الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: منهجه في دراسة العقيدة:
المطلب الأول: المنهج العام في دراسة مسائل العقيدة:
المتتبع لمسار الإمام السمعاني العلمي والمنهجي في تعاطيه لمسائل العقيدة، دراسة وتأصيلا وتقعيدا، يلمح المنهج الفريد الذي تميز به، والنَفَس العالي الذي تمتع به، ويدرك معنى الشمول الذي ظهر في شخصيته، خاصة في زمنه الذي ظهرت فيه البدع واحتدت، وعلت فيه المقالات المخالفة واشتدت. والسمعاني لم يكن وحيدا في هذا الباب، بل هو تطور طبيعي لسلسة النقد العلمي البناء المنصب على مقالات المخالفين، فهو يسير في ركاب العلماء الذين سبقوه، ملتمسا منهم الأصول العامة للمنهجية المنضبطة التي يحصل بها التعاطي مع مسائل المعتقد، بعيدا عن الأهواء والانحرافات التي أصابت الفكر في مقتل، ولذا كان السمعاني مجتهدا، مع كثرة أقرانه، ووفرة إخوانه.
وكانت لرحلات السمعاني المتعددة في الأمصار، ولقياه بأهل العلم المتخصصين في جميع الفنون، الأثر البالغ في تكوين الشخصية العلمية لديه، والتي ظهرت من خلال تبنيه لمنهج السلف - المستقى من نصوص القرآن والسنة - وتقرير قواعده، وتأصيل مسائله، والمنافحة عنه، ومجابهة مخالفيه والرد عليهم. وهذا يظهر جليا لكل من نظر في كتبه ومصنفاته، خاصة ما كتبه في تفسير القرآن الكريم، والذي كان أرضا خصبة لتقرير المنهج السلفي على ضوء النص القرآني، وهو كذلك الذي أعطى السمعاني سعة للتأكيد على المعتقد الصحيح كلما حلت مناسبة، أو سنحت فرصة.
وأما الإطار العام الذي سار عليه الإمام السمعاني في دراسة مسائل العقيدة، فهو يدور حول عدة مرتكزات، علما أن المنهج العام الذي تمحورت فيه شخصية السمعاني في هذا الباب، ظهرت من جهتين: من جهة التأصيل والبيان، ومن جهة الرد والتفنيد للشبهات.
والمرتكزات العامة التي سار عليها السمعاني في دراسة العقيدة تقوم على ما يلي:
أولا: ضبط منهج السلف: وهذا يظهر جليا في تقريراته لمسائل المعتقد وغيرها، فكان يدور في فلكهم، وكانت المسائل الكبرى والأصول العامة مقررة على طريقتهم، وبنظرة سريعة في المسائل التي بثها في تقرير أصول الإيمان الستة، تظهر ملامح ضبطه للمنهج السلفي.
والضبط للمنهج السلفي عند السمعاني يقوم على أمرين: ضبط حروفهم وألفاظهم في تأصيل المسائل والرد على المخالفين، والتعبير عنها بأسلوبه الخاص، وضبط أصول الاستدلال لديهم.
ومن الأمثلة الظاهرة على الأمر الأول من جهة التأصيل:
- في ضبط باب الصفات الإلهية يقول مقررا منهج السلف: وهو كما وصف به نفسه من غير تكييف.
(1)
- وفي ضبط باب الإيمان يقول: والإيمان في الشريعة يشتمل على الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان.
(2)
- وفي ضبط باب القدر يقول عن ركن المشيئة: رد مشيئتهم إلى مشيئته، والمعنى: لا يريدون إلا بإرادة الله، وهو موافق لعقائد أهل السنة، أنه لا يفعل أحد شيئا، ولا يختاره، ولا يشاؤه، إلا بمشيئة الله.
(3)
ومن الأمثلة الظاهرة على الأمر الأول من جهة الرد والتفنيد:
- رده على الاعتقاد الفاسد في الكواكب الذي كان شائعا عند المنجمين، فقال عند تفسير قوله تعالى:(الجوار الكنس)(التكوير 16): وهذه الكواكب هي التي يسميها المنجمون المتحيرة، وقد تفردت، حيث تسير بخلاف سائر الكواكب
…
ويحيلون عليها الأفعال في العالم، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا الاعتقاد، ونحيل الجميع على الله تعالى.
(4)
- ورده على المعتزلة في نفيهم الصفات، فقال في تفسير قوله تعالى:(أنزله بعلمه)(النساء 166): فيه دليل على أن لله علما، هو صفته، خلاف قول المعتزلة خذلهم الله.
(5)
- وفي رده على القدرية في باب القضاء والقدر، قال عند تفسير قوله تعالى:(لا يُسئل عما يفعل وهم يُسألون)(الأنبياء 23): وفي الآية رد على القدرية، وقطع شبهتهم بالكلية.
(6)
وأما الأمر الآخر فهو ظاهر جلي من جهة استدلاله بالنصوص، وبناء الأحكام عليها.
