حين خرجوا إلى عيد لهم، فلما خرجوا وبقي إبراهيم وحده عمد إلى بيت أصنامهم ودخله، وكان الطعام موضوعا بين أيديهم، فقال:" أَلَا تَأْكُلُونَ" هذا على طريقة الإنكار على المشركين؛ لأنهم كانوا قدموا الطعام إليهم ليأكلوا، فقال:
…
" مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ"أي: لا تتكلمون، وهذا أيضا مذكور على طريقة الإنكار، فلما جاء قومه فرأوا من تكسير أصنامهم مأغاظهم، وجيء بإبراهيم فسألوه عن هذه الفعلة، فقال:" أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ"(الصافات 95 - 96) أي من هذه الأصنام، فإذا كان الله خلقها فلا يصلح أن تتخذوها آلهة
(2)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:2/ 217.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:4/ 405.
وقال في مقام آخر:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ"(الأنبياء 63 - 65) فلما أقروا ورجعوا إلى فكرهم وعقولهم، وعرفوا أن عبادة الأصنام لاتدفع عن نفسها فضلاً عن غيرها، ثم اعترفوا بعجز الآلهة المزعومة، بأنها لاتنطق فكيف نسألهم، حينها قال لهم إبراهيم" أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا
يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (الأنبياء 66 - 67)
(1)
.
وفي مقام آخر يبين لقومه عن حقيقة الأصنام وضعفها وعدم نفعها، قال تعالى:" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ"(الشعراء 69 - 74)، إذن أقروا واعترفوا بعجز هذه الأصنام، يقول السمعاني: معناه: أنها لاتسمع أقوالنا، ولا تجلب إلينا نفعا، ولا تدفع عنا ضرا، لكن اقتدينا بآبائنا
(2)
.
وفي هذا دلالة واضحة بينة على أن الإله الذي يستحق أن يعبد هو من اتصف بصفات الكمال، من الإيجاد والإمداد والإعداد، يقول تعالى:" أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ"(الأنبياء 21)، يقول السمعاني:" أي: يحيون، ولا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم؛ لأنه الإنعام بأبلغ وجوه النعم، وهذا لايليق بوصف البشر وكل محدث"
(3)
.
الثانية: بيان عجزها وعدم استحقاقها للألوهية من جهة إفلاسها التام عن التصرف في الكون، أو نصرة معبوديها:
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 388 - 389.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:4/ 52.
(3)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 373.
معلوم أن الأصنام والمعبودات الباطلة، لا تشفع ولا تدفع، ولا تضر ولا تنفع. وقد ذكر القرآن الكريم هذه الجهات التي ربما تعلق بها العابدون، فطمستها وأظهرت عوارها.
قال الله تعالى:" قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍا"(سبأ 22)، فالله جل وعلا نفى عن هذه المعبودات الملك، فقال:" لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ"أي: لاتملك وزن ذرة من النفع والضر، والذرة هي النملة الحمراء
(1)
، ونفى الشركة فقال:" وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ"أي: مال للآلهة التي تدعون من دون الله شركة في السموات والأرض
(2)
، ونفى المعين فقال:" وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍا" أي معين.
ولذا يقول الإمام ابن القيم: "فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدت بها عليهم الباب، أبلغ سد وأحكمه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود؛ لما يرجوا من نفعه، وإلا فلو كان لايرجوا منفعة منه فلا يتعلق قلبه به أبدا، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود إما مالكاً للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو شريكاً لمالكها، أو ظهيرا أو وزيراً أو معاونا له، أو وجيها ذا حرمة وقدر، يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده "
(3)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:4/ 330.
(2)
السمعاني: تفسير القران:4/ 331.
(3)
ابن القيم: التفسير القيم:435.
