الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالسابقون من المتكلمين حين فسروا توحيد الإلهية بالربوبية، وقالوا: الإله هو القادر على الاختراع، فجعلوا نوعي التوحيد المتلازمين نوعا واحدا، فتبعهم على هذا المتأخرون منهم؛ وحين حصروا مفهوم الإيمان في التصديق فقط مجردا عن القول والعمل، وأيدوا مذاهبهم الفاسدة ببعض الدلائل القرآنية والأحاديث النبوية، وردوا أن يكون شرك المشركين واقعا في الألوهية، وإنما هو في الربوبية، مخالفين بذلك ظواهر النصوص وإجماعات السلف = فقد أحدثوا شرخا عقائديا كبيرا في الأمة، وفسادا في التصور الصحيح، كانت آثاره السيئة بادية للعيان، ولذا قام السمعاني مقاما جليلا في الأمة، ذب عن جناب القرآن، وحَمى حِمى التوحيد، ورد على أمثال هؤلاء ردا مؤصلا، مستقى من نصوص الوحيين، مؤيدا بكلام السلف.
المطلب الرابع: مُدَّعو الربوبية، وأقوال الناس في الرب سبحانه وتعالى:
المسألة الأولى: مُدَّعو الربوبية:
تبيَّن مما سبق، أن توحيد الربوبية توحيد فطري، مغروس في النفس، " بل القلوب مفطورة على الإقرار به، أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات ".
(1)
وحتى البهائم مفطورة على معرفة خالقها، فقد نقل الإمام السمعاني عن بعض الناس قولهم:" ورُوي عن ابن سابط أنه قال: أُبهمت البهائم إلا عن أربع: تعرف خالقها، وتطلب رزقها، وتدفع عن نفسها، وتعرف كيف تأتي أنثاه ".
(2)
ولما كان هذا النوع من التوحيد فطرياً، " لم يُعرف عن أحد من طوائف العالم أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال ".
(3)
(1)
((ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية: 28
(2)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 334
(3)
((ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية: 29
ومن نُقل عنه أنه أدعى الربوبية، فهو يعلم حقارة نفسه، وضعفه في ذاته وصفاته، وميله إلى من يُقيم له حاجاته، ويُؤمن له رغباته، وهذا يُبين حقيقة مدعيي الربوبية؛ ففرعون الذي أدَّعى الربوبية، وتلَبَّس بالألوهية، كان يعبد بقرة، فقد نقل السمعاني في تفسيره عن سليمان التيمي
(1)
، أن فرعون كان يعبد البقر، ونقل عن السُّدي
(2)
: أنه اتخذ أصناماً، وقال لقومه: هذه آلهتكم، وإنا إله الآلهة، ونقل عن الحسن: أن فرعون كان قد عَلَّق صليباً على عنقه، كان يعبده.
(3)
وقد ظهرت مواطن الضعف والهزيمة في حياة فرعون، حكاها القرآن، وبيَّنها أكبر بيان؛ لتكون رداً مفحماً لكل من تجاسر على خصائص الرب، وتعالى على الإله. فأظهرت هذه المواطن شدة الضعف، والرهبة والخوف، التي تنافي دعوى الربوبية، فدَلَّت على عدم استحقاقه لما زعم.
(1)
((سليمان التيمي: الإمام شيخ الإسلام، ثقة، من خيار أهل البصرة، كان من العباد المجتهدين، كثير الحديث، م الحفاظ، توفي بالبصرة سنة 143 هـ. الذهبي: سير أعلام النبلاء، دار الحديث، القاهرة، 1427 هـ (6/ 323)
(2)
((السُّدي: إسماعيل بن عبدالرحمن، تابعي، حجازي الأصل، سكن الكوفة، صاحب التفسير والمغازي والسير، توفي سنة 128 هـ. الزركلي: الأعلام: 1/ 317.
(3)
((السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 206
أولى تلك المواطن، قوله تعالى حكاية عنه:" وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) "(القصص 38)، وقوله جل وعلا:" وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا "(غافر 36 - 37): معلوم أن الإله الحق، كامل الصفات، عالم بما كان وبما سيكون، لا يخفى عليه شيء، ولذا هُنا عَبَّر فرعون بلفظ الظن، الذي محتواه شك ووهم، ويتنزه عنه الإله، فلو كان فرعون إلها حقاً، لعلم علماً يقينياً، ولكن هذا شأن الدجالين، الذين تقوم عقائدهم على التخيل الفاسد. وكذا لما لم يقطع بالنفي، دَلَّ على جهله المطبق الذي يتنزه عنه الإله الحق المبين.
والموطن الثاني: قوله تعالى: " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) "(غافر 26): هنا يُظهر فرعون الدَّعي، مكنون ضعفه، وشدة عجزه، وخوفه وإشفاقه، من أن يبدل موسى دينه، أو أن يظهر في الأرض الفساد على زعمه. ألست تزعم أنك رب وإله! فلِمَ الخوف والخشية، والحيطة والحذر، لذا حكى الله جل وعز عنه قوله:" فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) "(الشعراء 53 - 56): يقول الرازي: " والغرض من هذه المعاذير، أن لا يتوهم أهل المدائن، أنه منكسر من قوم موسى، أو خائف منهم "
(1)
، والحال أنه متناقض في نفسه، ففيه ما يناقض دعواه.
(1)
((الرازي: مفاتيح الغيب: 24/ 506
فقد نقل السمعاني في تفسيره عن سعيد بن جبير أنه قال: كان موسى يخاف من فرعون خوفاً شديداً، وكان إذا دخل عليه قال: اللهم إني أعوذ بك من شره، وأدرأك في نحره، فحول الله تعالى ذلك الخوف إلى فرعون، فكان إذا رأى موسى بال في ثيابه كما يبول الحمار.
(1)
والموطن الثالث: قوله تعالى: " حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) "(يونس 90): هنا أصابت فرعون الطاغية، الساعة الرهيبة، واللحظة العصيبة، التي لا مفر منها ولا مهرب، فقد ألجمه الماء وأغرقه، وبلغه الموت وأهلكه. مع أنه قد حملته العزة في أول الأمر، على تقحم البحر على إثر موسى وقومه، ولما تحقق الهلاك، عرف حقارة نفسه، وسفاهة أمره، والتجأ بعد انتهاء المهلة، وانقضاء الفرصة، فظهر عدم استحقاقه لما زعم.
وممن يدَّعي الربوبية، المسيح الدجال حين يخرج في آخر الزمان، لكن هل ورد ذكر الدجال في القرآن أم لم يرد؟
قيل: إنه مذكور في قوله تعالى: " لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ "(غافر 57)، وقد ورد عن أبي العالية
(2)
، أنه قال:" أي: أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود ".
(3)
(1)
((السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 332
(2)
((أبو العالية: رفيع بن مهران، الإمام، المقرئ، الحافظ، المفسر، أحد الأعلام، مات سنة 90 هـ. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 5/ 120
(3)
((القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط 2، 1384 هـ، (15/ 325)