ثانيا: التزامه بمذهب السلف وتعظيمه: وهذا يظهر من عدة جهات:
(1)
- السمعاني: نفسير القرآن: 3/ 177
(2)
- مرجع سابق: 1/ 43
(3)
- مرجع سابق: 6/ 124
(4)
- مرجع سابق: 6/ 169
(5)
- مرجع سابق: 1/ 504
(6)
- مرجع سابق: 3/ 374
1 -
تصريحه بالتزام مذهب السلف: فقد ذكر في ثنايا حديثه ورده على القائلين: بأن أول واجب على الإنسان النظر: وقد ذكرنا في كتاب الانتصار لأصحاب الحديث، واخترنا طريقة السلف وما كانوا عليه في هذا الباب، ونقلنا عن عامة الأئمة ما يوافق ما اخترناه وذكرناه.
(1)
2 -
حثه وتحضيضه على التزام مذهب السلف واتباعه: فقال في معرض رده على المتكلمين: فعلى الطريقة التي ذكرتها، ينبغي أن يتكلم المسلم ويعتمد علاه، ولا يغتر بزخارف القول، وليتبع طريقة السلف الصالح والأئمة المرضية، من الصحابة ومنهج التابعين بإحسان؛ لبيان السعادة العظمى، ويصل إلى الطريقة المثلى
(2)
، وقال: وشعار أهل السنة: اتباعهم السلف الصالح، وتركهم كل ما هو مبتدع محدث
(3)
، وقال: فتبين لنا أن الطريق عند الأئمة الهادية: اتباع السلف والاقتداء بهم، دون الرجوع إلى الآراء
(4)
3 -
جزمه بمذهب السلف مذهب أهل السنة والجماعة، ونصرته له؛ كقوله مثلا: واعلم أن الرؤية حق على مذهب أهل السنة
(5)
، وكثيرا ما تجد أمثال هذه العبارات في كلام السمعاني:(والمختار ما عليه السلف - وقد كان السلف - وهو المنقول عن السلف - وعن كثير من السلف - وعن بعض السلف - هو الأولى والأقرب بمذهب السلف - واختلف السلف - وهذا القول مأثور عن السلف) وغيرها من العبارات التي تدل على أمرين:
أولا: سعة علمه بمذهب السلف، وهذا ظاهر في كلامه وتقريره لمذهبهم، وكثيرا ما يُشير إلى هذه الألفاظ:(السلف، وأهل السنة) مع أن كلامه لا يخلو من نقولات مستفيضة عن أئمة السلف، وهذا بدوره يُربي طالب العلم على احترام مذاهب السلف، والحرص عليها، والنهل منها؛ لأنها تحوي العلم الصحيح المؤصل. وثانيا: تقديم مذهب السلف على غيره، والانتصار له.
(1)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 2/ 68
(2)
- مرجع سابق: 2/ 348
(3)
- السمعاني: الانتصار: 31
(4)
- مرجع سابق: 10
(5)
- السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 132
4 -
ثناؤه العاطر على جهود علماء أهل السنة والجماعة، ومن ذلك قوله بعد بيان تهافت القول بالصرفة: ولا يحتمل هذا الموضوع بيان وجوه الإعجاز في القرآن، وقد كفينا مؤنة ذلك بحمد الله بمنه، وأعني بذلك جماعة من علماء أهل السنة، والله يشكر سعيهم، ويرحمهم وإيانا بمنه
(1)
.
ثالثا: المنهج المعرفي للسمعاني: يقوم على الوحي، فهو يُقر أصالة بدلالة الوحي، وأنها مصدر المعارف الصحيحة المتعلقة بالغيبيات وغيرها، ولذا كان من الطبيعي أن يكون السمعاني معظما للنصوص، مُسلِّما لها، لا يتعرض لها برد ولا بتأويل فاسد، ولا يُعارضها بهوى أو عقل أو ذوق أو قياس، يقول في بيان ذلك: واعلم أن الخطة الفاصلة بيننا وبين كل مخالف، أننا نجعل أصل مذهبنا الكتاب والسنة، ونستخرج ما نستخرج منهما، ونبني ما سواهما عليهما، ولا نرى لأنفسنا التسلط على أصول الشرع حتى نقيمها على ما يوافق رأينا وخواطرنا وهواجسنا، بل نطلب المعاني، فإن وجدناها على موافقة الأصول من الكتاب والسنة، أخذنا بذلك وحمدنا الله تعالى على ذلك. وإن زاغ بنا زائغ، ضعفنا عن سواء صراط السنة، ورأينا أنفسنا قد ركبت البنيان، وبركت الجدد، اتهمنا آراءنا، فرجعنا بالآية على نفوسنا، واعترفنا بالعجز، وأمسكنا عنان العقل؛ لئلا يتورط بنا في المهالك والمهاوي، ولا يعرضنا للمعاطب والمتالف، وسلمنا الكتاب والسنة عليها، وأعطينا المقادة، وطلبنا السلامة، وعرفنا أن قول سلفنا من أن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم
(2)
.