وقال الله جل وعز:" قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"(الأحقاف 4)، يقول الإمام السمعاني:"ومعناه: أنه ليس لهم شرك لا في خلق الأرض ولا في خلق السماء: أي نصيب، فكيف تُعبد مع الله؟ "
(1)
، ولذا عقب جل وعلا على المشركين بقوله:" وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ"(الأحقاف 5)، فهذه الأصنام لا يسمعون دعاءَهم وإن دعوا، فالمراد: كيف يعبدون الأصنام، ولو دعوهم لم يستجيبوا لهم، ولم يسمعوا كلامهم
(2)
وقال جل وعلا:" قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا"(الإسراء 56)، يقول السمعاني مبيناً وجه دلالة نقص هذه الآلهة وعجزها وعدم استحقاقها لوصف الإلهية: "روي أن المشركين لما قحطوا حتى أكلوا الجياف والكلاب استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
(3)
، ثم قال:"لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ"أي كشف الجوع والقحط عنكم،"وَلَا تَحْوِيلًا"أي: لايملكون نقل الحال، وتحويلا من السقم إلى الصحة، ومن الجدب إلى الخصب، ومن العسر إلى اليسر "
(4)
، فأين هي من استحقاق الإلهية.
وقال جل وعلا:" أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ"(الأنبياء 43) فالآلهة الباطلة المزعومة، أحقر من أن تضر نفسها فتمنع عن نفسها، فضلا من أن تمنع عن معبوديها،" وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ" أي: يجاورون
(5)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:5/ 148.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:5/ 149.
(3)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 250.
(4)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 250.
(5)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 382.
ويقول جل وعلا موضحا هذا المعنى ومقررا إياه:" أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ"(الأعراف 191)،أي: الأصنام لايخلقون شيئا بل هم مخلوقون،" وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ"(الأعراف 192)،" إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ
أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (الأعراف 193).
…
يقول السمعاني: "فإن قال قائل: كيف تكون الأصنام عباد أمثالنا؟
…
والصحيح أنه في الأصنام، وهم عباد أمثال الناس في العبادة، وعبادتهم التسبيح، وللجمادات تسبيح كما نطق به الكتاب
(1)
…
"فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"وهذا لبيان عجزهم، ثم أكده يقول:" أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ"(الأعراف 195)
ثم بين الباري جل وعلا وجها آخر من أوجه عجزهم فقال:" وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ"(الأعراف 197)، وفي هذه الآية بين جل وعلا، عجز هذه الأصنام من جهات:
1 -
من جهة كونهم مربوبين مخلوقين ليس لهم من الأمر شيء.
2 -
ومن جهة أنهم مسخرون مذللون مسبحون لله تعالى.
3 -
ومن جهة عدم دفعهم عن أنفسهم فضلا عن غيرهم.
4_
ومن جهة فقدهم لآلات القدرة، إذ العابدون أكبر قدرة من المعبودين؛ لامتلاكهم لهذه الآلات والجوارح التي تكون بها القدرة.
وقال تعالى في مقام آخر:" وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ "(يس 74)،أي: تدفع عنهم العذاب، ثم قال سبحانه مبينا عجزها:" لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ"(يس 75)،أي: أي لاتستطيع الأصنام دفع العذاب عنهم
(2)
، ومع ذلك يحضرون يوم القيامة مع أصنامهم ويدخلونها سويا.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:2/ 241.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:4/ 388.
ويقول جل جلاله:" وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا"(مريم 8)،أي: منعة ومعنى المنعة: أنهم يمتنعون بها من العذاب، فقال جل وعلا:" كَلَّا "أي: ليس الأمر كما زعموا،" سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ"، والمعنى: أن الأصنام والملائكة يجحدون عبادتهم ويتبرؤون منهم
(1)
، كما قال تعالى:" وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ"(النحل 86)، وهذا من قول الأصنام للمشركين:" إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ" في أنا دعوناكم إلى عبادتنا، أو في قولكم: إن هؤلاء آلهة، أو في قولكم: إنا نستحق العبادة، ولذا قال تعالى:" وَأَلْقَوْا إِلَى
اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ " أي: استسلم العابد والمعبود لله " وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ" أي: بطل عنهم ماكانوا يكذبون، وحقيقة المعنى: أنه فات عنهم مازعموه، فإنه كان فرية وكذبا
(2)
، ومن هنا ختم الله سبحانه الآية السابقة بأن هذه المعبودات تنقلب ضدا على معبوديها كما قال:" وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا" قيل: بلاء، وقيل: أعداء
(3)
.
الجهة الثالثة: أن هذه المعبودات مع معبوديها في النار:
كما قال جل وعلا:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ"(الأنبياء 98) أي: داخلون، ثم يذكر جل وعلا وجه ضعفهم وعدم استحقاقهم للعبادة فيقول:" لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ"(الأنبياء 99).
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 312.
(2)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 194.
(3)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 313.
وما شأن المعبودات التي عبدت من دون الله وهي غير راضية كالملائكة والمسيح وعزير؟ فقد ذكر الله أنهم عنها مبعدون فقال:" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ"(الأنبياء 101)، وأن هؤلاء المشركون الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في شأن هذه المعبودات كانوا يعرفون أن المراد: الأصنام ولكن كما حكى الله عنهم:" مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ"(الزخرف 58)، قال السمعاني:"يعني أنهم قالوا ماقالوا، خصومة ومجادلة بالباطل، وإلا قد عرفوا أن المراد هم الأصنام"
(1)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 410.
وذكر السمعاني توجيها لبعض النحويين، أن هذه الآية خاصة بالأصنام فلا تشمل غيرهم من حيث العربية، فقال:"وزعم قطرب وجماعة من النحويين أن الآية ما تناولت إلا الأصنام من حيث العربية؛ لأن الله تعالى قال:" وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ" وهذا يقال فيما لايعقل، وأما فيما يعقل فيقال:"ومن تعبدون من دون الله" "
(1)
،وإلى هذا مال الطبري في تفسيره، فقال:" وليس الذين سبقت لهم منا الحسنى هم عنها مبعدون؛ لأنهم غير معنيين بقولنا:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ" "
(2)
، وبهذا رد الطبري قول من يقول:"إن " هنا بمعنى"إلا" إلاستثنائية
(3)
، فقال:"فأما قول الذين قالوا: ذلك استثناء من قوله" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ" فقول لامعنى له؛ لأن الاستثناء إنما هو إخراج المستثنى من المستثنى له، ولا شك أن الذين سبقت لهم منا الحسنى إنما هم إما ملائكة، وإما إنس أو جان، وكل هؤلاء إذا ذكرتها العرب فإن أكثر ماتذكرها بمن، لابما والله تعالى ذكره، إنما ذكر المعبودين الذين أخبر أنهم حصب جهنم بما قال:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ"إنما أريد به ماكانوا يعبدونه من الأصنام والآلهة من الحجارة والخشب لا من الملائكة والإنس "
(4)
.
الجهة الرابعة: أن هذه المعبودات من إفك الكفار وصنعهم:
يقول تعالى:"إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"(العنكبوت 17).
واختلف المفسرون في معنى قوله:" وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا "على قولين
(5)
:
الأول: أي وتصنعون كذبا وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 410.
(2)
الطبري: جامع البيان:18/ 540.
(3)
البغوي: معالم التنزيل:3/ 318.
(4)
الطبري: جامع البيان:18/ 540.
(5)
السمعاني: تفسير القرآن:4/ 173.
والثاني: أي وتنحتون إفكا، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة، بمعنى: أنكم تنحتون الأصنام بأيديكم وتعبدونها، وحُكى أن بني حنيفة اتخذوا صنما من الحيس-وهو التمر مع السمن-ثم إنه أصابتهم مجاعة فأكلوه، قال الشاعر:
أكلت حنيفة ربها
…
زمن التفحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم
…
سوء العواقب والتباعة
وعلى كلا القولين: هو بيان لعجز الآلهة المزعومة، فعلى القول الأول: أنهم صنعوا كذبا، ولذا سميت الأصنام إفكا؛ لأنهم سموها آلهة.
وعلى القول الثاني: كيف تعبدون أصناما تنحتونها بأيديكم.
الجهة الخامسة: بيان عجز الأصنام بضرب الأمثال:
وهذا في القرآن كثير: فقد ضرب الله تعالى المثل، ببطلان عبادة الأصنام واستحقاق الإلهية لله وحده لاشريك له، بأشياء كثيرة، كالذباب والعنكبوت، وبالأحرار والعبيد فقال سبحانه وتعالى:
1/" يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"(الحج 73).
بينت هذه الآية عجز الأصنام من جهتين:
الأولى: أنهم لو اجتمعوا برمتهم فهم أعجز وأحقر من أن يخلقوا ذبابا، فمن كان عاجزا عن خلق ذباب، فهو غير مستحق للعبادة، وإنما ذكر الذباب؛ لخسته ومهانته وضعفه
(1)
، فأراد أن يُعلمهم أن العبادة إنما تكون للخالق المُنشِيء، دون المخلوق المُنْشَأ
(2)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 456.