رابعا: سعة علمه بمقالات المخالفين: وهذه السعة أكسبته معرفة دقيقة بالشبه التي عولوا عليها للاستدلال لمذاهبهم، وتمرير أفكارهم، استطاع السمعاني من خلالها الرد على هذه الشبه وتفنيدها، وقد محا قلم السمعاني كثيرا من شبه المتكلمين من المعتزلة القدرية وغيرهم.
(1)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 30
(2)
- السمعاني: قواطع الأدلة: 1/ 370
خامسا: وضوحه في بيان المعتقد الصحيح والاستدلال عليه: وهذا ظاهر في صنيعه في جميع أبواب العقائد، فتجده يقرر المعتقد الصحيح المبني على الدلالات البينة الواضحة بأسهل عبارة؛ فمثلا فيما يتعلق بالاستدلال بالمخلوقات على وحدانية الله تعالى، يقول السمعاني في تفسير قوله تعالى:(ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق)(إبراهيم 19): معنى خلق السموات والأرض بالحق: ما نصب فيها من الدلائل على وحدانيته وسائر صفاته
(1)
، ويقول في تقرير مذهب السلف في باب الصفات الإلهية، في صفة الاستواء لله تعالى مثلا: وأما أهل السنة فيتبرؤون من هذا التأويل، ويقولون: إن الاستواء على العرش صفة لله تعالى، بلا كيف
(2)
، وهذه مجرد نماذج تُبين مدى وضوح السمعاني في بيانه لمسائل العقائد.
سادسا: بُعده التام عن قواعد المتكلمين وقوانينهم: وهذا يظهر جليا في التنفير منها، والتحذير من خطورتها، ومن ذلك قوله: وإياك - رحمك الله - أن تشتغل بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض
(3)
.
سابعا: مباينته لمناهج أهل الأهواء والبدع، وطرائقهم في الاستدلال: فأهل البدع يُقدسون العقل، ويجعلونه ميزانا للقبول والرد، ويستحدثون أصولا جديدة للاستدلال، وطرائق محدثة للاستنباط، يحرفون بها النصوص، ويتأولونها لغير مراداتها، مما ينتج عنه خلل في الفهم، وخطأ في التطبيق، وانحراف في التأصيل.
(1)
- السمعاني: تفسير القرآن: 3/ 110
(2)
- مرجع سابق: 2/ 188
(3)
- السمعاني: الانتصار: 71
ثامنا: ميله في الغالب لقول الجمهور: ففي الغالب يميل السمعاني في المسائل العقائدية التي جرى فيها خلاف إلى قول جمهورهم، فمثلا: في مسألة التوبة من القتل العمد، حين حكى خلاف السلف فيه، رجح قول أكثرهم، فقال: والأصح، والذي عليه الأكثرون، وهو مذهب أهل السنة: أن لقاتل المؤمن عمدا توبة
(1)
، ومثله: حين ذكر الخلاف في حقيقة تكلم النار، في قوله تعالى:(وتقول هل من مزيد)(ق 30)، فقال: والأصح أن هذا النطق من جهنم على طريق الحقيقة، وهذا اللائق بمذهب أهل السنة في الإيمان بتسبيح الجمادات
(2)
.
تاسعا: عدم الإغراق في الردود: فالمتتبع لأسلوب السمعاني يجد أنه يكتفي في الردود في باب العقائد، بأقربها إلى الفهم وأيسرها وأوضحها، ولا تكاد تجده يُغرق في هذا الباب، بل يكتفي بنقض قول المخالف بأقرب عبارة. وهذا يُبين أسلوب السمعاني التصنيفي في هذا الباب؛ فأسلوبه في باب التقرير، يختلف عن أسلوبه في باب الرد والتفنيد، ففي تقرير المسائل العقائدية يُسهب غالبا في إيراد الأقوال والأدلة، وأوجه الاستدلال، في حين يُوجز في الرد على شبهات المخالفين على الأغلب من شأنه، ما لم يقتض الأمر إسهابا.
عاشرا: الاحتجاج بالسنة في باب العقائد مطلقا، متواترها وآحادها، وقد نافح السمعاني بشدة في كتابيه الانتصار والقواطع عن حجية خبر الواحد، وأنه يفيد العلم، وقال عند تفسير قوله تعالى:(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(التوبة 122): واستدل أهل الأصول بهذه على وجوب قبول خبر الواحد، والمسألة في الأصول كبيرة
(3)
، وقال في الانتصار: إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الثقات والأئمة، وأسنده خَلَفَهم عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يُوجب العلم فيما سبيله العلم
(4)
.
(1)
- السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 463
(2)
- مرجع سابق: 5/ 245
(3)
- مرجع سابق: 2/ 360
(4)
- السمعاني: الانتصار: 34، وانظر: قواطع الأدلة: 1/ 332