(2)
الماوردي: النكت والعيون:4/ 40.
الثانية: عجزهم عن استنقاد ما استلبه الذباب منهم من الطعام أو الطيب، ومن كان كذلك بحيث لا يستطيع دفع أذية أحقر الحيوانات وأضعفها، فهو غير جدير بالعبودية. ولذا قال جل وعز:" ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ" قال ابن عباس: الطالب: آلهتهم، والمطلوب: الذباب، إذن: فكيف يُجعل مثل في العبادة ويشرك فيها مع الله تعالى، ما لاقدرة له على خلق الذباب، ولا استنقاذ ماسلبته اياه، والشأن أن الله تعالى هو الخالق المالك المحيي المميت، الذي بيده مقاليد كل شيء، ولا شك في أن فاعل هذا في غاية الجهل، ولذا فهؤلاء لم يعظموا الله حين أشركوا معه غيره
(1)
.
2/" مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"(العنكبوت 41).
وهذا من أوضح البراهين، وأكبر الأدلة، على عدم استحقاق هذه الآلهة المزعومة للعبادة وإنما هي مستحقة لمن بيده الضر والنفع، والمنع والعطاء، فهؤلاء المشركون أضعف ماكانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء، فلم يستفيدوا منهم إلا ضعفا على ضعفهم، وكذا كل من تعزز بغير الله تعالى، لم يحصل مقصوده، وهذا من أحسن الأمثلة وأدلها على بطلان الشرك، وعلى خسران صاحبه
(2)
.
وقد بين الإمام السمعاني وجه هذا المثل، على بطلان استحقاق المعبودات للإلهية، فقال:"وإنما مثّل عبادة الأصنام ببيت العنكبوت؛ لأن بيت العنكبوت لايقي حرا ولا بردا، وكذلك عبادة الأصنام لاتجلب نفعا ولا تدفع ضرا،" وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"أي: لو كانوا يعلمون أن عبادة الأصنام لا تغني شيئا، كما علموا أن بيت العنكبوت لايدفع شيئا "
(3)
.
(1)
الطبري: جامع البيان:18/ 686 (بتصرف).
(2)
ابن القيم: التفسير القيم:428 (بتصرف).
(3)
السمعاني: تفسير القرآن:4/ 182.
3/ وقال تعالى:" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"(النحل 75)
فهنا ضرب الله جل وعلا المثل لنفسه وللصنم الذي عُبد من دون الله، فالعبد المملوك أراد به الصنم، وقوله:" ومَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا"ضرب مثلا لنفسه، على معنى أنه الجواد الرزاق الذي يعطي من حيث يعلمه العبد، ومن حيث لايعلمه، ومضمون هذا التفسير منقول عن مجاهد
(1)
.
وجه هذا المثل كما يقول الزجاج: " إن الاثنين المتساويين في الخلق، إذا كان أحدهما مقتدرا على الإنفاق مالكا، والآخر عاجزا لايقدر على أن ينفق لا يستويان، فكيف بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل، وبين الله عزوجل الذي هو على كل شيء قدير، وهو رازق جميع خلقه، فبين لهم أمر ضلالتهم، وبُعدهم عن الطريق في عبادتهم الأوثان "
(2)
.
ثم زاد الله عزوجل في البيان فقال:
4/" وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ
أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (النحل 76)، قال السمعاني: "والمراد من الآية ضرب مثلا آخر لنفسه وللأصنام، فالأول هو الصنم، والمراد من قوله:" وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ"هو الله تعالى،" وقوله:" عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"؛ لأن الله تعالى على طريق الحق وليس عنه معدل
(3)
، ومعنى هذا المثل:"هل يستوي القادر التام التمييز، والعاجز الذي لايحس ولا يأتي بخير، فكيف يسوون بين الله وبين الإحجار"
(4)
، ومضمون هذا التفسير منقول عن قتادة
(5)
.
(1)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 189، الماوردي: النكت والعيون: 3/ 204
(2)
الزجاج: معاني القرآن:3/ 213.
(3)
السمعاني: تفسير القرآن:3/ 190.
(4)
الزجاج: معاني القرآن:3/ 214.
(5)
الماوردي: النكت والعيون: 3/ 204.